الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في خاتمة كتابه الإغاثة: فصل: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم: فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا، وقال: " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل. قلت: وسنذكر الأحاديث المسندة في ذلك قريبا إن شاء الله تعالى. قال: فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد، ولم يضرهم ذلك شيئا، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين، وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم، وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجا وقربانا، ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا، فمنها بيت على رأس جبل بأصبهان كانت به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس وجعله بيت نار. ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء بناه بعض المشركين على اسم الزهرة فخربه عثمان رضي الله عنه، ومنها بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فرغانة فخربه المعتصم، وأشد الأمم في هذا النوع من الشرك الهند. قال يحيى بن بشر: إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن ووضع لهم أصناما، وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند، وجعل فيه صنمهم الأعظم وزعم أنه بصورة الهيولي الأكبر، وفتحت هذه المدينة في أيام الحجاج، واسمها الملتان. إلى أن قال رحمه الله: وأصل هذا المذهب منهم مشركي الصابئة وهم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعمله، وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه. وهذا مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى، فمنهم عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل، وهي أصل نور القمر والكواكب، وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها، وهي عندهم ملك الفلك يستحق التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهر على نوع النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع، وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم، ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعون ويستسقون به، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم، وإذا غربت، وإذا توسطت الفلك، ولهذا يقارفها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة؛ لتقع عبادتهم وسجودهم له، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات؛ قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا، وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام. قلت: وقد ذكر الله عز وجل عبادة الشمس عن أهل سبأ من أرض اليمن في عهد بلقيس، كما حكى قول الهدهد حيث قال: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) (النمل: 24) إلى آخر الآيات. وهداها الله تعالى إلى الإسلام على يد نبيه سليمان عليه السلام، حيث قال: (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) (النمل: 44). ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فصل) وطائفة أخري اتخذت للقمر صنما وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي، ومن شريعة عباده، أنهم اتخذوا لهم صنما على شكل عجل، ويجره أربعة، وبيد الصنم جوهرة، ويعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه. ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صور الكواكب وروحانياتها بزعمهم، وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وصنم يخصه وعبادة تخصه، ومتي أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب " السر المكتوم في مخاطبة النجوم " المنسوب لابن خطيب الري تعرف عبادة الأصنام وكيفية تلك العبادة وشرائطها، وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام، فإنهم لا تستمر لهم طريق إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه، ومن هنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورها، فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب، فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه، وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده. ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات عنهم وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشيطان، فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب، وعقلاؤهم يقولون: إن تلك روحانيات الأصنام. وبعضهم يقول: إنها الملائكة. وبعضهم يقول: إنها هي العقول المجردة. وبعضهم يقول: هي روحانيات الأجرام العلوية. وكثير منهم لا يسأل عما عهد، بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلها، ولا يسأل عما وراء ذلك. وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة إبراهيم عليه السلام وعبادتها في الأرض من قبل نوح عليه السلام كما تقدم، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في شرائح عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) (إبراهيم: 35- 36) والأمم التي أهلكها الله تعالى بأنواع الهلاك كلهم يعبدون الأصنام، كما قص الله عز وجل ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين. ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وقد قال الله تعالى: (فأبي أكثر الناس إلا كفورا) (الإسراء: 89) وقال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام: 116) وقال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (يوسف: 103) وقال تعالى: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) (الأعراف: 102). ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها، وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها وما حل بهم من عاجل العقوبات ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها. ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور وفتنة الفجور بها، والعاشق لا يثنيه عن مراده خشية عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات والضرب والحبس والنكال والفقر، غير ما أعد الله له في الآخرة وفي البرزخ، ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته، فهكذا الفتنه بعبادة الأصنام وأشد، فإن تأله القلوب لها أعظم من تألهها للصور التي يريد منها الفاحشة بكثير. والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله، وأنهم أعداء الله وأعداء رسله، وأنهم أولياء الشيطان وعباده، وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها، وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات، وأن الله سبحانه بريء منهم هو وجميع رسله وملائكته، وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل لهم عملا، وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف، وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء وأموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأمرهم بتطهير الأرض منهم حيث وجدوا، وذمهم بسائر أنواع الذم وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة، فهؤلاء في شق ورسل الله في شق. ثم قال رحمه الله تعالى:
ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعلوا فيه حظا من الإلهية بالله تعالى، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله، فهو سبحانه ينفي وينهى أن يجعل غيره مثلا له وندا وشبها له، لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الآمم أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم، وإنما الأول هو المعروف في طوائف أهل الشرك غلوا في من يعظمونه ويحبونه حتى شبهوه بالخالق وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا: اصبروا على آلهتكم، وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف ويعظم ويسجد له ويحلف باسمه ويقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى. ثم ذكر رحمه الله تعالى في ذلك بحثا نفسيا فأجاد وأفاد، ثم ذكر باقي طوائف المشركين من عباد النار والماء والحيوانات والملائكة وغيرهم من الثنوية والدهرية والفلاسفة، وذكر من أوضاع شرائعهم الباطلة وأصولها وكيفية عبادتهم لما ألهوه، ونقض ذلك عليهم أتم نقض، تغمده الله برحمته.
والمقصود أن أكثر شرك الأمم التي بعث الله إليها رسله وأنزل كتبه غالبهم إنما أشرك في الإلهية، ولم يذكر جحود الصانع إلا عن الدهرية والثنوية، وأما غيرهم ممن جحدها عنادا كفرعون ونمرود وأضرابهم، فهو مقرون بالربوبية باطنا كما قدمنا، وقال الله عز وجل عنهم: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما) (النمل: 14) وبقية المشركين يقروون بالربوبية باطنا وظاهرا، كما صرح بذلك القرآن فيما قدمنا من الآيات وغيرها، مع أن الشرك في الربوبية لازم لهم من جهة إشراكهم في الإلهية وكذا في الأسماء والصفات، إذ أنواع التوحيد متلازمة لا ينفك نوع منها عن الآخر، وهكذا أضدادها، فمن ضاد نوعا من أنواع التوحيد بشيء من الشرك فقد أشرك في الباقي، مثال ذلك في هذا الزمن: عباد القبور إذا قال أحدهم: يا شيخ فلان- لذلك المقبور- أغثني، أو افعل لي كذا ونحو ذلك، يناديه من مسافة بعيدة وهو مع ذلك تحت التراب وقد صار ترابا. فدعاؤه إياه عبادة صرفها له من دون الله؛ لأن الدعاء مخ العبادة، فهذا شرك في الإلهية، وسؤاله إياه تلك الحاجة من جلب خير أو دفع ضر أو رد غائب أو شفاء مريض أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله معتقدا أنه قادر على ذلك، هذا شرك في الربوبية، حيث اعتقد أنه متصرف مع الله تعالى في ملكوته. ثم إنه لم يدعه هذا الدعاء إلا مع اعتقاده أنه يسمعه على البعد والقرب في أي وقت كان وفي أي مكان، ويصرحون بذلك وهذا شرك في الأسماء والصفات، حيث أثبت له سمعا محيطا بجميع المسموعات لا يحجبه قرب ولا بعد، فاستلزم هذا الشرك في الإلهية الشرك في الربوبية والأسماء والصفات. الشرك الأكبر والشرك نوعان فشرك أكبر *** به خلود النار إذ لا يغفر وهو اتخاذ العبد غير الله *** ندا به مسويا مضاهي (والشرك) الذي هو ضر التوحيد (نوعان)؛ أي ينقسم إلى نوعين: (فشرك أكبر) ينافي التوحيد بالكلية ويخرج صاحبه من الإسلام (به خلود) فاعله في (النار) أبدا (إذ) تعليل لأبدية الخلود أي لكونه (لا يغفر) قال الله تبارك وتعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) (النساء: 48) وقال تعالى: (ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) (النساء: 116) وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) (المائدة: 