الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
قد عرفت مما قدمنا في معنى لا إله إلا الله أن الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب أي تعبده محبة وتذللا وخوفا ورجاء ورغبا ورهبا وتوكلا عليه واطراحا بين يديه واستعانة به والتجاء إليه وافتقارا إليه، وذلك لا ينبغي إلا لله عز وجل خالق كل شيء ومصوره ومصرفه ومدبره مبدى الخلق ومعيده، ومحييه ومبيده، الفعال لما يريد الذي هو على كل شيد شهيد، الذي لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله) (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز). والعبد إن أريد به المعبد أي المذلل المسخر دخل فيه جميع المخلوقات من جميع العالم العلوي والسفلي من عاقل وغيره ومن رطب ويابس ومتحرك وساكن وظاهر وكامن ومؤمن وكافر وبر وفاجر وغير ذلك، الكل مخلوق لله عز وجل مسخر بتسخيره مدبر بتدبيره، ولكل منها رسم يقف عليه وحد ينتهي إليه، (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) (يس: 40) كل يجري لأجل مسمي لا يتجاوزه مثقال ذرة، ذلك تقدير العليم، وتدبير العدل الحكيم. وإن أريد به العابد خص ذلك بالمؤمنين وإن كان أكثر المشركين يعبدون الله عز وجل ويتقربون إليه بكثير من العبادات، لكن لما عبدوا مع الله غيره وأشركوه معه في إلهيته كانت أعمالهم هباء منثورا (كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء) (إبراهيم: 18)، و (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا) (البقرة: 264)، و (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) (النور: 39)، (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا له فما له من نور) (النور: 40). ذلك بأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله و (اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) (محمد: 28)، وتولوا الطاغوت فأخرجوهم من النور إلى الظلمات وعبدوا الشيطان وقد عهد الله إليهم أن لا يعبدوه وبين لهم عداوته وقال: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) (فاطر: 6) وقال: (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) (الكهف: 50) فخالفوا أمر الله وتولوا أعداءه وكذبوا رسله وأنبياءه وحاربوا حزبه وأولياءه. وأرادوا تشييد الكفر وإعلاءه ورد الحق وإباءه. فأبى الله عز وجل إلا أن يتم نوره ويظهر دينه ويعلي كلمته وينصر أولياءه ويحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ويجعل حزبه هم الغالبين ويجعل العاقبة للمتقين ولاعدوان إلا على الظالمين. لكن المؤمنون هم عباده حقا الذين أفردوه بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ولم يشبهوه بشيء من خلقه، ولم يسووا من خلقه به، أولئك الذين تضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، كما قال تعالى في الأولى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (الأنعام: 160) وقال في الثانية: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) (البقرة: 261) وقال في الثالثة: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون) (البقرة: 245) تولوا الله فأخرجهم من الظلمات إلى النور؛ أخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الضلال إلى نور الهدى، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الغي إلى نور الرشاد، (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (المائدة: 56) ملأ الله قلوبهم بنور معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه فلم، تتسع لغيره. دنا الشيطان من قلوبهم فاحترق بنور إيمانهم، فنكص على عقبه خاسئا حسيرا وأيس منهم أن يطيعوه، فانقلب وذموما مدحورا. فعند ذلك عزى نفسه اللعين وقال: (إلا عبادك منهم المخلصين) (الحجر: 40) وقال عز وجل: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) (الحجر: 42) حفظوا الله فحفظهم، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فلم ينكثوا إيمانهم، تعرفوا إلى الله في الرخاء بالعبادة فعرفهم في الشدة بالفرج، وصدقوا رسله وآمنوا بكتابه وانقادوا لأمره، وانكفوا عما نهى عنه ثم تجردوا لنصرة دينه وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيله، ودخل الناس بذلك في دين الله أفواجا طوعا وكرها، وقادوهم إلى الجنة بالسلاسل. نصروا الله فنصرهم وشكروه فشكرهم وذكروه فذكرهم. عرفوا ما خلقوا له فأقبلوا عليه ورأوا ما سواه مما لا يعنيهم، فلم يلتفتوا إليه وآثروا ما يبقى على ما يفنى وتعلقت أرواحهم بالرفيق الأعلى، أولئك هم من خاصة الله من خلقه والمصطفون من عباده، أولئك هم أولياؤه المتقون وحزبه الغالبون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور. ثم العبادة هي اسم جامع *** لكل ما يرضي الإله السامع (ثم العبادة) التي خلق الله لها الخلق، وأخذ بها عليهم الميثاق، وأرسل بها رسله وأنزل كتبه، ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنه والنار (هي اسم جامع لكل ما) يحب و (يرضى) مبني للمعروف فاعله (الإله السامع) وهو الله عز وجل، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالظاهرة كالتلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإغاثة الملهوف ونصر المظلوم وتعليم الناس الخير والدعوة إلى الله عز وجل وغير ذلك، والباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وخشية الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والرغبة والرهبة إليه والاستعانة به والحب والبغض في الله والموالاة والمعاداة فيه وغير ذلك. ثم اعلم أنها لا تقبل الأعمال الظاهرة ما لم يساعدها عمل القلب. ومناط العبادة هي غاية الحب مع غاية الذل، ولا تنفع عبادة بواحد من هذين دون الآخر، ولذا قال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد. ا. هـ. قلت: وبيان كلامهم هذا أن دعوى الحب لله بلا تذلل ولا خوف ولا رجاء ولا خشية ولا رهبة ولا خضوع دعوى كاذبة، ولذا ترى من يدعي ذلك كثيرا ما يقع في معاصي الله عز وجل ويرتكبها ولا يبالي ويحتج في ذلك بالإرادة الكونية وأنه مطيع لها، وهذا شأن المشركين الذين قالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) (الأنعام: 148) وقالوا: (لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم) (الزخرف: 20) وغير ذلك. وإمامهم في ذلك الاحتجاج هو إبليس إذا قال: (رب بما أغويتني) (الأعراف: 16). وإنما المحبة نفس وفاق العبد ربه: فيحب ما يحبه ويرضاه، ويبغض ما يكرهه ويأباه. وإنما تتلقى معرفة محاب الله ومعاصيه من طريق الشرع، وإنما تحصل بمتابعة الشارع. ولذا قال الحسن رحمه الله تعالى: ادعى قوم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (آل عمران: 31) فمن ادعى محبة الله ولم يك متبعا رسوله فهو كاذب. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تصدقوه حتى تعلموا متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك الرجاء وحده إذا استرسل فيه العبد تجرأ على معاصي الله وأمن مكر الله، وقد قال الله تعالى: (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) (الأعراف: 99). وكذلك الخوف وحده إذا استرسل فيه العبد ساء ظنه بربه وقنط من رحمتة ويئس من روحه، وقد قال تعالى: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (يوسف: 87) وقال: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الظالمون) (الحجر: 56) فالأمن من مكر الله خسران، واليأس من روحه كفران، والقنوط من رحمة الله ضلال وطغيان، وعبادة الله عز وجل بالحب والخوف والرجاء توحيد وإيمان. فالعبد المؤمن بين الخوف والرجاء كما قال تعالى: (يرجون رحمته ويخافون عذابه) (الإسرء: 57) وقال تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجون رحمة ربه) (الزمر: 9). وبين الرغبة والرهبة كما قال تعالى في آل زكرياء عليهم السلام: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) (الأنبياء: 91) فتارة يمده الرجاء والرغبة فيكاد أن يطير شوقا إلى الله، وطورا يقبضه الخوف والرهبة فيكاد أن يذوب من خشية الله تعالى، فهو دائب في طلب مرضاة ربه مقبل عليه، خائف من عقوباته ملتجئ منه إليه، عائذ به منه، راغب فيما لديه. وكذلك هو في صفات الله عز وجل لا ناف ولا مشبه، وفي أفعال العباد لا جبري ولا قدري، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ليس بذى النصب ولا التشيع، وفي الوعد الوعيد ليس بخارجي ولا مرجئ. فدين الله بين الغلو والجفاء والتفريط والإفراط، وخير الأمور الأوساط. وللعبادة ركنان لا قوام لها إلا بهما وهما الإخلاص والصدق، وحقيقة الإخلاص أن يكون قصد العبد وجه الله عز وجل والدار الآخرة، كما قال تعالى: (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى) (الليل: 17- 21) وقال تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها فأولئك كان سعيهم مشكورا) (الإسراء: 18- 19) وقال تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين) (آل عمران: 145) وقال تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) (الشورى: 20) وقال تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) (هود: 16) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله من كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير) (البقرة: 264- 265). وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ". وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " متفق عليه. ولو ذهبنا نذكر أحاديث الإخلاص لطال الفصل. وأما الصدق فهو بذل العبد جهده في امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه، والاستعداد للقاء الله وترك العجز وترك التكاسل عن طاعة الله، وإمساك النفس بلجام التقوى عن محارم الله، وطرد الشيطان عنه بالمداومة على ذكر الله والاستقامة على ذلك كله ما استطاع. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (التوبه: 119) وقال تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) (الأحزاب: 23) الآية. وقال تبارك وتعالى: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)- إلى قوله- (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) (العنكبوت: 1- 11) وقال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا) (البقرة: 214) الآية. وقال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)- إلى قوله عز وجل- (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) (آل عمران: 142- 146) إلى آخر الآيات. وقال تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبة ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (البقرة: 177). وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنى فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن " لو " تفتح عمل الشيطان ". وفي الحديث الآخر: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ". وإذا اجتمعت النية الصالحة والعزيمة الصادقة في هذا العبد قام بعبادة الله عز وجل. ثم اعلم أنه لا يقبل منه ذلك إلا بمتابعته الرسول صلى الله عليه وسلم، فيعبد الله تعالى بوفق ما شرع وهو دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى من أحد سواه، كما قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (آل عمران: 85). وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية لمسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " فهذه الثلاثة الأركان شروط في العبادة لا قوام لها إلا بها، فالعزيمة الصادقة شرط في صدورها، والنية الخالصة، وموافقة السنة شرط في قبولها، فلا تكون عبادة مقبولة إلا باجتماعها، فإخلاص النية بدون صدق العزيمة هوس وتطويل أمل وتمن على الله وتسويف في العمل وتفريط فيه، وصدق العزيمة بدون إخلاص فيه يكون شركا أكبر أو أصغر بحسب ما نقص من الإخلاص، فإن كان الباعث على العمل من أصله هو إرادة غير الله فنفاق، وإن كان دخل الرياء في تزيين العمل وكان الباعث عليه أولا إرادة الله والدار الآخرة كان شركا أصغر بحسبه، حتى إذا غلب عليه التحق بالأكبر. وإخلاص النية مع صدق العزيمة إن لم يكن العمل على وفق السنة كان بدعة وحدثا في الدين وشرع ما لم يأذن الله به، فيكون ردا على صاحبه ووبالا عليه والعياذ بالله، فلا يصدر العمل من العبد إلا بصدق العزيمة ولا يقبل منه ذلك إلا بإخلاص النية وإتباع السنة، ولذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (الملك: 2) قال: أخلصه وأصوبه؛ يعني خالصا من شوائب الشرك موافقا للسنة. وفي الحديث مخها الدعاء *** خوف توكل كذا الرجاء ورغبة ورهبة خشوع *** وخشية إنابة خضوع والاستعاذة والاستعانة *** كذا استغاثة به سبحانه والذبح والنذر وغير ذلك *** فافهم هديت أوضح المسالك وصرف بعضها لغير الله *** شرك وذاك أقبح المناهي (و) ثبت (في الحديث) الذي في السنن كما سنذكره (مخها) أي مخ العبادة ولبها (الدعاء) قال الله عز وجل: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) (غافر: 60) وقال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين) (الأعراف: 55- 56) وقال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) (البقرة: 186) وغير ذلك من الآيات. وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء مخ العبادة " وقال غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. ومعنى " مخ العبادة "؛ أي خالصها. وفيه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: (وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) (غافر: 60) وقال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه من لم يسأل الله يغضب عليه ". وفيه من حديث ابن عباس مرفوعا: " إذا سألت فاسأل الله " وهو حديث حسن صحيح. (خوف) أي ومن أنواع العبادة الخوف من الله عز وجل قال الله تعالى: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) (آل عمران: 175) وقال سبحانه: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) (الرحمن: 46) وقال تبارك وتعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) وقال عز وجل: (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) (الإسراء: 57) وقال تبارك اسمه: (أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) (الزمر: 9) الآية. وغيرها من الآيات. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون " رواه أحمد وابن ماجه والترمذي عن أبي ذر، وحسنه الترمذي. وفي البخاري عن أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لا أدري، والله لا أدري- وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما يفعل بي ولا بكم " وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها " وفيه عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إنه سلعة الله الجنة ". وله عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله جل ذكره: أخرجوا من ذكرني يوما أو خافني في مقامي ". وله هو وابن ماجه عن عائشه رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) (المؤمنون: 60) هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات) (المؤمنون: 61) وفيه من حديث أبي جحيفة قال: قالوا يا رسول الله قد شبت قال: " شيبتني هود وأخواتها " ومن حديث أبي بكر رضي الله عنه: " شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت " وغير ذلك من الأحاديث. (توكل) أي ومن أنواع العبادة التوكل على الله عز وجل، وهو اعتماد القلب عليه وثقته به، وإنه كافيه. قال الله عز وجل: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) (المائدة: 23) فجعله تعالى شرطا في الإيمان كما وصف المؤمنين أنهم أهله إذ قال تعالى: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) وقال موسى لقومه: (إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا) (يونس: 84) الآيات. وقال تعالى عن رسله إذ قالوا لقومهم: (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) (إبراهيم: 11- 12) وقال تعالى عن نبيه هود عليه السلام: (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها) (هود: 56) الآية. وكذلك عن نبيه نوح عليه السلام إذ قال لقومه: (يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) (يونس: 71) الآية. وقال تعالى عن شعيب: (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) (هود: 88) وقال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) (النمل: 79) وقال تعالى: (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه) (هود: 123) وقال تعالى: (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) (المزمل: 9). وقال تعالى: (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) (التوبة: 129) وقال تعالى في مدح عباده المؤمنين: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 173) وقال تعالى فيهم: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) (الأنفال: 2) وقال تبارك وتعالى: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الشورى: 36) وقال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (الطلاق: 3) أي كافيه وقال تعالى: (أليس الله بكاف عبده) (الزمر: 36) الجواب بلى. والآيات في هذا الباب كثيرة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: (حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 173): قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين: (قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران: 173). وفي الصحيح عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بلا حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " وفي السنن: " الطيرة شرك، الطيرة شرك " قال ابن مسعود: وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل. وفي جامع الترمذي وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ". وفي حديث الإيمان بالقدر: " واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ". وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجه والدرامي عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إني لأعلم آية في كتاب الله عز وجل لو أخذ الناس بها لكفتهم: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق: 2) ". ولابن ماجه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قلب ابن آدم لكل واد شعبة، فمن اتبع قلبه الشعب كلها، لم يبال الله بأي واد هلك، ومن توكل على الله كفاه الشعب " وغير ذلك من الآيات والأحاديث. (كذا الرجاء)؛ أي ومن أنواع العبادة الرجاء، قال الله عز وجل: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) (الكهف: 110) وقال تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم) (العنكبوت: 5) وقال تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) (يونس: 7) وغير ذلك من الآيات. وفي الحديث: " أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ". وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن النار ". وقال صلى الله عليه وسلم في دعاء المكروب: " الهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين " الحديث رواه أبو داود عن أبي بكر. (ورغبة ورهبة خشوع)؛ أي ومن أنواع العبادة الرغبة فيما عند الله عز وجل من الثواب، وهي راجعة إلى الرجاء والرهبة مما عند الله من العقاب، وهي راجعة إلى معنى الخوف. والخشوع هو التذلل لله عز وجل، قال تعالى في آل زكريا عليهم السلام: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) (الأنبياء: 90) وقال تعالى: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) (الإسراء: 109) وقال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون) (البقرة: 45- 46) وقال تعالى: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون: 2) وقال تعالى: (وإياي فارهبون) (البقرة: 40) وقال تعالى: (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب) (الشرح: 8) وغير ذلك من الآيات. وفي حديث الدعاء عند النوم: " اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وألجأت ظهري إليك وفوضت أمري إليك رغبة ورهبة إليك " الحديث في الصحيحين. ولابن أبي حاتم في خطبة أبي بكر رضي الله عنه: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله عز وجل، وتثنوا عليه بما هو أهله، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) (الأنبياء: 90). وفي الصحيح من حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الركوع والسجود: " خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي " وغير ذلك من الأحاديث. الخشوع لله (وخشية)؛ أي ومن أنواع العبادة الخشية وهي مرادفة للخوف، قال الله عز وجل: (فلا تخشوهم واخشوني) (البقرة: 150) وقال تعالى في مدح عباده المؤمنين: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) (المؤمنون: 57) الآيات. وقال تعالى: (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) (المعارج: 27) الآيات. وقال تعالى في شأن كتابه العزيز: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) (الأنعام: 51) الآيات. وقال تعالى: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) (طه: 1- 3) وقال تعالى: (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب) (يس: 11) الآية. وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (الزمر: 23) الآية. وقال تعالى: (هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) (ق: 33) الآيات. وقال تعالى في شأن الساعة: (إنما أنت منذر من يخشاها) (النازعات: 45) وقال تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى) (الأعلى: 10) وغير ذلك من الآيات. وقال تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) (لقمان: 33) الآية. وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع "، وفيه عن أبي أمامة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله. وأما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر فريضة من فرائض الله تعالى ". وقال حديث حسن. وفي الصحيح: " إن أخشاكم وأتقاكم الله أنا " الحديث. وغير ذلك من الأحاديث. (إنابة) أي ومن أنواع العبادة الإنابة وهي التوبة النصوح، والرجوع إلى الله تعالى، قال الله عز وجل: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) (الزمر: 54) وقال تعالى في ذكر شعيب: (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) (هود: 88) وقال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب) (الشورى: 10) وقال تعالى عن إبراهيم والذين معه: (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) (الممتحنة: 4) وقال تعالى في شأن عباده المؤمنين: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي) (الزمر: 17) وقال عن عبده داود عليه السلام: (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) (ص: 24) وفي ذلك آيات كثيرة سنذكر إن شاء الله ما تيسر منها في بابه. (خضوع) أي ومن أنواع العبادة الخضوع، وهو والخشوع والتذلل بمعنى وتقدمت الآيات والأحاديث فيه. (والاستعاذة)؛ أي ومن أنواع العبادة الاستعاذة وهي الامتناع بالله عز وجل والالتجاء إليه. قال عز وجل: (وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (النحل: 98) وقال تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) (المؤمنون: 97- 98) وقال تعالى: (وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) (الأعراف: 200) وقال تعالى: (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) (الفلق: 1- 2) السورة. وقال تعالى: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس) (الناس: 1- 4) السورة. وقال عن كليمه موسى عليه السلام: (وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) (غافر: 27) وقال تعالى عنه عليه السلام: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) (الدخان: 20) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ". وقال: " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " وقال: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك ". وقال: " تعوذوا بالله من الفتن ". واستعاذ صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال، ومن الرد إلى أرذل العمر، ومن المأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى ومن شر فتنة الفقر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، وغير ذلك. (والاستعانة)؛ أي ومن أنواع العبادة الاستعانة، وهي طلب العون من الله عز وجل، قال الله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) (الفاتحة: 4)؛ أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، ونبرأ من كل معبود دونك ومن عابديه، ونبرأ من الحول القوة إلا بك، فلا حول لأحد عن معصيتك، ولا قوة على طاعتك إلا بتوفيقك ومعونتك. وقال عن نبيه يعقوب عليه السلام: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) (يوسف: 18) وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) (الأنبياء: 112). وفي الترمذي من حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: " إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله " الحديث. وقال فيه حسن صحيح. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه: " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ". وفي الترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم اللهم: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " وغير ذلك من الأحاديث. (كذا استغاثة به سبحانه)؛ أي ومن أنواع العبادة الاستغاثة بالله عز وجل وهي طلب الغوث منه تعالى من جلب خير أو دفع شر، قال الله عز وجل: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) (الأنفال: 9) وقال تعالى: (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله) (النمل: 62) الآية. وقال تعالى: (وهو الذين ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) (الشورى: 28) الآية. ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا بديع السماوات والأرض، برحمتك أستغيث ". وفي الطبراني بإسناده من حديث ثابت بن الضحاك، أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال صلى الله عليه وسلم: " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله ". وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الاستسقاء: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ". وغير ذلك من الأحاديث. (والذبح)؛ أي ومن أنواع العبادة الذبح نسكا لله تعالى من هدى وأضحية وعقيقة وغير ذلك. قال الله عز وجل: (فصل لربك وانحر) (الكوثر: 3) وقال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت) (الأنعام: 163) الآيات. وقال تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها) (الحج: 36) الآيات. وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: " لعن الله من ذبح لغير الله " الحديث. وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب. فقالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا سبيله فدخل النار. فقالوا للآخر: قرب. قال ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل. فضربوا عنقه فدخل الجنة ". (والنذر)؛ أي ومن أنواع العبادة النذر لله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) وقال تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) (الإنسان: 7) وقال تعالى: (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) (البقرة: 270) الآية. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " رواه الجماعة إلا مسلما. وعن عمر رضي الله عنه قال: نذرت نذرا في الجاهلية فسألت النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أسلمت فأمرني أن أوفي بنذري. رواه ابن ماجه. وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب إثم من لا يفي بالنذر، وذكر حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " قال عمران لا أدري ذكر اثنتين أو ثلاثا بعد قرنه، " ثم يجيىء قوم ينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن ". وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: " أوف بنذرك " وهو في الصحيح أيضا. ولعله هو النذر الذي في رواية ابن ماجه مبهما، فسرته رواية الصحيح. وفي حديث الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كان عليها دين أكنت قاضية؟ قال: نعم. قال: " فاقض الله فالله أحق بالقضاء ". وغير ذلك من أحاديث الأمر بوفاء النذر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن شرط النذر لله تعالى أن يكون طاعة، وأن يكون مما يطيقه العبد، وأن يكون فيما يملك، وأن لا يكون في موضع كان يعبد فيه غير الله تعالى أو ذريعة إلى عبادة غير الله تعالى، ولمن كان معلقا بحصول شيء فلا يعتقد الناذر تأثير النذر في حصوله. أما الأول فلقوله صلى الله عليه وسلم: " لا نذر في معصية الله، ولا في قطيعة رحم " الحديث رواه أبو داود، وكذا حديث عائشة السابق وغيره. وأما الثاني فلحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيته فقال: " لتمش ولتركب " متفق عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم فلا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه " فأمره صلى الله عليه وسلم بترك ما لم يكن يطيقه ولم يكن مشروعا، وأمره بإتمام الصوم لكونه يطيقه ولكونه مشروعا. وأما الثالث فلقوله صلى الله عليه وسلم: " لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود وغيره وإسناده صحيح. وأما الرابع فلحديث ثابت بن الضحاك أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة. فقال: " كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " فقالوا: لا. قال: " فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا لا. قال: " أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود. وفي سد الذرائع إلى ذلك حديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من فعل ذلك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. أما الخامس فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره وإنما يستخرج بالنذر من البخيل " وهو في الصحيح. وفيه في رواية عنه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: " إنه لا يرد شيئا، ولكنه يستخرج به من البخيل ". وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي: " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له، فيستخرج الله به من البخيل، فيؤني عليه ما لم يكن يؤتي عليه من قبل ". وغير ذلك من الأحاديث. وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى. أنواع أخري من العبادات الظاهرة والباطنة. (وغير ذلك)؛ أي من العبادات الظاهرة والباطنة والتسبيح والتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير وتلاوة القرآن وتدبره وتعلمه وتعليمه وسائر الأذكار المشروعة ومحبة الله ورسوله والمؤمنين، والحب في الله والبغض فيه والموالاة والمعاداة لأجله، وغير ذلك من العبادات التي لا تخرج عن تعريفنا السابق بأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وأن مناطها الذي لا قوام لها إلا به هو كمال الحب وغايته مع غاية الذل، ولا تسمى عبادة إلا مع ذلك كله. فالمحبة وحدها التي لم يكن معها خوف ولا تذلل، كمحبة المطعم والمشرب والأهل والمال والولد وغير ذلك ليست بعبادة. وكذلك الخوف بدون محبة للمخوف منه، كالخوف من عدو أو غرق أو حرق ونحو ذلك لم يكن عبادة، فإذا اجتمعا في العمل كان عبادة: إن كانت لله فهو التوحيد الذي هو أشرف المطالب، وإن كانت لغيره فالشرك الأكبر المخلد صاحبه في النار والعياذ بالله. ولذا قلنا (وصرف بعضها) أي شيء منها قل أو كثر (لغير الله) كائنا من كان من ملك أو نبي أو ولي أو قبر أو جني أو شجر أو