الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
في هذه الأبيات إثبات المسألة العظيمة، وهي إثبات سؤال القبر وفتنته وعذابه ونعيمه، وقد تظاهرت بذلك نصوص الشريعة كتابا وسنة وأجمع على ذلك أئمة السنة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أهل السنة والجماعة وإن أنكر ذلك بشر المريسي وأضرابه وأتباعهم من المعتزلة وحملوا على فاسد فهمهم قول الله عز وجل لا يذوقون فيها الموت إلا الموته الأولى) (الدخان: 56) وقوله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور) (فاطر: 22). قالوا في الآية الأولى: لو صاروا أحياء في القبور لذاقوا الموت مرتين لا موتة واحدة. وقالوا في الآية الثانية: إن الغرض من سياقها تشبيه الكفرة بأهل القبور في عدم الإسماع، ولو كان الميت حيا في قبره أو حاسا لم يستقم التشبيه. قالوا وأما من جهة العقل فإنا نرى شخصا يصلب ويبقى مصلوبا إلى أن تذهب أجزاؤه ولا نشاهد فيه إحياء ومسألة، والقول لهم بهما مع المشاهدة سفسطة ظاهرة وأبلغ منه من أكلته السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها وأبلغ منه من أحرق حتى يفتت وذري أجزاؤه المتفتته في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا فإنا نعلم عدم إحيائه ومسألته وعذابه ضرورة. هذه خلاصة شبههم الداحضة، ومحصلة آرائهم الكاسدة، وأفهامهم الفاسدة وأذهانهم البائدة ولا عجب ولا استغراب ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وجحد ما صرح به تعالى في محكم آياته ورد ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته، وحكم العقل في الشرع، وعارض الوحي الرحماني بالحدس الشيطاني، وقدم الآراء السقيمة على السنن المستقيمة، وآثر الأهواء الذميمة على المحجة القويمة، فليس بعجيب ولا غريب ممن هذا شأنه أن ينكر عذاب القبر وغيره من أنباء الغيب التي لا يشاهدها، وما له لا ينكر ذلك وهو لا يعرف الإنسان إلا هذا الجسم الذي هو الجلد واللحم والعظم والعروق والأعصاب والشرايين ونحوها مما يمتلئ بكثرة الطعام والشراب فيه ويخلو بقتلهما عليه وما له لا ينكر ذلك وهو لا يقر بموجود إلا مسموعا متكلما به مبصرا مشموما ملموسا، وما له لا ينكر ذلك وطريقته في النصوص أبدا تأويل الصريح وتضعيف الصحيح، وأنها آحاد ظنية لا تفيد اليقين وليست بأصل بزعمه عند المحققين. ولا ذنب للنصوص وما نقم منها إلا أنها خالفت هواه وصرحت بنقض دعواه، وسدت عليه باب مغزاه وأوجبت عليه نبذ أقوال شيوخه وهدمت عليه ما قد بناه وألزمته باطراح كل قول غير ما قاله الله أو رسوله ونادت عليه بأبلغ صوت: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (الشورى: 21). والجواب عن الشبهة الأولى: أن الآية لا تدل على مدعاهم بوجه، فإنها في صفة أهل الجنة وما لهم فيها من كمال النعيم والخلد المقيم، وأنهم لا يذوقون فيها الموت بل ينعمون ولا يبأسون ويخلدون فلا يموتون وأين هذا من نفي عذاب القبر الذي ادعوه وقوله: (إلا الموتة الأولى) (الدخان: 56) تأكيد لنفي الموت عنهم في الجنة، وما المانع من كون الروح تتصل بالجسد في البرزخ اتصالا خاصا ليتألم الجسد بما يتألم به من دون أن تكون حياته كالحياة الدنيوية، بل ما المانع من كونها حياة مستقرة لا تشبه الحياة الدنيا وهي أعظم منها، فحجب الله تعالى رؤية ذلك عن عباده رحمة منه بهم كما يدل عليه ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الآتية من الإقعاد والمخاطبة والسؤال والجواب كفاحا كما يشاء الله عز وجل والفتح لباب الجنة للمؤمن وفرشه منها وفتح باب النار للمرتاب وقمعه بالمطارق والمرازب وغير ذلك مما سيأتي إن شاء الله تعالى بسطه. وأيضا فأهل الجنة المشار إليهم بقوله: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) (الدخان: 56) قد وردت فيهم الأحاديث الصحيحة أن أرواحهم تسرح في الجنة في حواصل طيور خضر كما روى الإمام أحمد عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن الإمام مالك بن أنس عن الإمام محمد بن شهاب الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه "، وفيهم الشهداء الذين قال الله تعالى فيهم: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) (البقرة: 154) يقول الله تعالى لنبيه وأصحابه: (ولكن لا تشعرون) فهل شعرتم بذلك يا معاشر الزنادقة دونهم؟ ويقول تعالى فيهم: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) (آل عمران: 169) الآيات. وذلك بخلاف الذين كفروا فإنهم كما قال الله تعالى فيهم: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) (غافر: 11) والموتة الثانية على أحد التفسيرين هي موتتهم بعد فتنة القبر وتفسير الجمهور لا ينافي ذلك فإنهم حملوا الموتة الأولى على العدم الذي قبل وجودهم، والثانية على الخروج من الدنيا ولم يعدوا نومتهم بعد الفتنة في القبر موتة مستقلة لأن حال البرزخ من الموتة الثانية وليس هو من دار الدنيا ولا دار الآخرة بل هو حاجز بينهما، والتفسير أول محمول على موتتين بعد الوجود خلا حالة العدم المحض قبل إيجادهم. وروى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي هريرة قال: إذا وضع- يعني الكافر- في قبره فيرى مقعده من النار، قال فيقول: رب ارجعون أتوب وأعمل صالحا. قال فيقال: قد عمرت ما كنت معمرا. قال فيضيق عليه قبره ويلتئم فهو كالمنهوش ينام ويفزع تهوي إليه هوام الأرض وحياتها وعقاربها. وعن الشبهة الثانية الجواب من وجهين: الأول: أن قوله: (وما أنت بمسمع من في القبور) (فاطر: 22) نفي لاستطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمعهم، وليس ذلك بمجال في قدرة الله أن يسعهم كما أسمع أهل القليب تبكيته صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " الحديث سيأتي إن شاء الله، وهذا إذا حمل على نفي مطلق السماع بالكلية. الوجه الثاني: أنه لم ينف مطلق السماع، وإنما نفى سماع الاستجابة كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث القليب: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون " وبهذا يتضح تشبيه الكفار بهم فإن الكفار كانوا يسمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعون منه كلام الله تعالى وهو يتلوه عليهم ولكن ليس ذلك بسماع استجابة، ولهذا أثبت تعالى هذا السماع الظاهر لهم في قوله تعالى: (يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها) (الجاثية: 8) ولو كان الكفار لم يسمعوا مطلقا لا سماع استجابة ولا مطلقا لم يكن القرآن حجة عليه ولم يكن الرسول بلغهم لأنهم ما سمعوه منه ولا أفسد من قولٍ هذا لازمه. وأما شبهتهم العقلية فهي لا تليق إلا بعقولهم السخيفة، فإن الروح التي عليها العذاب أو النعيم المتصل بالجسم ألمه ليس بمدرك في الدنيا ولا يعلمه إلا الله، فمن كان لا يدرك روح من يمشي معه ويكلمه ويأتمنه ويعامله فكيف يدركه إذا صار عن عالم الآخرة ليس من عالم الدنيا؟ وأيضا فاحتجاب ذلك عن أهل الدنيا من حكمة الله تعالى البالغة ورحمته بهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ". وأيضا فأكثر أمور الإيمان اعتقادات باطنة منا لأمور غائبة عنا وهي أعلى صفات أهل الإيمان الذين يؤمنون بالغيب) (البقرة: 3) وذلك غائب عنا في الحياة الدنيا ونحن نعلمه عن الله علم اليقين، فإذا خرجنا من هذه الدار صار الغيب شهادة ورأينا ذلك عين اليقين: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) (يونس: 39) والذي أحرقت أعضاؤه وتفرقت أجزاؤه يجمعه الذي أبدأه من لا أجزاء ولا أعضاء وسيأتي الحديث فيه إن شاء الله. ولا فرق بين من كذب بجمع هذا وبين من كذب بجمع الناس ليوم لا ريب فيه: (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) (الأعراف: 53) الآية. فيا أيها الطالب الحق المتحري الإنصاف، إليك نصوص الآيات المحكمة والسنن القائمة فألق لها سمعك وأحضر قلبك، وانظر بماذا عارضها الذين في قلوبهم زيغ، وكيف تتبعوا ما تشابه وأعرضوا عن المحكم ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كما أخبر الله تعالى عنهم فردوا المحكم بالمتشابه ولم يردوا علم ما غرب عنهم علمه إلى عالمه، وأحمد الله تعالى إذ هداك لما اختلفوا فيه ووفقك لما انحرفوا عنه من الحق المبين، وقل كما قال الراسخون في العلم: (آمنا به كل من عند ربنا) (آل عمران: 7) (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) (آل عمران: 8). قال الله تبارك وتعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون) (الأنعام: 93) الآية. قال أئمة التفسير: (والملائكة باسطو أيديهم) (الأنعام: 93) أي إليهم بالضرب والنكال وأنواع العذاب حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم: (أخرجوا أنفسكم) (الأنعام: 93) وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم فتفرق روحه في جسده وتعصى وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: (أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق) (الأنعام: 93) أي اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله. وسيأتي في الأحاديث كيفية احتضار المؤمن والكافر قريبا إن شاء الله. ووجه الدلالة من هذه الآية أنه إذا كان يفعل به هذا وهو محتضر بين ظهراني أهله صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وهم لا يرون شيئا من ذلك ولا يسمعون شيئا من ذلك التقريع والتوبيخ ولا يدرون بشيء من ذلك الضرب، غير أنهم يرون مجرد احتضاره وسياق نفسه لا يعلمون بشيء مما يقاسون الشدائد فلأن يفعل به في قبره ذلك وأعظم منه ولا يعلمه من كشف عنه أولى وأظهر لأنهم لم يطلعوا على ما يناله بين أظهرهم فكيف وقد انتقل إلى عالم غير عالمهم ودار غير دارهم، فلا بد للمخالف من أحد أمرين إما أن يقر بما أخبر الله تعالى به في المحتضر فيلزمهم ما ورد في عذاب القبر أو يجحد هذا وهذا فيكفر بتكذيبه الله ورسوله فبشره بتأويل هذه الآية إذا صار إلى ما صار إليه المكذبون. وقال: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) (إبراهيم: 27) وهذه الآية نصها في عذاب القبر بصريح الأحاديث الآتية وباتفاق أئمة التفسير من الصحابة فالتابعين فمن بعدهم، وإن المراد بالتثبيت هو عند السؤال في القبر حقيقة وأن من أنكر ذاك اعتمادا على كونه لا يراه ولا يسمعه فقد أنكر أن يكون الله يفعل ما يشاء. وقال تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (المؤمنون: 99). وروى ابن أبي حاتم بسنده عن عائشة رضي الله عنه أنها قالت: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور، تدخل عليهم في قبورهم حيات سود- أو دهم- حية عند رأسه وحية عند رجليه يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (المؤمنون: 99) وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ذلك قريبا، وسيأتي الأحاديث فيه. وقال تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) (غافر: 11) ذكر العيني هذه الآية في شرح هذا الباب من صحيح البخاري وقال: فإن الله تعالى ذكر الموتة مرتين وهما لا تتحققان إلا أن يكون في القبر حياة وموت حتى تكون إحدى الموتتين ما يتحصل عقيب الحياة في الدنيا، والأخرى ما يتحصل عقيب الحياة التي في القبر. أ. هـ. قلت: وهذا هو التفسير السدى في هذه الآية حيث قال: أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا، ثم أميتوا فأحيوا يوم القيامة. أ. هـ. والآية تحتمله، لكن المشهور عن ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم أن هذه الآية كقوله عز وجل: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) (البقرة: 28) وقد قدمنا الجمع بين هذين التفسيرين ولله الحمد والمنة. وقال تعالى: (سنعذبهم مرتين) (التوبة: 101) قال ابن مسعود وأبو مالك وابن جريج والحسن البصري وسعيد وقتادة وابن إسحاق ما حاصله أن المراد بذلك عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم هو عذاب النار. وقال تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) (السجدة: 21) قال البراء بن عازب ومجاهد وأبو عبيدة: يعني به عذاب القبر. وقال تعالى في قوم نوح: (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) (نوح: 25) وقال تعالى: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (غافر: 49). روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها، فذلك عرضها. وفي حديث الإسراء الطويل الذي أخرجه البيهقي وابن جرير وابن أبي حاتم من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: " ثم انطلق بى إلى خلق كثير من خلق الله عز وجل رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم مصفدون على سابلة آل فرعون، وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وآل فرعون كالإبل المسمومة يخطبون الحجارة والشجر ولا يعقلون. وفي حديث عائشة في قصة اليهودية التي قالت لها وقاك الله من عذاب القبر، فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك، فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم قالت له فقال صلى الله عليه وسلم: " لا " قالت عائشة رضي الله عنها: ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: " وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم " وسيأتي إن شاء الله قريبا. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فيقال ما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية وفيها الدلالة على عذاب البرزخ؟ والجواب: أن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا في البرزخ وليس فيها دلالة- يعني تامة- على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث المرضية. وقد يقال: إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنبه. وهذا الجواب هو الراجح عندي لما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما يفتن يهود "، وذلك قبل أن يوحى إليه أن أمته تفتن. والجواب الأول مرجح؛ لأن الآيات أيضا صريحة في اتصال عذاب القبر بالروح والجسد وما ليس صريحا منها فمحتمل يحمل على الصريح إذ لم يجيء في آية تخصيصه بالروح دون الجسد ونفيه عن الجسد، وقال الله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فلبئس مثوى المتكبرين) (النحل: 28- 29) وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها) (فاطر: 36) وكذلك قال تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعلمون) (النحل 32) وقال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) (الفجر: 28)
فصل: وأما نصوص السنة في إثبات عذاب القبر فقد بلغت الأحاديث في ذلك مبلغ التواتر، إذ رواها أئمة السنة وحملة الحديث ونقاده عن الجم الغفير والجمع الكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أنس بن مالك وعبد الله بن عباس والبراء بن عازب وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة أم المؤمنين وأسماء بنت أبي بكر وأبو أيوب الأنصاري وأم خالد وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وسمرة بن جندب وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وأبو بكرة وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبوه عمرو وأم مبشر وأبو قتادة وعبد الله بن مسعود وأبو طلحة وأسماء أيضا وعبد الرحمن بن حسنة وتميم الداري وحذيفة وأبو موسى والنعمان بن بشير وعوف بن مالك: فأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عياش حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد. وقال لي خليفة: حدثنا ابن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العبد إذا وضع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى أنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعا. وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين ". ورواه مسلم من طرق عن قتادة بنحوه وزاد فيه: " قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا- يعني المؤمن- ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون ". ولهما عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " وأعوذ بك من عذاب القبر ". ولمسلم عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ". وأما حديث عبد الله بن عباس فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن مجاهد عن طاووس قال ابن عباس رضي الله عنهما: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير " ثم قال: " بلى أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله " ثم قال: " أخذ عودا رطبا فكسره باثنتين ثم غرز كل واحد منهما على قبر ثم قال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " رواه في مواضع من صحيحه، ورواه مسلم أيضا وغيره. ولهما وللنسائي عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلم السورة من القرآن قولوا: " اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ". وأما حديث البراء بن عازب فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا حفص ابن عمر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أقعد المؤمن في قبره أتى ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) (إبراهيم: 27) رواه في مواضع ووافقه عليه مسلم وغيره. وروى الإمام أحمد عنه رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكث به في الأرض فرفع رأسه فقال: " استعيذوا بالله من عذاب القبر "- مرتين أو ثلاثا- ثم قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقفال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان- قال- فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِيِّ السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الريح الطيبة؟ فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التى كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولون له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولون له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولون له: ما هذا الرجل الذي بعث لكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد البصر، قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي- قال- وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) (الأعراف: 40) فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين الأرض السفلى، فيطرح روحه طرحا، ثم قرأ: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتحفظه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) (الحج: 31) فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة ". زاد في رواية في قصة المؤمن: " حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء وليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز وجل أن يعرج بروحه من قبلهم " وزاد في قصة الكافر: " ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان ترابا، فيضربه ضربة فيصير ترابا ثم يعيده الله عز وجل كما كان فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين- قال البراء- ثم يفتح له باب من النار ويمهد له فراش من النار ". ورواه أبو داوود والنسائي وابن ماجه بنحوه. وأما حديث عمر بن الخطاب فرواه مسلم من طرق عنه رضي الله عنه قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى. قال فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا. قال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا ". ولأبي داود والنسائي وابن ماجه عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجبن والبخل وعذاب القبر وفتنة الصدر ". وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال البخاري رحمه الله تعالى " باب الميت يعرض بالغداة والعشي ". حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ". وله عنه رضي الله عنه قال: " اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال: وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فقيل له: تدعو أمواتا؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون ". وأما حديث عائشة أم المؤمنين فقال البخاري رحمه الله تعالى " باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف " حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذلك، ثم ذكرحديث الكسوف بطوله وفيه آخره- ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر " ورواه مسلم بنحوه. وقال البخاري أيضا: " حدثنا عبدان أخبرني أبي سمعت الأشعث عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: عذاب القبر حق. قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر " ووافقه عليه مسلم وغيره ". وقال مسلم أيضا: " حدثنا هارون بن سعيد وحرملة بن يحيى قال هارون حدثنا- وقال حرملة أخبرنا- ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنما تفتن يهود. قالت عائشة: فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة رضي الله عنها: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر ". وقال رحمه الله تعالى أيضا: " حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن جرير، قال زهير: حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي عجوزان من عجز يهود المدينة فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم. قالت: فكذبتهما ولم أنعم أن أصدقهما، فخرجتا ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا علي فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم. فقال: صدقتا، إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم. ثم قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر ". ولهما عنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال. اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ". ولمسلم عنها من حديثها في الكسوف، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: " ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لحي وهو الذي سيب السوائب ". وأما حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فقال البخاري رحمه الله تعالى: " حدثنا يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة ". ولهما عنها رضي الله عنها حديث الكسوف بطوله وفيه: " فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، لقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل- أو قريبا من- فتنة الدجال. لا أدري أيهما قالت أسماء. يؤتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن- أو الموقن، لا أدري أي ذلك قالت أسماء- فيقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا. فيقال له: نم صالحا، فقد علمناك كنت لموقنا، وأما المنافق- أو المرتاب، لا أدري أي ذلك قالت أسماء- فيقول لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ". قوله: " لا أدري أي ذلك إلخ " التردد فيه من فاطمة بنت المنذر الراوية عن أسماء رضي الله عنهما. وأما حديث أبي أيوب الأنصاري فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا ابن المثنى حدثنا يحيى حدثنا شعبة قال حدثني عون عن أبي جحيفة عن البراء بن عازب عن أبي أيوب رضي الله عنهم قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس فسمع صوتا فقال يهود تعذب في قبورها " رواه مسلم من طريق جماعة عن شعبة به. وأما حديث أم خالد فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا معلي حدثنا وهيب عن موسى بن عقبة قال: " حدثتني ابنة خالد بن سعيد بن العاص أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعوذ من عذاب القبر ". وقال في كتاب الدعوات: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا موسى بن عقبة به إلخ. وأما حديث أبي هريرة فقال مسلم رحمه الله تعالى: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا حماد بن زيد حدثنا بديل عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها " قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر السمك قال: " ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه. فينطلق به إلى ربه عز وجل ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال: وإن الكافر إذا خرجت روحه ". قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعنا. " ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض. قال: فيقال انطلقوا به إلى آخر الأجل، قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا ". ولهما عنه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ". وقال الترمذي رحمه الله تعالى " باب ما جاء في عذاب القبر ": حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف البصري أخبرنا بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قبر الميت- أو قال أحدكم- أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولون: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهليه إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثله لا أدري. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك. فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ". وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا حسين بن محمد عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الميت يحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقولون: مرحبا بالروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء والعياذ بالله قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بجحيم وغساق وآخر من شكله أزواج. فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: هذا فلان. فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء، فيرسل من السماء ثم يصير إلى القبر ". وقال ابن حبان في صحيحه: حدثنا عمر بن محمد الهمذاني حدثنا زيد بن أخزم حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن قسامة بن زهير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجي إلى روح الله، فتخرج كأطيب ريح مسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقال: ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض؟ ولا يأتون السماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحا به من أهل الغائب بغائبهم. فيقولون ما فعل فلان فيقولون دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم فيقول قد مات أما أتاكم؟ فيقولون ذهب به إلى أمه الهاوية. وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون اخرجي إلى غضب الله تعالى، فتخرج كأنتن ريح جيفة فيذهب به إلى باب الأرض ". زاد في رواية: " وأما الكافر إذا قبضت نفسه وذهب بها إلى باب الأرض تقول خزنة الأرض ما وجدنا ريحا أنتن من هذه، فيبلغ الأرض السفلى ". وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (إبراهيم: 27) قال: " ذلك إذا قيل له في القبر من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت. فيقال له: صدقت، على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث ". وقال ابن جرير رحمه الله تعالى: حدثنا مجاهد بن موسى والحسن بن محمد قالا: حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده إن الميت ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه مدبرين، فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصوم عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، فيؤتى عن يساره فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، فيؤتى من رجليه فيقول فعل الخيرات: ما قبلي مدخل، فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب فيقال أخبرنا عما نسئلك فيقول: دعني حتى أصلي، فيقال له إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك فيقول وعم تسألوني؟ فيقال أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه وما تشهد به عليه؟ فيقول: أمحمد؟ فيقال له نعم. فيقول: أشهد أنه رسول الله وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه. فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا، وينور له ويفتح له باب في الجنة فيقال له انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم تجعل نسمته في النسم الطيب وهي طير خضر يعلق بشجر الجنة ويعاد الجسد إلى ما بدأ من التراب وذلك قول الله عز وجل: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (إبراهيم: 27) ورواه ابن حبان من طريق المعتمر بن سليمان عن محمد بن عمرو، وذكر جواب الكافر وعذابه. وقال البزار رحمه الله تعالى: حدثنا سعيد بن بحر القراطيسي حدثنا الوليد بن القاسم حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة أحسبه رفعه قال: " إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين فيود لو خرجت- يعني نفسه- والله يحب لقاءه. وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فتستخبره عن معارفهم من أهل الأرض فإذا قال تركت فلانا في الأرض أعجبهم ذلك، وإذا قال: إن فلانا قد مات قالوا: ما جيء به إلينا. وإن المؤمن يجلس في قبره فيسأل من ربك؟ فيقول ربي الله عز وجل، ويسأل من نبيك؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم نبيي، فيقال ماذا دينك؟ قال ديني الإسلام. فيفتح له باب في قبره فيقول- أو يقال- انظر إلى مجلسك ثم يرى القبر فكأنما كانت رقدة. وإذا كان عدوا لله نزل به الموت وعاين ما عاين فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبدا والله يبغض لقاءه، فإذا جلس في قبره أو جلس فيقال له من ربك فيقول لا أدري فيقال لا دريت فيفتح له باب إلى جهنم ثم يضرب ضربة تسمعها كل دابة إلا الثقلين، ثم يقال له نم كما ينام المنهوش ". قلت لأبي هريرة: ما المنهوش؟ قال الذي تنهشه الدواب والحيات، ثم يضيق عليه قبره ثم قال: لا نعلم رواه إلا الوليد بن مسلم، وفي بعض النسخ ابن قاسم. وأما حديث أبي سعيد وسلمان فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود حدثنا معتمر سمعت أبي حدثنا قتادة عن عقبة عن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه ذكر رجلا فيمن سلف وفي من كان قبلكم قال كلمة يعني أعطاه الله مالا وولدا، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا خير أب. قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيرا، وإن يقدر الله عليه يعذبه فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني- أو قال فاسحكوني- فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني فيها. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي. ففعلوا ثم أذروه في يوم عاصف، فقال الله عز وجل: كن، فإذا هو رجل قائم، قال الله: أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك، أو فرق منك. قال: فما تلافاه أن رحمه عندها " وقال مرة أخرى: " فما تلافاه " فحدثت به أبا عثمان فقال سمعت هذا من سلمان غير أنه زاد فيه " اذروني في البحر " أو كما حدث- وفي رواية له عن أبي سعيد قال: " ففعلوا فجمعه الله عز وجل فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك. فتلقاه برحمة ". وقال رحمه الله تعالى " باب كلام الميت على الجنازة "، حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق ". وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر حدثنا عباد بن راشد عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: " شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق من حديد فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت. ثم يفتح له باب النار فيقول: كان هذا منزلك لو كفرت بربك، فأما إذا آمنت فهذا منزلك، فيفتح له بابا إلى الجنة فيريد أن ينهض إليه فيقول له: اسكن اسكن، ويفسح له في قبره. وإن كان كافرا أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا، فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت. ثم يفتح له بابا إلى الجنة فيقول: هذا منزلك لو كنت آمنت بربك فأما إذا كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا، فيفتح له بابا إلى النار، ثم يقمعه قمعة بالمطراق فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين. فقال بعض القوم: يا رسول الله، ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل عند ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت). ولابن مردويه عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) في القبر ". وأما حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير بن حازم حدثنا أبو رجاء عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال فإن رأى أحد قصها فيقول: ما شاء الله. فسألنا يوما فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده- قال بعض أصحابنا عن موسى- كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله. قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى آتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر- أو صخرة- فيشرخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو فعاد إليه. قلت: من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نارا فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر ورجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان ثم أخرجاني منها فصعدا بي إلى الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشبان. قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت. قالا: نعم، أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشرخ رأسه فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة، والذي رأيته في الثقب فهم الزناة، والذي رأيته في النهر آكلوا الربا، والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام والصبيان حوله فأولاد الناس، والذي يوقد النار مالك خازن النار والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء، وأنا جبريل وهذا ميكائيل، فارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب قالا: ذاك منزلك. قلت: دعاني أدخل منزلي قالوا إنه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك ". وأما حديث عثمان رضي الله عنه فقال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا هشام هو ابن يوسف عن عبد الله بن بجير عن هانئ مولى عثمان عن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال: " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " قال ابن حجر: صححه الحاكم. وأما حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال الترمذي رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن حاتم المؤدب أخبرنا علي بن ثابت حدثني قيس بن الربيع وكان من بني أسد عن الأغر بن الصباح عن خليفة بن حصين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " أكثر ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفه في الموقف: اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول. اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي ولك رب تراثي. اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح ". وأما حديث زيد بن ثابت فقال مسلم رحمه الله تعالى: حدثنا يحيى بن أيوب وأبو بكر بن أبي شيبة جميعا عن ابن علية قال ابن أيوب حدثنا ابن علية قال وأخبرني سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن زيد بن ثابت قال أبو سعيد ولم أشهده من النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة- قال كذا كان يقول الجريري- فقال من: يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا. قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك. فقال: " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال: قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال وأما حديث جابر بن عبد الله فقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سأل جابر بن عبد الله عن فتاني القبر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه جاء ملك شديد الانتهار فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: إنه رسول الله وعبده. فيقول له الملك: انظر إلى مقعدك الذي كان لك في النار قد أنجاك الله منه وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة. فيراهما كليهما. فيقول المؤمن: دعوني أبشر أهلي. فيقال له: اسكن. وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدري أقول كما يقول الناس. فيقال له: لا دريت، هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة أبدلك مكانه مقعدك من النار. قال جابر: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يبعث كل عبد في القبر على ما مات، المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه ". ولمسلم عنه من حديث الكسوف وفيه: " وعرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار- وفي رواية- لقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن تصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر فصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به. وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا " الحديث. وأما حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فرواه البخاري من عدة طرق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا هؤلاء الكلمات كما تعلم الكتابة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر ". وأما حديث زيد بن أرقم فقال مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن نمير واللفظ لابن نمير قال إسحاق أخبرنا- وقال الآخران حدثنا- أبو معاوية عن عاصم عن عبد الله بن الحارث وعن أبي عثمان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: " لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها ". رواه النسائي. وأما حديث أبي بكرة فأخرجه النسائي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في أثر الصلاة: " اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وعذاب القبر ". وأما حديث عبد الرحمن بن سمرة فقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه (نوادر الأصول): حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال: " إني رأيت البارحة عجيبا، رأيت رجلا من أمتي جاء ملك الموت ليقبض روحه فجاء بره بوالديه فرد عنه. ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك. ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله عز وجل فخلصه من بينهم. ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم. ورأيت رجلا من أمتي يلتهب عطشا كلما ورد حوضا منع منه، فجاءه صيامه فسقاه وأرواه. ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة وهو متحير فيها، فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور. ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه، فجاءته صلة الرحم فقالت: يا معشر المؤمنين كلموه، فكلموه. ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت له سترا على وجهه وظلا على رأسه. ورأيت رجلا من أمتي أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة. ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه بينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل. ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه. ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه. ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكت من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار. ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط كما ترعد السفعة فجاء حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى. ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا فجاءته صلاته فأخذت بيده فأقامته ومضى على الصراط. ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى باب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة " ورواه القرطبي رحمه الله في تذكرته وقال: هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة. وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فرواه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمغرم والمأثم، وأعوذ بك من شر المسيح الدجال، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب النار ". وللحكيم الترمذي عنه رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتاني القبر، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أترد لنا عقولنا يا رسول الله؟ قال: نعم، كهيئتكم اليوم. فقال عمر في فيه الحجر ". وروى البغوي عنه رضي الله عنه موقوفا عليه " إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عز وجل ملكين وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال لها: اخرجي يا أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح وريحان ورب عنك راض. فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملائكة على أرجاء السماء يقولون: قد جاء من الأرض روح طيبة- أو نسمة طيبة- فلا تمر بباب إلا فتح لها، ولا بملك إلا صلى عليها حتى يؤتى بها الرحمن عز وجل، فتسجد ثم قال لميكائيل: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين. ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعا عرضه وسبعون ذراعا طوله، وينبذ له ريحان وإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن جعل له نور مثل الشمس في قبره، ويكون مثله مثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه. وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين وأرسل قطعة من بجاد أنتن وأخشن من كل خشن فيقال: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم ورب عليك غضبان ". وأما حديث أبيه عمرو بن العاص فرواه مسلم في قصة وفاته مطولا، وفيه: " فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي عز وجل ". وأما حديث أم مبشر فأخرجه عنها ابن أبي شيبة في مصنفه قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في حائط من حوائط بني النجار فيه قبور منهم قد ماتوا في الجاهلية، قالت: فخرج فسمعته يقول: " استعيذوا بالله من عذاب القبر " قلت: يا رسول الله وللقبر عذاب؟ قال: " إنهم ليعذبون عذابا في قبورهم تسمعه البهائم ". وأما حديث أبي قتادة رضي الله عنه فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي حدثنا شريح بن مسلمة حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد البجلي عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (إبراهيم: 27) الآية. قال: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له: من ربك؟ فيقول: الله عز وجل. فيقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. فيقال له ذلك مرات ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له: انظر إلى منزلك من النار، لو زغت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: انظر إلى منزلك من الجنة إذ ثبتَّ. وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له: من ربك، من نبيك؟ فيقول: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون. فيقال له: لا دريت. ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال: انظر إلى مجلسك من الجنة لو ثبت. ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له: انظر إلى منزلك إذا زغت. فذلك قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (إبراهيم: 27). وأما حديث عبد الله بن مسعود فقال مسلم رحمه الله تعالى: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سويد عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: " أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له " قال: أراه قال فيهن " له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها. رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر. رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبور " وإذا أصبح قال ذلك أيضا: " أصبحنا وأصبح الملك لله ". حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن الحسن بن عبيد الله إلخ بنحوه، وفيه: " اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر، وفتنة الدنيا وعذاب القبر ". وقال النسائي أخبرنا محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا الفضل بن موسى عن زكريا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من خمس: من البخل، والجبن، وسوء العمر، وفتنة الصدر، وعذاب القبر ". وروى الطحاوي عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله ويدعوه حتى صارت واحدة، فامتلأ عليه قبره نارا " الحديث ذكره العيني في شرح البخاري، والله أعلم بصحته. وعزاه في التبصرة إلى أبي القاسم الحريري، وتقدم عنه قريبا حديث أم حبيبة وفيه الاستعاذة من عذاب القبر. وأما حديث أبي طلحة فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثني عبد الله بن محمد سمع روح بن عبادة حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجة، حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ قال فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ". قال قتادة: أحياهم الله تعالى حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما. وأما حديث أسماء الآخر، فقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن محمد بن المكندر قال: كانت أسماء- يعني بنت الصديق رضي الله عنها- تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال: " إذا دخل الإنسان قبره فإن كان مؤمنا أحف به عمله الصلاة والصيام، قال: فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ومن نحو الصيام فيرده، قال فيناديه اجلس فيجلس فيقول له: ماذا تقول في هذا الرجل؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم. قال: من؟ قال: محمد. قال: أشهد أنه رسول الله. قال فيقول: على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث. وإن كان فاجرا أو كافرا جاءه الملك ليس بينه وبينه شيء يرده فأجلسه فيقول له: ماذا تقول في هذا الرجل؟ قال: أي رجل؟ قال: محمد. قال يقول: والله ما أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. قال له الملك: على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث. قال ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط ثمرته جمرة مثل عرف البعير تضربه ما شاء الله صماء لا تسمع صوته فترحمه " والأنسب لمكان هذا الحديث أن ينقل عند حديثي أسماء الأولين. وأما حديث عبد الرحمن بن حسنة فقال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن حسنة قال: انطلقت أنا وعمرو بن العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخرج ومعه درقة ثم استتر بها ثم بال، فقلنا انظروا إليه يبول كما تبول المرأة. فسمع ذلك فقال: ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم البول قطعوا ما أصابه البول منهم، فنهاهم فعذب في قبره " ورواه النسائي وابن ماجه. وأما حديث تميم الداري فرواه أبو يعلى الموصلي بسنده عنه مطولا بسياق عجيب ومتن غريب وغالب معناه في الأحاديث الصحيحة فلا نطيل بسياقه استغناء عنه بغيره ولله الحمد والمنة. وأما حديث حذيفة فقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش قال: قال عقبة لحذيفة: " ألا تحدثنا ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته يقول: إن رجلا حضره الموت لما يئس من الحياة أوصى أهله إذا مت فاجعلوا لي حطبا كثيرا ثم أوروا نارا حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فخذوها فاطحنوها فذروني في اليم في يوم حار أو راح، فجمعه الله فقال: لم فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له ". قال عقبة وأنا سمعته يقول: حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة حدثنا عبد الملك وقال " في يوم راح ". وقد تقدمت هذه القصة من حديث أبي سعيد الخدري. وقد رواها البخاري رحمه الله تعالى أيضا من حديث أبي هريرة فقال: حدثني عبد الله بن محمد حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا. فلما مات فعل به ذلك فأمر الله تعالى الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رب خشيتك حملتني. فغفر له " وقال غيره: " مخافتك يا رب ". ومحل هذا الحديث مع أحاديث أبي هريرة المتقدمة فلينقل إلى هناك. وأما حديث أبي موسى فرواه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وهذا لفظ أحمد: عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه واناصراه، واكاسباه، جبذ الميت وقيل: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسبها؟ ". ولفظ الترمذي: " ما من ميت يموت فيقوم باكيه فيقول: واجبلاه واسنداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه: أهكذا كنت؟ ". وأما حديث النعمان بن بشير فرواه الشيخان البخاري ومسلم عنه رضي الله عنه قال: " أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لي آنت كذلك؟ فلما مات لم تبك عليه رضي الله عنه ". وأما حديث عوف بن مالك فقال مسلم رحمه الله تعالى: حدثني هارون بن سعيد الأيلي أخبرني ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير سمعه يقول: " سمعت عوف بن مالك يقول: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: " اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار " قال حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت. وفي رواية: " وقه فتنة القبر وعذاب النار ".
وباللقا والبعث والنشور *** ويقيامنا من القبور غرلا حفاة كجراد منتشر *** يقول ذو الكفران ذا يوم عسر أي ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بلقاء الله عز وجل الحاصل فيه، قال الله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون) (البقرة: 45) وقال تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) (الانشقاق: 6) وقال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) (الكهف: 110) وقال تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) (يونس: 7- 8) وقال تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) (الأنعام: 31). وقال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) (يونس: 15) وقال تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهم السميع العليم) (العنكبوت: 5) وقال تعالى: (واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه) (البقرة: 223) وقال تعالى: (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) (البقرة: 249) وقال تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) (الفرقان: 32) وقال تعالى: (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) (التوبة: 77) وقال تعالى: (إنهم كانوا لا يرجون حسابا) (النبأ: 27) وغيرها من الآيات. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ". فقلت: يا نبي الله، أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت. فقال: " ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه- وفي رواية- والموت قبل لقاء الله ". وفيه عن شريح بن هانئ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ". قال فأتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا إن كان كذلك فقد هلكنا. فقالت: إن الهالك من هلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه "، وليس من أحد إلا وهو يكره الموت. فقالت: وقد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بالذي تذهب إليه ولكن إذا شخص البصر وحشرج الصدر واقشعر الجلد وتشنجت الأصابع فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. وفيه عن عبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم المرفوع منه دون شرحه. وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟ قالوا: لا. قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا. قال: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. قال فيلقى العبد فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. قال فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب. فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول: يا رب، آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إذا. قال ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك. ويتفكر في نفسه من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه ". وفي حديث القراء أصحاب بئر معونة: " بلغوا قومنا عنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ". وروي أنه كان قرآنا فنسخت تلاوته. والآيات والأحاديث في إثبات لقاء الله عز وجل كثيرة جدا، ومن كذب بذلك كفر.
|