72) وقال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) (الحج: 31). وقال لصفوة خلقه وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد أن أثني عليهم: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) (الأنعام: 88) وقال لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: (ولقد أوحينا إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) (الزمر: 65) فالشرك أعظم ذنب عصي الله به، ولهذا أخبرنا سبحانه أنه لا يغفره، وأنه لا أضل من فاعله وأنه مخلد في النار أبدا لا نصير له ولا حميم ولا شفيع يطاع، وأنه لو قام لله تعالى قيام السارية ليلا ونهارا ثم أشرك مع الله تعالى غيره لحظة من اللحظات ومات على ذلك فقد حبط عمله كله بتلك اللحظة التي أشرك فيها، ولو كان نبيا رسولا، ولو كان محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا من تقدير وقوع المحال وهو كثير في اللغة العربية؛ أي لو قدر وقوع ذلك من ملك أو رسول لكان كغيره من المشركين في حبوط عمله وحلول غضب الله عليه، وإلا فلم يرسل الله تعالى رسولا إلا معصوما من جميع المعاصي فضلا عن الشرك. (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (الأنعام: 124) والآيات في بيان عظم الشرك ووعيد فاعله أكثر من أن يحيط بها هذا المختصر، وفي معناها من الأحاديث ما لا يحصى، ولنذكر من ذلك ما تيسر فنقول وبالله التوفيق: وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من مات يشرك بالله شيئا دخل النار " وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. وفيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال: " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار " وفيه عنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقي الله يشرك به شيئا دخل النار " وفيه من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق ". وفيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " الحديث. وفيه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثا): الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزرو " الحديث. وروى أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله. فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقال: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه أو صلاة، فإن الله تعالى يغفر ذلك ويتجاوزه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضا، القصاص لا محالة " تفرد به أحمد. وله عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " ورواه النسائي أيضا. ولأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يقول: يا عبدي، ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان منك. يا عبدي، إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ". وللترمذي وقال: حسن صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ". ولابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئا إلا حلت لها المغفرة، إن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويفغر ما دون ذلك لمن يشاء). ولأبي يعلى عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب ". قيل: يا نبي الله، وما الحجاب؟ قال: " الإشراك بالله " قال: " ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى، إن شاء أن يعذبها وإن شاء أن يغفر لها ". ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يغفر إن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). ولأحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ". ولابن أبي حاتم عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام. قال: " وما دينه " قال: يصلي ويوحد الله. قال: " استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه ". فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: وجدته شحيحا على دينه. قال فنزلت: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). وللطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا ". ولابن مردويه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أخبركم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله " ثم قرأ: (ومن يشرك بالله فقد افتري إثما عظيما) (النساء: 48) " وعقوق الوالدين " ثم قرأ: (أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) (لقمان: 14). وللإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) (الأنعام: 82) شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: " إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) " (لقمان: 13) الحديث في الصحيحين. ولابن مردويه من حديث عبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهما: " لا تشركوا بالله شيئا وإن قطعتم أو صلبتم أو حرقتم ". ولابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال: " لا تشركوا بالله شيئا وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم ". وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: " يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله عز وجل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا ". وللبخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أي