حجر أو غيره، كل ذلك (شرك) أكبر، (وذاك) إشارة إلى الشرك هو (أقبح المناهي) على الإطلاق. قال الله عز وجل: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم من دعائهم غافلون) (الأحقاف: 5) الآيات؛ أي لا أحد أضل منه. وقال تعالى: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) (المؤمنون: 117). وقال الله عز وجل: (إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان: 13) فالشرك أعظم الظلم لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، ولا أعظم ظلما من شكاية العبد ربه الذي هو أرحم الراحمين فيما أصابه من ضر أو فاته من خير إلى من لا يرحمه ولا يسمعه ولا يبصره ولا يعلمه ولا يملك لنفسه ولا لداعيه من ضر ولا نفع ولا موت ولا حياة ولا نشور، ولا يغني عنه مثقال ذرة، وعدوله عمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، ويفزع في قضاء حوائجه إلى من لا قدرة له على شيء البتة (والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبؤك مثل خبير) (فاطر: 13- 14) وصرفه عبادة خالقه- الذي خلقه لعبادته وتوحيده ورباه بنعمه الظاهرة والباطنة وحفظه وكلأه بالليل والنهار وحماه من جميع المخاوف والأخطار- لمخلوق مثله خلقه الله بقدرته ولم يكن من قبل شيئا، بل هو مسخر مدبر مربوب متصرف فيه الله تعالى بم شاء من أنواع التصرف، لا يبدي حراكا ولا ينفك من قبضه الله عز وجل، بل هو خلقه وملكه مخلوق لعبادته فيرفعه من درجة العبودية والتأله إلى جعله مألوها معبودا: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سوء) (الروم: 28) الآية. هذا والله أظلم الظلم وأقبح الجهل وأكبر الكبائر، ولذا لم تدع الرسل إلى شيء قبل التوحيد، ولم تنه عن شيء قبل التنديد، ولم يتوعد الله على ذنب أكبر مما جاء على الشرك من الوعيد الشديد. وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك ". وسنذكر إن شاء الله من الآيات والأحاديث قريبا ما تقربه به أعين الموحدين وتدحض شبهة المعاندين، ويدمغ باطل الملحدين، والله المستعان وبه التوفيق.
قد قدمنا انقسام التوحيد إلى قسمين: توحيد المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد الطلب والقصد وهو توحيد الإلهية والعبادة، ولكل من هذه الأنواع ضد يفهم من تعريفه، فإذا عرفت أن توحيد الربوبية هو الإقرار بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المحي المميت المدبر لجميع الأمور المتصرف في كمل مخلوقاته لا شريك له في ملكه، فضد ذلك هو اعتقاد العبد وجود متصرف مع الله غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل. وإذا عرفت أن توحيد الأسماء والصفات هو أن يدعى الله تعالى بما سمى به نفسه ويوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وينفى عنه التشبيه والتمثيل، فضد ذلك شيئان ويعمهما اسم الإلحاد: أحدهما نفي ذلك عن الله عز وجل وتعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله الثابتة بالكتاب والسنة، ثانيهما تشبيه صفات الله تعالى بصفات خلقه، وقد قال تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى: 11) وقال تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) (طه: 110). وإذا عرفت أن توحيد الإلهية هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة ونفي العبادة عن كل ما سوى الله تبارك وتعالى، فضد ذلك هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، وهذا هو الغالب على عامة المشركين، وفيه الخصومة بين جميع الرسل وأممها.
وأول ما ظهر الشرك في قوم نوح على المشهور، وقد كان بنو آدم على ملة أبيهم عليه السلام نحو عشرة قرون كما قدمنا، وبه قال ابن عباس وغيره في تفسير قوله عز وجل: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (البقرة: 213)، وذلك لأن الشيطان لعنه الله لم يزل دائبا جادا مشمرا في عداوة بني آدم عليه السلام منذ كان أبوهم طينا فلما نفخ الله فيه الروح وعلمه الأسماء كلها وأمر الملائكة بالسجود له فسجدوا كلهم إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين. (قال أأسجد لمن خلقت طينا) (الإسراء: 61) وقال تعالى: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون) (الحجر: 26) فلما سأله الله عز وجل عن سبب امتناعه من السجود واستكباره عن أمر ربه- والله تعالى أعلم به- فقال سبحانه له: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) (الأعراف: 12) فأجاب الخبيث مفتخرا بأصله طاعنا على ربه تعالى في حكمته وعدله: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (الأعراف: 12) فعامله الجبار بنقيض ما قصده وأذاقه وبال حسده، وأثمر له استكباره الذل الأبدي الذي لا عز بعده، (قال اخرج منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) (الأعراف: 13) وقال: (اخرج منها مذءوما مدحورا) (الأعراف: 18) الآية. وقال: (فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) (الحجر: 34- 35) فطلب الإنظار ليأخذ بزعمه من آدم وذريته بالثأر، ولا يعلم أنه بذلك إنما يزداد من غضب الجبار، وقد علم أنه لا سبيل له إلا على حزبه وتابعيه من الكفار الذين هو إمامهم في الخروج عن طاعة الله والاستكبار: (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) (ص: 79- 80) أجابه الله تعالى إلى طلبته ليمتحن عباده اختبارا وابتلاء: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (الملك: 2) فقابل النعمة بالكفران، وجدد صفقة الخسران، وأقسم ليستعملن مدته وليستغرقن حياته في إغواء ذرية آدم الذين كان طرده وإبعاده بسببهم، إذ لم يسجد لأبيهم ولا رأي أن ذلك باستكباره عن أمر ربه، بل قدس نفسه اللئيمة وأسند الإغواء إلى ربه مخاصمة ومحادة ومشاقة، (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (الأعراف: 16- 17) ولم يقل اللعين من فوقهم لعلمه أن الله تعالى من فوقهم، قال الله سبحانه: (هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) (الحجر: 42). وقد علم الرجيم ذلك فقال آيسا منهم: (إلا عبادك منهم المخلصين) (الحجر: 40) ثم لما سعى إلى آدم وحواء زوجه في الجنة ودلهما على تلك الشجرة التي نهاهم الله عز وجل عنها أن يقربوها وأباح لهم ما سواها من الجنة، فاستدرجهم اللعين بخداعه وحيلته البائرة وغيرهم بتلك اليمين الفاجرة: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) (الأعراف: 21) فنفذ قضاء الله تعالى وقدره بأكلهما