الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ حَمْدِهِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ أَفْعَالِهِ لَاسِيَّمَا وَعَامَّةُ مَوَادِّ الْحَمْدِ فِي الْقُرْآنِ- أَوْ كُلُّهَا- إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَكَذَلِكَ هُوَ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، الْمُتَضَمِّنَةِ لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَمِنَ الْمُسْتَحِيلِ مُقَارَنَةُ الْفِعْلِ لِفَاعِلِهِ، هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي كُلِّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، وَفِطْرَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، فَالْفِعْلُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ فَاعِلِهِ بِالضَّرُورَةِ. وأَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَا يَكُونُ مُتَعَلِّقُهَا قَدِيمًا الْبَتَّةَ. الثَّانِي: إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّتِهِ لِلْعَالَمِينَ، وَتَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْعَالَمُ كُلُّ مَا سِوَاهُ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مَرْبُوبٌ، وَالْمَرْبُوبُ مَخْلُوقٌ بِالضَّرُورَةِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِذًا رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ مَا سِوَاهُ تَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَهُ عَلَيْهِ، وَحُدُوثَ الْمَرْبُوبِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ قَدِيمًا وَهُوَ مَرْبُوبٌ أَبَدًا، فَإِنَّ الْقَدِيمَ مُسْتَغْنٍ بِأَزَلِيَّتِهِ عَنْ فَاعِلٍ لَهُ، وَكُلُّ مَرْبُوبٍ فَهُوَ فَقِيرٌ بِالذَّاتِ، فَلَا شَيْءَ مِنَ الْمَرْبُوبِ يُغْنِي وَلَا قَدِيمَ. الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ مُشَارَكَةِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ لَهُ فِي خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْقُدْرَةُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَالتَّوْحِيدُ يَنْفِي ثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ ضَرُورَةً، كَمَا يَنْفِي ثُبُوتَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ لِغَيْرِهِ.
وَذَلِكَ مِنْ قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إِلَى آخِرِهَا. وَوَجْهُ تَضَمُّنِهِ إِبْطَالَ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُنْعَمٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوهُ، وَمَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَرَفَضُوهُ، وَضَالُّونَ وَهُمُ الَّذِينَ جَهِلُوهُ فَأَخْطَئُوهُ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ لِلْحَقِّ، وَأَتْبَعَ لَهُ كَانَ أَوْلَى بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمْ أَوْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الرَّوَافِضِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- جَهِلُوا الْحَقَّ وَعَرَفَهُ الرَّوَافِضُ، أَوْ رَفَضُوهُ وَتَمَسَّكَ بِهِ الرَّوَافِضُ. ثُمَّ إِنَّا رَأَيْنَا آثَارَ الْفَرِيقَيْنِ تَدُلُّ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ مِنْهُمَا، فَرَأَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحُوا بِلَادَ الْكُفْرِ، وَقَلَبُوهَا بِلَادَ إِسْلَامٍ، وَفَتَحُوا الْقُلُوبَ بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالْهُدَى، فَآثَارُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَرَأَيْنَا الرَّافِضَةَ بِالْعَكْسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَإِنَّهُ قَطٌّ مَا قَامَ لِلْمُسْلِمِينَ عَدُوٌّ مِنْ غَيْرِهِمْ إِلَّا كَانُوا أَعْوَانَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَمْ جَرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْ بَلِيَّةٍ؟ وَهَلْ عَاثَتْ سُيُوفُ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ- مِنْ عَسْكَرِ هُولَاكُو وَذَوِيهِ مِنَ التَّتَارِ- إِلَّا مِنْ تَحْتِ رُءُوسِهِمْ؟ وَهَلْ عُطِّلَتِ الْمَسَاجِدُ، وَحُرِّقَتِ الْمَصَاحِفُ، وَقُتِلَ سَرَوَاتُ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ وَعُبَّادُهُمْ وَخَلِيفَتُهُمْ، إِلَّا بِسَبَبِهِمْ وَمِنْ جَرَّائِهِمْ؟ وَمُظَاهَرَتُهُمْ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَآثَارُهُمْ فِي الدِّينِ مَعْلُومَةٌ. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؟ وَأَيُّهُمْ أَحَقُّ بِالْغَضَبِ وَالضَّلَالِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ وَلِهَذَا فَسَّرَ السَّلَفُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَأَهْلَهُ: بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ كَمَا فَسَّرُوهُ، فَإِنَّهُ صِرَاطُهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ عَيْنُ صِرَاطِ نَبِيِّهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَغَضِبَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَحُكِمَ لِأَعْدَائِهِمْ بِالضَّلَالِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ رَفِيعٌ الرِّيَاحِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَهُمَا مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ: " الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ "، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ " {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ": هُمْ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ "، وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ آلَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، وَمُوَالَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَثَنَاؤُهُمْ عَلَيْهِمَا، وَمُحَارَبَةُ مَنْ حَارَبَا، وَمُسَالَمَةُ مَنْ سَالَمَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ خَاصِّهَا وَعَامِّهَا، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ هُمْ أَتْبَاعُهُ، وَالْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَأَتْبَعُ الْأُمَّةِ لَهُ وَأَطْوَعَهُمْ أَصْحَابُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَأَتْبَعُ الصَّحَابَةِ لَهُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَأَشَدُّ الْأُمَّةِ مُخَالَفَةً لَهُ هُمُ الرَّافِضَةُ، فَخِلَافُهُمْ لَهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ فِرَقِ الْأُمَّةِ، وَلِهَذَا يُبْغِضُونَ السُّنَّةَ وَأَهْلَهَا، وَيُعَادُونَهَا وَيُعَادُونَ أَهْلَهَا، فَهُمْ أَعْدَاءُ سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ بَنِيهِمْ أَكْمَلُ مِيرَاثًا؟ بَلْ هُمْ وَرَثَتُهُ حَقًّا. فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ طَرِيقُ أَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَطَرِيقُ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ طَرِيقُ الرَّافِضَةِ. وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ- بِعَيْنِهَا- يُرَدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ مُعَادَاتَهُمُ الصَّحَابَةَ مَعْرُوفَةٌ.
وَسِرُّ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ انْتَهَى إِلَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، حَتَّى قِيلَ: أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ مَعَانِيَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ هَذِهِ الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَجَمَعَ مَعَانِيَ الْمُفَصَّلِ فِي الْفَاتِحَةِ، وَمَعَانِيَ الْفَاتِحَةِ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وَهُمَا الْكَلِمَتَانِ الْمَقْسُومَتَانِ بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ عَبْدِهِ نِصْفَيْنِ، فَنَصِفُهُمَا لَهُ تَعَالَى، وَهُوَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " وَنِصْفُهُمَا لِعَبْدِهِ وَهُوَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ". وَسَيَأْتِي سِرُّ هَذَا وَمَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْعِبَادَةُ تَجْمَعُ أَصْلَيْنِ: غَايَةُ الْحُبِّ بِغَايَةِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ مُذَلَّلٌ، وَالتَّعَبُّدُ: التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، فَمَنْ أَحْبَبْتَهُ وَلَمْ تَكُنْ خَاضِعًا لَهُ، لَمْ تَكُنْ عَابِدًا لَهُ، وَمَنْ خَضَعْتَ لَهُ بِلَا مَحَبَّةٍ لَمْ تَكُنْ عَابِدًا لَهُ حَتَّى تَكُونَ مُحِبًّا خَاضِعًا، وَمِنْ هَاهُنَا كَانَ الْمُنْكِرُونَ مَحَبَّةَ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ مُنْكِرِينَ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْمُنْكِرُونَ لِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِمْ، وَوَجْهُهُ الْأَعْلَى نِهَايَةُ بُغْيَتِهِمْ- مُنْكِرِينَ لِكَوْنِهِ إِلَهًا، وَإِنْ أَقَرُّوا بِكَوْنِهِ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ وَخَالِقًا لَهُمْ، فَهَذَا غَايَةُ تَوْحِيدِهِمْ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَلَمْ يَخْرُجُوا بِهِ عَنِ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} إِلَى قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وَلِهَذَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهِ عَلَى تَوْحِيدِ إِلَهِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وَالِاسْتِعَانَةُ تَجْمَعُ أَصْلَيْنِ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَثِقُ بِالْوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِ- مَعَ ثِقَتِهِ بِهِ- لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ، وَقَدْ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ- مَعَ عَدَمِ ثِقَتِهِ بِهِ- لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاثِقٍ بِهِ. وَالتَّوَكُّلُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِنْ أَصْلَيْنِ: مِنَ الثِّقَةِ، وَالِاعْتِمَادِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " وَهَذَانَ الْأَصْلَانِ- وَهُمَا