عم، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ". فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) (التوبة: 113). والأحاديث في عظم ذنب الشرك وشدة وعيده أكثر من أن تحصى، وقد قدمنا من أحاديث التوحيد جملة وافية عند الكلام على لا إله إلا الله وغير ذلك، والمقصود أن الشرك أعظم ما نهى الله عنه، كما أن التوحيد أعظم ما أمر الله به، ولهذا كان أول دعوة الرسل كلهم إلى توحيد الله عز وجل ونفي الشرك، فلم يأمروا بشيء قبل التوحيد، ولم ينهوا عن شيء قبل الشرك، كما قدمنا بسط ذلك. وما ذكر الله تعالى التوحيد مع شيء من الأوامر إلا جعله أولها، ولا ذكر الشرك مع شيئ من النواهي إلا جعله أولها، كما في آية النساء: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربي واليتامي والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) (النساء: 36)، وكما في آية الأنعام التي طلب النبي صلى الله عليه وسلم البيعة عليها، وهي قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) (الأنعام: 151- 153) وكما في آيات الإسراء: (وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)- إلى قوله- (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) (الإسراء: 23- 39) فابتدأ تلك الأوامر والنواهي بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وختمها بذلك. وكما في آيات الفرقان في الثناء على عباده المؤمنين في اجتنابهم الفواحش: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) (الفرقان: 68) الآيات وغير ذلك من الآيات. وكذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الجامعة للأوامر والنواهي، يبدأ في الأوامر بالتوحيد وفي المناهي بالشرك، كما في حديث الكبائر المتقدم، وكما في حديث من سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني عن النار. قال: " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا " وذكر الحديث. وكذا في أحاديث أركان الإسلام، وكحديث جبريل المشهور، وحديث ابن عمر، وحديث وفد عبد القيس وغيرها، يبدأ فيها بالشهادتين ومع. تتبع القرآن والسنة وتدبر نصوصهما تبين له أنها لا تخرج عن الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وما يتعلق بذلك، ولم يخلق الله الخلق إلا لذلك. التعريف بالشرك (وهو) أي الشرك الذي تقدم ذكره في المتن وذكر النصوص فيه في الشرح (اتخاذ العبد غير الله) من نبي أو ولي أو ملك أو قبر أو جني أو شجر أو حجر أو حيوان أو نار أو شمس أو قمر أو كوكب أو غير ذلك. (ندا) من دون الله (مسويا به) الله يحبه كحب الله ويخافه ويخشاه كخشية الله ويتبعه على غير مرضاة الله ويطيعه في معصية الله ويشركه في عبادة الله مضاهي به الله، قال الله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) (البقرة: 165) وحكى عنهم في اختصامهم في النار: (قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) (الشعراء 96- 98) وقد أخبرنا الله عز وجل أنهم لم يسووهم به في خلق ولا رزق ولا إحياء ولا إماتة ولا في شيء من تدبير الملكوت، بل أخبرنا أنهم مقرون لله تعالى بالربوبية: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) (الزخرف: 9) وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تقدمت، ولكنهم سووهم بالله تعالى في حبهم إياهم كحب الله ولم يجعلوا المحبة لله وحده في خوفهم منهم وخشيتهم كخشية الله، ولم يجعلوا الخشية لله والخوف من الله وحده وأشركوهم في عبادة الله ولم يفردوا الله بالعبادة دون من سواه، مع أنهم لم يعبدوهم استقلالا، بل زعموهم شفعاء لهم عند الله ليقربوهم إلى الله زلفى، ولكن اعتقدوا تلك الشفاعة والتقريب ملكا للمخلوق ويبطلونه منه، وأن له أن يشفع بدون إذن الله، والله تعالى يقول: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (يونس: 3) ولهذا سمى الله تعالى استشفاعهم ذلك شركا، كما قال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) (يونس: 18) فجمعوا في ذلك بين شركين: الأول عبادتهم إياهم من دون الله عز وجل، والثاني جعلهم شفعاء بدون إذن الله عز وجل، وقال تعالى: ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دون الله أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر: 3) وقال تعالى: (وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) (الأنعام: 94). وأيضا فقد أخبرنا الله تعالى أنهم إنما كانوا يعبدون معه غيره في الرخاء، وأما في الشدة فكانوا يخلصون العبادة لله، قال الله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) (العنكبوت: 65) وقال تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما نجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) (يونس: 22- 23) وقال تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) (الأنعام: 63). وقال تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) (الزمر: 8) وقال تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) (الروم: 33) وقال تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا) (الإسراء: 67) الآيات. وقال تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) (الأنعام: 40- 41) وغير ذلك من الآيات. وفي حديث حصين المتقدم، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كم تعبد اليوم من إله؟ " قال: سبعة؛ ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: " فمن تعبد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء. ولما ركب بعض مشركي قريش فارا من النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فلما اضطرب البحر عليهم وشاهدوا من أمر الله ما شاهدوا، فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله فإنه لا ينجيكم من هذه إلا هو. فقال: والله إن كان لا ينفع في البحر إلا هو فإنه لا ينفع في البر إلا هو، لئن أخرجني الله من هذه لأذهبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأضعن يدي في يده. وهذا بخلاف مشركي زماننا اليوم من عباد القبور وغيرها، فإنهم يشركون في الشدة أضعاف شركهم في الرخاء، حتى إن كانوا ينذرون لهذا الولي في الرخاء ببعير أو تبيع أو شاة أو دينار أو درهم أو نحو ذلك فأصابتهم الشدة زادوا ضعف ذلك، فجعلوا له بعيرين أو تبيعين أو شاتين أو دينارين أو درهمين أو غير ذلك. وأيضا فإنهم يعتقدون فيهم من صفات الربوبية وأنهم متصرفون فيما لا يقدر عليه إلا الله، وغلا بعضهم حتى جعل منهم المتصرف في تدبير الكون على سبيل الاستقلال، ويقولون فيه: إنها لا تتحرك ذرة ولا تسكن إلا بإذن فلان، تعالى الله وتقدس وجل وعلا عن أن يكون معه إله غيره، أو يكون له شريك في الملك أو ولي من الذل، (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) وغير ذلك من الآيات. يقصده عند نزول الضر *** لجلب خير أو لدفع الشر أو عند أي غرض لا يقدر *** عليه إلا المالك المقتدر مع جعله لذلك المدعو *** أو المعظم أو المرجو في الغيب سلطانا به يطلع *** على ضمير من إليه يفزع. (يقصده) أي المتخذ ذلك الند من دون الله يقصد نده عند نزول الضر به من خير فاته أو شر دهمه (لجلب خير) له أو (لدفع الشر عنه) (أو عند) احتياج (أي غرض) من الأغراض، والحال أنه (لا يقدر عليه) أي على ذلك الغرض (إلا المالك المقتدر) وهو الله سبحانه وتعالى (مع جعله) أي العبد (لذلك المدعو أو المعظم أو المرجو) من ملك أو نبي أو ولي أو قبر أو شجر أو حجر أو كوكب أو جني (في الغيب سلطانا)؛ أي يعتقد أن له سلطانا غيبيا فوق طوق البشر (به يطلع)؛ أي بذلك السلطان الذي اعتقده فيه (على ضمير من إليه) إلى ذلك الند (يفزع) في قضاء أي حاجة من شفاء مريض أو رد غائب أو غير ذلك، فيرى أنه يسمعه إذا دعاه ويرى مكانه ويعلم حاجته ويقضيها بقدرة اعتقدها فيه مع الله، والمقصود أنه يثبت له من صفات الربوبية ما يعرفه عن درجة العبودية إلى درجة العبودية، ويجعله مستحقا العبادة مع الله. ومن هنا يتبين لك ما قدمنا من أن الشرك في الألوهية يستلزم الشرك في الربوبية والأسماء والصفات ولا بد، ويتبين لك عظم ذنب الشرك وأنه أقبح الذنوب وأظلم الظلم وأكبر الكبائر، وإن الله تعالى لا يغفره ولا يقبل لأحد معه عملا، وأنه لا أشد هلكة منه، وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا بالنذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد، وما هلكت الأمم الغابرة وأعدت لهم النيران في الآخرة إلا بالشرك والإباء عن التوحيد، ولا نجا الرسل وأتباعهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة إلا بالتزام التوحيد والبراءة من الشرك، فما هلك قوم نوح بالطوفان، ولا عاد بالريح العظيم، ولا ثمود بالصيحة، ولا أهل مدين بعذاب يوم الظمة، إلا بالشرك وعبادة الأصنام، وهكذا الأمم من بعدهم بأنواع العذاب، ولم يخرج عصاة الموحدين من النار في الآخرة إلا بالتوحيد، ولم يخلد غيرهم فيها أبدا مؤبدا إلا بالشرك، ثم اعلم أن ما عبد من دون الله إما عاقل أو غير عاقل، فالعاقل كالآدمي والملائكة والجن وينقسمون إلى قسمين: راض بالعبادة له وغير راض بها. فالأول كفرعون وإبليس وغيرهما من الطواغيت، وهؤلاء في النار مع عابديهم، كما قال الله عز وجل: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذي اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) (البقرة: 166). وقال تعالى في شأن إبليس: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) (ص: 85) وقال في شأن فرعون: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردوهم النار بئس الورد المورود) (هود: 98) وقال تعالى: (وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين) (فصلت: 29) وقال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) (الأنعام: 128) وغير ذلك من الآيات. والقسم الثاني وهو من كان مطيعا لله وغير راض بالعبادة له من دون الله، كعيسى ومريم وعزيز والملائكة وغيرهم، فهم برآء ممن عبدهم في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام: (إذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت غلام الغيوب) (المائدة: 116) إلى آخر الآيات. وقال تعالى في شأن الملائكة: (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) (سبأ: 40). وقال تعالى في شأن كل من عبد من دون الله تعالى من الملائكة وعيسى وأمه وعزيز وغيرهم من أولياء الله مطلقا إلى يوم القيامة: (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا لا نصرا) (الفرقان: 17- 19) الآية وغيرها من الآيات. وأما غير العاقل من الأشجار والأحجار وغيرها مما لا يعقل فيشملها قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون) (الأبياء: 98- 99) ولكن الأحجار لا أرواح فيها وإنما يعذب بها من عبدها من دون الله، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) (التحريم: 6) الآية. وكما يعذب عبد الدينار والدرهم بهما، كما قال الله عز وجل: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) (التوبة: 34- 35). وفي الصحيح من حديث أبي سعيد في الشفاعة بطوله، وفيه: " ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون. فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم ". وفيه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه. فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت " الحديث. وفي حديث الصور الطويل: " ألا ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون من دون الله، فلا يبقى أحد عبد من دون الله إلا مثلت له آلهتة بين يدية ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عزير، ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى بن مريم، ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار، وهو الذي يقول تعالى: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون). وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند الدراقطني والطبراني وعبد الله بن أحمد وغيرهم من المصنفين في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله. وفيه: " ثم ينادي: أيها الناس، ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا أن يولي كل أناس منكم ما كانوا يتولون ويعبدون في الدنيا، أليس ذلك عدلا من ربكم؟ قالوا: بلى. قال: فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا. قال: فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطق إلى القمر وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون. قال: ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عزيزا شيطان عزيز، ويبقى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته " الحديث. قلت: وقوله: " ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون " إلخ، هذا في مثل عيسى وعزيز. وأما عبدة الطاغوت فتقودهم طواغيتهم حقيقة لا أشباهها، كما صرح به الكتاب والسنة. والله الأعلم.
والثان شرك أصغر وهو الريا *** فسره به ختام الأنبيا (و) النوع (الثان) من نوعي الشرك (شرك أصغر) لا يخرج من الملة، ولكنه ينقص ثواب العمل وقد يحبطه إذا زاد وغلب (وهو الريا) اليسير في تحسين العمل (فسره به)؛ أي فسر الشرك الأصغر بالريا ختام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ". قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: " الريا ". وبذلك فسر قول الله عز وجل: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) (الكهف: 110). وعن شهر بن حوشب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد. فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شرك فهو له كله لا حاجة لي فيه ". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟ " قال: قلنا بلى. قال: " الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يصلي لمقام الرجل " رواه أحمد. وفيه رواية: " يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه ". وله عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من الشهوة الخفية والشرك " فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: اللهم غفرًا، ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟ أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق أترون أنه قد أشرك؟ قالوا: نعم والله، إن من صلى لرجل أو صام أو تصدق له لقد أشرك. فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ". قال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص منه ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئا فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني ". وله عنه رضي الله عنه أنه بكى فقيل: ما يبكيك؟ قال: شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبكاني، سمعت رسول الله يقول: " أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية ". قلت: يا رسول الله، أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: " نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا، ولكن يراءون بأعمالهم. والشهوة الخفية، أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه " ورواه ابن ماجه. وللبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك، من أشرك بي أحدا فهو له كله ". ولأحمد عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن الله عز وجل أنه قال: " أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه، وهو للذي أشرك ". وله عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء. يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ". وله عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري- وكان من الصحابة- أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا، فليطلب ثوابة من عند غير الله، فإن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك " أخرجه الترمذي وابن