منها (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) (الأنفال: 42) وظن اللعين أنه قد أخذ بثأره من آدم وأنه قد أهلكه معه ولم يعلم بفضل الله عز وجل وسعة رحمته الذي لا يقدر أحد على شيء منه (وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) (الحديد: 29) فلما عاتبهما الله تبارك وتعالى على ذلك بقوله: (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) (الأعراف: 42) فلم يعترضنا على قضاء الله وقدره ولم يحتجا بذلك على ارتكاب ما نهى الله عنه ولم يخاصما به كما قال اللعين مواجها ربه بقوله: (فبما أغويتني) (الأعراف: 16) بل اعترفا بقدرة الله عليهما وأقرا بظلمهما لأنفسهما، وصرحا بافتقارهما إلى ربهما وبكمال غناه عنهما، (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (الأعراف: 23) وهذه هي الكلمات التي قال الله عز وجل: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) (البقرة: 37). ثم أراد الله سبحانه أن يهبطهم إلى دار أخرى هي دار الامتحان والابتلاء ليتبين حزبه الذين يتبعون رسله ويقاتلون أعداءه ويغرس لهم بصالح الأعمال ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويتبين حزب عدوه الذين اتبعوه وأطاعوه وصاروا من خيله ورجله وقد أعد لهم جهنم وساءت مصيرا، وألقى العداوة ونصب الحرب بين هذين الحزبين في هذه الدار ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم، فقال تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (البقرة: 38). ثم كان من كيد الشيطان مما قص الله عز وجل من إلقائه الفتنة بين ابني آدم وقتل أحدهما الآخر كما في سورة المائدة. ولما مات آدم عليه السلام كان وصيه شيثا عليه السلام، ومضت تلك المدة التي ذكرنا والناس كلهم على شريعة من الحق، كما قال ابن جرير رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. وزين الشيطان لعنه الله لقوم نوح عبادة الأصنام، وكان أول ذلك أن زين لهم تعظيم القبور والعكوف عليها وبيان ذلك ما روى البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عباس قال في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنوسي العلم عبدت. ا. هـ. فلو جاءهم اللعين وأمرهم من أول مرة بعبادتهم لم يقبلوا ولم يطيعوه، بل أمر الأولين بنصب الصور لتكون ذريعة للصلاة عندها ممن بعدهم، ثم تكون عبادة الله عندها ذريعة إلى عبادتها ممن يخلفهم. فلما أرسل الله سبحانه إليهم نوحا عليه السلام فلبث فيهم ما لبث يدعوهم إلى الله تعالى وهم مستكبرون عن الحق حتى أهلكهم الله تعالى بالطوفان. ثم بعدهم عاد عبدوا آلهة مع الله منها هدا وصدى صمودا، فأرسل الله عز وجل إليهم هودا عليهم السلام فلبث فيهم ما لبث يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل، فلما حق عليهم العذاب أهلكهم الله تعالى بالريح، ثم ثمود كذلك وأرسل الله إليهم صالحا عليه السلام كذبوه فأهلكوا بالصيحة، ثم قوم إبراهيم وعبدوا الشمس والقمر والنجوم وعبدوا الأصنام وغير ذلك، وقد قص الله تعالى في كتابه كل ذلك مفصلا عن الأمم ورسلهم. وعبد أول بني إسرائيل العجل وآخرهم عبدوا عزيزا، وعبدت النصارى المسيح وعبدت المجوس النار، وعبد قوم الماء وعبد كل قوم ما زينه الشيطان لهم على قدر عقولهم، هذا في الأمم الأولي وكل منها له وارث من الأمم المتأخرة فالأصنام التي في قوم نوح قد انتقلت إلى العرب في زمن عمرو بن لحي قبحه الله تعالى، كما ذكره ابن عباس فيما رواه البخاري عنه رضي الله عنه قال: أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وسواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبنى غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. انتهى.
وتفسير ذلك ما ذكره الكلبي حيث قال: وكان عمرو بن لحي كاهنا وله رئى من الجن فقال له: عجل السير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة، إئت جدة، تجد فيها أصناما معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. فأتى نهر جدة فاستثارها ثم حملها حتى ورد تهامة وحضر الحج فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة فأجابه عوف بن عدن بن زيد اللات فدفع إليه ودا فحمله. فكان بوادي القرى بدومة الجندل، وسمى ابنه عبد ود فهو أول من سمى به، وجعل عوف ابنه عامرا سادنا له، فلم يزل بنوه يسدنونه حتى جاء الله بالإسلام. قال الكلبي: فحدثني مالك بن حارثة أنه رأي ودا. قال: وكان أبي يبعثني باللبن إليه فيقول: اسقه إلهك فأشربه. قال: ثم رأيت خالد بن الوليد رضي الله عنه كسره فجعله جذاذا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالدا بن الوليد لهدمه فحالت بينه وبين هدمه بنو عذرة وبنو عامر فقاتلهم فقتلهم وهدمه وكسره. قال الكلبي: فقلت لمالك بن حارثه صف لي ودا كأني أنظر إليه؟ قال: كان ثمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد دبر- أي نقش- عليه حلتان متزر بحلة مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده وقد تنكب قوسا وبين يديه حربة فيها لواء وقبضة فيها نبل بغير جعبة. وأجابت عمرو بن لحي مضر بن نزار فدفع إلى رجل من هذيل يقال له الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر سواعا فكان بأرض يقال لها وهاط من بطن نخلة يعبده من يليه من مضر، وفي ذلك يقول رجل من العرب: تراهم حول قبلتهم عكوفا *** كما عكفت هذيل على سواع. وأجابته مذحج فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادي يغوث، وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها، وأجابته همدان فدفع إلى مالك بن زيد بن جشم يعوق، فكان بقرية يقال لها خيوان فعبدته همدان ومن والاها من اليمن، وأجابته حمير فدفع إلى رجل من ذي رعين يقال له معدي كرب نسرا، فكان بموضع من أرض سبأ يقال له بلخع تعبده حمير ومن والاها فلم يزل يعبدونه حتى هودهم ذو نواس، فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم فهدمها وكسرها. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبة في النار. وكان أول من سيب السوائب ". وفي لفظ: " وغير دين إبراهيم ". وروي ابن إسحاق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثرم بن الجوف الخزاعي: " يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه ". فقال أكثم: عسى ألا يضرني شبهه يا رسول الله. قال: " لا. إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي ". قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء- وبها يومئذ العماليق وهم ولد عملاق ويقال عمليق بن لاوذ بن سام- بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه الأصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. وقال ابن إسحاق: واتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما، وكان إساف ونائلة رجلا وامرأة من جرهم هو إساف بن بغي، ونائلة بنت ديك فوقع إساف على نائلة في الكعبة فمسخهما الله حجرين. قال: وقال أبو طالب: وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم *** بمفضى السيول من إساف ونائل واتخذوا حول الكعبة نحو ثلاثمائة وستين صنما. قال ابن إسحاق: وكان لخولان صنم يقال له عم أنس بأرض خولان يقسمون له من أموالهم ومن أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله بزعمهم، فما دخل في حق عم أنس من حق الله تعالى الذي سموه له تركوه له، وما دخل في حق الله تعالى من حق عم أنس ردوه عيه. وهم بطن من خولان يقال لهم الأديم، وفيهم أنزل الله تبارك وتعالى فيما يذكرون: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) (الأنعام: 136) قال: وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر صنم يقال له سعد، صخرة بفلاة من أرضهم طويلة، فأقبل رجل من بني ملكان بإبل له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته فيما يزعم، فلما رأته الإبل- وكانت مرعية لا تركب، وكان يهراق عليه الدماء- نفرت منه فذهبت في كل وجه، وغضب ربها الملكاني فأخذ حجرا فرماه به وقال: لا بارك الله فيك نفرت علي إبلي. ثم خرج في طلبها حتى جمعها فلما اجتمعت له قال: أتينا إلى سعد ليجمع شملنا *** فشتتنا سعد فلا نحن من سعد وهل سعد إلا صخرة بتنوفة *** من الأرض لا تدعو لغي ولا رشد وكان لدوس صنم لعمرو بن حممة الدوسي. قال: وكان لقريش وبني كنانة العزى بنخلة، وكانت سدنتها وحجابها بنو شيبان من سليم حلفاء أبي طالب. قلت فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا بن الوليد رضي الله عنه فهدمها. قال: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بني معتب من ثقيف. قال: وكان مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، وقال ابن هشام: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه فهدمها، ويقال علي بن أبي صالب رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه فهدمها. قال: وكانت قلس لطيء ومن يليها بجبل طيء بين سلمى وأجأ، قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهدمها، فوجد فيها سيفين يقال لأحدهما الرسوب وللآخر المخذم، فوهبهما له، فهما سيفا علي رضي الله عنه. قال: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له رئام. قال: وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب، وفيها يقول المستوغر بن ربيعة حين هدمها في الإسلام: ولقد شددت على رضاء شدة *** فتركتها قفرا بقاع أسحما وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد، وله يقول أعشي بني قيس: بين الخورنق والسدير وبارق والبيت ذي الشرفات من سنداد. قال ابن إسحاق وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناة، فلما أسلم فتيان بني سلمة- معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح وغيرهم- ممن أسلم وشهد العقبة، وكانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها عذرات الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه ثم قال: والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزيته. فإذا أمسى ونام غدوا ففعلوا بصنمه مثل ذلك، فيغدوا يلتمسه فيجد به مثل ما كان فيه من الأذي فيغسله ويطهره ويطيبه، فيغدون عليه إذا أمسى فيفعلون به ذلك، فلما طال عليه استخرجه من حيث ألقوه فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له: والله لا أعلم من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك. فلما أمسى ونام غدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر الناس، وغدا عمرو فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه، فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره، وشكر الله إذ أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة: والله لو كنت إلها لم تكن *** أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لملقاك إلها مستدن *** تهان أو تسئل عن سوء الغبن الحمد لله العلي ذي المنن *** الواهب الرزاق ديان الدين هو الذي أنقذني من قبل أن *** أكون في ظلمة قبر مرتهن قال ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد رجل منهم سفرا تمسح به فيكون آخر عهده وأول عهده، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) (ص: 5) وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب ويهدى لها كما يهدى للكعبة، ويطاف بها كما يطاف بالكعبة، وينحر عندها كما ينحر عند الكعبة، وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا وجعل الثلاثة أثافي لقدره، فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك. وقال أبو رجاء العطاردي: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا به، سمعنا بمسيلمة الكذاب فلحقنا بالنار، قال: وكنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذاك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به. قال: وكنا نعمد إلى الرمل فنجمعه ونحلب عليه فنعبده، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زمانا ثم نلقيه. وقال أبو عثمان النهدي: كنا في الجاهلية نعبد حجرا فسمعنا مناديا ينادي: يا أهل الرحال، إن ربكم قد هلك فالتمسوا ربا. قال: فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينما نحن كذلك نطلبه إذا نحن بمناد ينادي: إنا قد وجدنا ربكم أو شبهه، فإذا حجر فنحرنا عليه الجزور. وقال عمرو بن عبسة: كنت ممن يعبد الحجارة فينزل الحي ليس معهم إله فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار فينصب ثلاثة لقدره ويجعل أحسنها إلها يعبده، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه ويأخد غيره. ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعن بنشبة قوسه في وجوهها وعيونها ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل " وهي تتساقط على وجوهها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحرقت.
|