ماجه. ولأحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به ". وله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به. وله عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من سمع الناس بعلمه سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره " فذرفت عينا عبد الله. وللبزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة، فيقول الله: ألقوا هذا واقبلوا هذا. فتقول الملائكة: يا رب، والله ما رأينا منه إلا خيرا. فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي ". ولوهب عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قام رياء وسمعة لم يزل في مقت الله حتى يجلس ". ولأبي يعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل ". الرياء والنفاق ثم اعلم أن الرياء قد أطلق في كتاب الله كثيرا ويراد به النفاق الذي هو أعظم الكفر وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى: (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) (البقرة: 264) وقال تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) (النساء: 38) وقال تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كس إلى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) (النساء: 142) وغير ذلك من الآيات النازلة في المنافقين بلفظ الرياء، ومنها ما يصرح بمعناه دون لفظه، كقوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) (البقرة: 14) والآيات التي قبلها وبعدها وما في معناها. والفرق بين هذا الرياء الذي هو النفاق الأكبر، وبين الرياء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم شركا أصغر خفيا هو حديث الأعمال بالنيات، وهو ما رواه الشيخان عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه "، فالنية هي الفرق في العمل في تعيينه وفيما يراد به، وقد أطلقت النية في القرآن بلفظ الابتغاء وبلفظ الإرادة، فإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله والدار الآخرة وسلم من الرياء في فعله، وكان موافقا للشرع، فذلك العمل الصالح المقبول، وإن كان الباعث على العمل هو إرادة غير الله عز وجل، فذلك النفاق الأكبر، سواء في ذلك من يريد به جاها ورئاسة وطلب دنيا، ومن يريد حقن دمه وعصمة ماله وغير ذلك، فهذان ضدان ينافي أحدهما الآخر لا محالة، قال الله عز وجل: (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) (آل عمران: 145) وقال تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) (الإسراء: 18- 19). وقال تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) (هود: 15- 16) وقال تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) (الشورى: 20) وقال تعالى يثني على عباده المخلصين: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) (الإنسان: 8- 9) وقال: (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) (الليل: 20) وغير ذلك من الآيات. وإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله عز وجل والدار الآخرة، ولكن دخل عليه الرياء في تزيينه وتحسينه، فذلك هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم " الشرك الأصغر " وفسره بالرياء العملي، وزاده إيضاحا بقوله: " يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه " وهذا لا يخرج من الملة، ولكنه ينقص من العمل بقدره، وقد يغلب على العمل فيحبطه كله والعياذ بالله. اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا. وأما حديث أبي موسى رضي الله عنه في الصحيح قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " فهذا الحديث يحتمل المعنيين، وتعينه لأحدهما النية، فإن كان أصل العمل لغير الله فهو النفاق، وإن كان أصله لله وأحب مع ذلك أن يذكر ويثنى عليه به فهو المعنى الذي سبق في حديث عبادة رضي الله عنه في " الرجل يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد " الحديث. وفي آخره قال: " ليس له شيء ". والله تعالى أعلم.
ومنه إقسام بغير الباري *** كما أتى في محكم الأخبار أي ومن الشرك الأصغر الذي لا يخرج من الملة (أقسام) مصدر (أقسم)؛ أي الحلف (بغير الباري) كالحلف بالآباء والأمهات والأبناء والأمانة وغير ذلك، كما في الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ". وفي رواية قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكرا ولا آثرا. متفق عليه. ولأبي داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: " لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون ". ولأحمد ومسلم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله ". وللنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون ". وسمع ابن عمر رضي الله عنهما رجلا يقول: لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ". أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه. وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من حلف بالأمانة ". رواه أبو داود. وفي الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يحلف بالأمانة فقال: " ألست الذي يحلف بالأمانة؟ ". وعن قتيلة بنت صفي أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون وإنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: " ورب الكعبة "، ويقول أحدهم: " ما شاء الله ثم شئت ". رواه أحمد والنسائى وصححه، وابن ماجه. وقد ثبت في كفارة الحلف بغير الله حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ". ومن الشرك الأصغر قول ما شاء الله وشئت، كما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال: " أجعلتني لله ندا؟ ما شاء الله وحده ". ولأبي داود بسند صحيح عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ". وتقدم في ذلك في حديث قتيلة، والفرق بين الواو وثم: أنه إذا عطف بالواو كان مضاهيا مشيئة الله بمشيئة العبد إذ قرن بينهما، وإذا عطف بثم فقد جعل مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل، كما قال تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) (الإنسان: 30) ومثله قول: لولا الله وفلان. هذا من الشرك الأصغر، ويجوز أن يقول لولا الله ثم فلان، ذكره إبراهيم النخعي. ولابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) (البقرة: 22) قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك.
هذه الأمور المذكورة التي يتعلق بها العامة غالبها من الشرك الأصغر، لكن إذا اعتمد العبد عليها بحيث يثق بها ويضيف النفع والضر إليها كان ذلك شركا أكبر والعياذ بالله؛ لأنه حينئذ صار متوكلا على سوى الله ملتجئا إلى غيره. ومن يثق بودعة أو ناب *** أو حلقة أو أعين الذئاب أو خيط أو عضو من النسور *** أو وتر أو تربة القبور لأي أمر كائن تعلقه *** وكله إلى الله ما علقه (ومن يثق) هذا الشرط جوابه (وكله) الآتي: (بودعة) قال في النهاية: هو شيء أبيض يجلب من البحر يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم، وإنما نهى عنه لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين. (أو ناب) كما يفعله كثير من العامة، يأخذون ناب الضبع ويعلقونه من العين. (أو حلقة) وكثيرا ما يعلقونها من العين وسيأتي في الحديث أنهم يعلقونها من الواهنة، وهو مرض العضد. (أو أعين الذئاب) وكثيرا ما يعلقونها، يزعمون أن الجن تفر منها، ومنهم من يقول: إنه إذا وقع بصر الذئب على جني لا يستطيع أن يفر منه حتى يأخذه، ولهذا يعلقون عينه إذا مات على الصبيان ونحوهم. (أو خيط) وكثيرا ما يعلقونه على المحموم ويعقدونه فيه عقدا بحسب اصطلاحاتهم، وأكثرهم يقرأ عليه سورة: (ألم نشرح لك صدرك) (الشرح: 1) إلى آخرها، ويعقد عند كل كاف منها عقدة، فيجتمع في الخيط تسع عقد بعدد الكافات، ثم يربطونه بيد المحموم أو عنقه. (أو عضو من النسور) كالعظم ونحوه يجعلونها خرزا ويعلقونها على الصبيان، يزعمون أنها تدفع العين. (أو وتر) وكانوا في الجاهلية إذا عتق وتر القوس أخذوه وعلقوه يزعمون عن العين على الصبيان والدواب. (أو تربة القبور) وما أكثر من يستشفي بها، لا شفاهم الله، واستعمالهم لها على أنواع، فمنهم من يأخذها ويمسح بها جلده، ومنهم من يتمرغ على القبر تمرغ الدابة، ومنهم من يغتسل بها مع الماء، ومنهم من يشربها وغير ذلك. وهذا كله ناشئ عن اعتقادهم في صاحب ذلك القبر أنه ينفع ويضر، حتى عدوا ذلك الاعتقاد فيه إلى تربته فزعموا أن فيها شفاء وبركة لدفنه فيها، حتى إن منهم من يعتقد في تراب بقعة لم يدفن فيها ذلك الولي بزعمه، بل قيل له: إن جنازته قد وضعت في ذلك المكان. وهذا وغيره من تلاعب الشيطان بأهل هذه العصور زيادة على ما تلاعب بمن قبلهم. نسأل الله العافية. (لأي أمر كائن تعلقه) الضمير عائد إلى ما تقدم وغيره (وكله الله)؛ أي تركه (إلى ما علقه) دعاء عليه؛ أي لا حفظه الله ولا كلأه، بل تركه إلى ما وثق به واعتمد عليه دون الله عز وجل، قال الله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (يوسف: 106). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " رواه أحمد. وله عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال: " ما هذا؟ " قال: من الواهنة. فقال: " انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا ". ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (يوسف: 106). وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن " لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت ". وعن رويفع رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه ". رواه أحمد. وله عن عبد الله بن عكيم مرفوعا: " من علق شيئا وكل إليه " ورواه الترمذي. وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه. قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير. قالت: فدخل فجلس إلى جانبي فرأى في عنقي خيطا فقال: ما هذا الخيط؟ قالت قلت: خيط رقي لي فيه، فأخذه فقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك ". قالت قلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت. فقال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ". رواه أحمد، وروى جملة الدلالة منه على الباب أبو داود، أعني الجملة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد: الرقى هي التي تسمى العزائم وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة، والتمائم شيء يلقونه على الأولاد عن العين، والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته ا. هـ. وقوله في الرقى: وخص منها الدليل ما خلا عن الشرك، إلخ يشير إلى ما سنذكره بقولنا:
|