التَّوَكُّلُ، وَالْعِبَادَةُ- قَدْ ذُكِرَا فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِيهَا، هَذَا أَحَدُهَا. الثَّانِي: قَوْلُ شُعَيْبٍ {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}. السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}. فَهَذِهِ سِتَّةُ مَوَاضِعَ يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ، وَهُمَا " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ". وَتَقْدِيمُ " الْعِبَادَةِ " عَلَى " الِاسْتِعَانَةِ " فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْغَايَاتِ عَلَى الْوَسَائِلِ، إِذِ " الْعِبَادَةُ " غَايَةُ الْعِبَادِ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا، وَ " الِاسْتِعَانَةُ " وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " مُتَعَلِّقٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَاسْمِهِ " اللَّهِ " وَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاسْمِهِ " الرَّبِّ " فَقَدَّمَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " عَلَى " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " كَمَا قَدَّمَ اسْمَ " اللَّهِ " عَلَى " الرَّبِّ " فِي أَوَّلِ الْسُـورَةِ، وَلِأَنَّ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " قَسْمُ " الرَّبِّ "، فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهِ، وَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " قَسْمُ الْعَبْدِ، فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الَّذِي لَهُ، وَهُوَ " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " الْمُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ " الِاسْتِعَانَةُ " مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَكُلُّ عَابِدٍ لِلَّهِ عُبُودِيَّةً تَامَّةً مُسْتَعِينٌ بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَغْرَاضِ وَالشَّهَوَاتِ قَدْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى شَهَوَاتِهِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَتْ قَسْمَ الرَّبِّ. وَلِأَنَّ " الِاسْتِعَانَةَ " جُزْءٌ مِنِ " الْعِبَادَةِ " مِنْ غَيْرٍ عَكْسٍ، وَلِأَنَّ " الِاسْتِعَانَةَ " طَلَبٌ مِنْهُ، وَ " الْعِبَادَةَ " طَلَبٌ لَهُ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُخْلِصٍ، وَ " الِاسْتِعَانَةَ " تَكُونُ مِنْ مُخْلِصٍ وَمِنْ غَيْرِ مُخْلِصٍ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " حَقُّهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ، وَ " الِاسْتِعَانَةُ " طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى " الْعِبَادَةِ "، وَهُوَ بَيَانُ صَدَقَتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَدَاءُ حَقِّهِ أَهَمُّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِصَدَقَتِهِ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَشْكُرَ، وَالْإِعَانَةُ فِعْلُهُ بِكَ وَتَوْفِيقُهُ لَكَ، فَإِذَا الْتَزَمْتَ عُبُودِيَّتَهُ، وَدَخَلْتَ تَحْتَ رِقِّهَا أَعَانَكَ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْتِزَامُهَا وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّهَا سَبَبًا لِنَيْلِ الْإِعَانَةِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَتَمَّ عُبُودِيَّةً كَانَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَعْظَمَ. وَالْعُبُودِيَّةُ مَحْفُوفَةٌ بِإِعَانَتَيْنِ: إِعَانَةٍ قَبْلَهَا عَلَى الْتِزَامِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا، وَإِعَانَةٍ بَعْدَهَا عَلَى عُبُودِيَّةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا أَبَدًا، حَتَّى يَقْضِيَ الْعَبْدُ نَحْبَهُ. وَلِأَنَّ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " لَهُ، وَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " بِهِ، وَمَا لَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا بِهِ، لِأَنَّ مَا لَهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَمَا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِمَحَبَّتِهِ أَكْمَلُ مِمَّا تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ مَشِيئَتِهِ، فَإِنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْكُفَّارُ، وَالطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي، وَالْمُتَعَلِّقُ بِمَحَبَّتِهِ: طَاعَتُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ، فَالْكُفَّارُ أَهْلُ مَشِيئَتِهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ مَحَبَّتِهِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِرُّ فِي النَّارِ شَيْءٌ لِلَّهِ أَبَدًا، وَكُلُّ مَا فِيهَا فَإِنَّهُ بِهِ تَعَالَى وَبِمَشِيئَتِهِ. فَهَذِهِ الْأَسْرَارُ يَتَبَيَّنُ بِهَا حِكْمَةُ تَقْدِيمِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " عَلَى " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ". وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَعْبُودِ وَالْمُسْتَعَانِ عَلَى الْفِعْلَيْنِ، فَفِيهِ: أَدَبُهُمْ مَعَ اللَّهِ بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَفِيهِ الِاهْتِمَامُ وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ بِهِ، وَفِيهِ الْإِيذَانُ بِالِاخْتِصَاصِ، الْمُسَمَّى بِالْحَصْرِ، فَهُوَ فِي قُوَّةٍ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ ذَوْقُ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفِقْهُ فِيهَا، وَاسْتِقْرَاءُ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ مُقَدَّمًا، وَ سِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ، وَلَمْ يَنْفِ غَيْرَهُ. وَلِأَنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ الْقَائِلِ أَنْ يُعْتِقَ عَشَرَةَ أَعْبُدٍ مَثَلًا، ثُمَّ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: إِيَّاكَ أَعْتَقْتُ، وَمَنْ سَمِعَهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَغَيْرَهُ أَيْضًا أَعْتَقْتَ، وَلَوْلَا فَهْمُ الِاخْتِصَاصِ لَمَا قُبِّحَ هَذَا الْكَلَامُ، وَلَا حَسُنَ إِنْكَارُهُ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} كَيْفَ تَجِدُهُ فِي قُوَّةِ: لَا تَرْهَبُوا غَيْرِي، وَلَا تَتَّقُوا سِوَايَ، وَكَذَلِكَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " هُوَ فِي قُوَّةِ: لَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ، وَكُلُّ ذِي ذَوْقٍ سَلِيمٍ يَفْهَمُ هَذَا الِاخْتِصَاصَ مِنْ عِلَّةِ السِّيَاقِ. وَلَا عِبْرَةَ بِجَدَلِ مَنْ قَلَّ فَهْمُهُ، وَفُتِحَ عَلَيْهِ بَابُ الشَّكِّ وَالتَّشْكِيكِ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ آفَةُ الْعُلُومِ، وَبَلِيَّةُ الْأَذْهَانِ وَالْفُهُومِ، مَعَ أَنَّ فِي ضَمِيرِ " إِيَّاكَ " مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى نَفْسِ الذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ مَا لَيْسَ فِي الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، فَفِي: إِيَّاكَ قَصَدْتُ وَأَحْبَبْتُ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى حَقِيقَتِكَ وَذَاتِكَ قَصْدِي، مَا لَيْسَ فِي قَوْلِكَ: قَصَدْتُكَ وَأَحْبَبْتُكَ، وَإِيَّاكَ أَعْنِي فِيهِ مَعْنَى: نَفْسَكَ وَذَاتَكَ وَحَقِيقَتَكَ أَعْنِي. وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ النُّحَاةِ: إِنَّ " إِيَّا " اسْمٌ ظَاهِرٌ مُضَافٌ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَلَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِرَدٍّ شَافٍ. وَلَوْلَا أَنَّا فِي شَأْنٍ وَرَاءَ هَذَا لَأَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَكَرْنَا مَذَاهِبَ النُّحَاةِ فِيهَا، وَنَصَرْنَا الرَّاجِحَ، وَلَعَلَّنَا أَنْ نَعْطِفَ عَلَى ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ. وَفِي إِعَادَةِ " إِيَّاكَ " مَرَّةً أُخْرَى دَلَالَةٌ عَلَى تَعَلُّقِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، فَفِي إِعَادَةِ الضَّمِيرِ مِنْ قُوَّةِ الِاقْتِضَاءِ لِذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي حَذْفِهِ، فَإِذَا قُلْتَ لِمَلِكٍ مَثَلًا: إِيَّاكَ أُحِبُّ، وَإِيَّاكَ أَخَافُ، كَانَ فِيهِ مِنَ اخْتِصَاصِ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ بِذَاتِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ، مَا لَيْسَ فِي قَوْلِكِ: إِيَّاكَ أُحِبُّ وَأَخَافُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالنَّاسُ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ- وَهُمَا الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِمَا- أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَجَلُّهَا وَأَفْضَلُهَا: أَهْلُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالَلَّهِ عَلَيْهَا، فَعِبَادَةُ اللَّهِ غَايَةُ مُرَادِهِمْ، وَطَلَبُهُمْ مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَيْهَا، وَيُوَفِّقَهُمْ لِلْقِيَامِ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُسْأَلُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْإِعَانَةُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبِّهِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ " يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ". فَأَنْفَعُ الدُّعَاءِ طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَأَفْضَلُ الْمَوَاهِبِ إِسْعَافُهُ بِهَذَا الْمَطْلُوبِ، وَجَمِيعُ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ مَدَارُهَا عَلَى هَذَا، وَعَلَى دَفْعِ مَا يُضَادُّهُ، وَعَلَى تَكْمِيلِهِ وَتَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ، فَتَأَمَّلْهَا. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ-: تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وَمُقَابِلُ هَؤُلَاءِ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، فَلَا عِبَادَةَ وَلَا اسْتِعَانَةَ، بَلْ إِنْ سَأَلَهُ أَحَدُهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِ فَعَلَى حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ، لَا عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَحُقُوقِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَيَمُدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَأَبْغَضُ خَلْقِهِ عَدُّوُهُ إِبْلِيسُ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ سَأَلَهُ حَاجَةً فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَمَتَّعَهُ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَوْنًا لَهُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، كَانَتْ زِيَادَةً لَهُ فِي شِقْوَتِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ اللَّهِ وَطَرْدِهِ عَنْهُ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى أَمْرٍ وَسَأَلَهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ كَانَ مُبْعِدًا لَهُ عَنْ مَرْضَاتِهِ، قَاطِعًا لَهُ عَنْهُ وَلَا بُدَّ. وَلْيَتَأَمَّلِ الْعَاقِلُ هَذَا فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ لِسَائِلِيهِ لَيْسَتْ لِكَرَامَةِ السَّائِلِ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْأَلُهُ عَبْدُهُ الْحَاجَةَ فَيَقْضِيهَا لَهُ، وَفِيهَا هَلَاكُهُ وَشِقْوَتُهُ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ لَهُ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيْهِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ، وَيَكُونُ مَنْعُهُ مِنْهَا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، فَيَمْنَعُهُ حِمَايَةً وَصِيَانَةً وَحِفْظًا لَا بُخْلًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ الَّذِي يُرِيدُ كَرَامَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَيُعَامِلُهُ بِلُطْفِهِ، فَيَظُنُّ- بِجَهْلِهِ- أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُكْرِمُهُ، وَيَرَاهُ يَقْضِي حَوَائِجَ غَيْرِهِ، فَيُسِيءُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَهَذَا حَشْوُ قَلْبِهِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، وَالْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَعَلَامَةُ هَذَا حَمْلُهُ عَلَى الْأَقْدَارِ وَعِتَابُهُ الْبَاطِنُ لَهَا، كَمَا قِيلَ: وَعَاجِزُ الرَّأْيِ مِضْيـَـاعٌ لِفُرْصَتِهِ *** حَتَّى إِذَا فَاتَ أَمْرٌ عَاتَبَ الْقَدَرَا فَوَاللَّهِ لَوْ كَشَفَ عَنْ حَاصِلِهِ وَسِرِّهِ لَرَأَى هُنَاكَ مُعَاتَبَةَ الْقَدَرِ وَاتِّهَامَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ مَا حِيلَتِي، وَالْأَمْرُ لَيْسَ إِلَيَّ؟ وَالْعَاقِلُ خَصْمُ نَفْسِهِ، وَالْجَاهِلُ خَصْمُ أَقْدَارِ رَبِّهِ. فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ تَسْأَلَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا خِيرَتُهُ وَعَاقِبَتُهُ مُغَيَّبَةٌ عَنْكَ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ سُؤَالِهِ بُدًّا، فَعَلِّقْهُ عَلَى شَرْطِ عِلْمِهِ تَعَالَى فِيهِ الْخِيَرَةَ، وَقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ سُؤَالِكَ الِاسْتِخَارَةَ، وَلَا تَكُنِ اسْتِخَارَةٌ بِاللِّسَانِ بِلَا مَعْرِفَةٍ، بَلِ اسْتِخَارَةُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَصَالِحِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا اهْتِدَاءَ لَهُ إِلَى تَفَاصِيلِهَا، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، بَلْ إِنْ وُكِّلَّ إِلَى نَفْسِهِ هَلَكَ كُلَّ الْهَلَاكِ، وَانْفَرَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ. وَإِذَا أَعْطَاكَ مَا أَعْطَاكَ بِلَا سُؤَالٍ تَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَوْنًا لَكَ عَلَى طَاعَتِهِ وَبَلَاغًا إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَلَا يَجْعَلَهُ قَاطِعًا لَكَ عَنْهُ، وَلَا مُبْعِدًا عَنْ مَرْضَاتِهِ، وَلَا تَظُنُّ أَنَّ عَطَاءَهُ كُلَّ مَا أَعْطَى لِكَرَامَةِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَا مَنْعَهُ كُلَّ مَا يَمْنَعُهُ لِهَوَانِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ عَطَاءَهُ وَمَنْعَهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، يَمْتَحِنُ بِهِمَا عِبَادَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمْنَ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَعْطَيْتُهُ وَنَعَّمْتُهُ وَخَوَّلْتُهُ فَقَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَمَا ذَاكَ لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ مِنِّي، وَامْتِحَانٌ لَهُ أَيَشْكُرُنِي فَأُعْطِيَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، أَمْ يَكْفُرُنِي فَأَسْلُبَهُ إِيَّاهُ، وَأُخَوِّلَ فِيهِ غَيْرَهُ؟ وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ فَضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَجَعَلْتُهُ بِقَدَرٍ لَا يُفَضَّلُ عَنْهُ، فَذَلِكَ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ مِنِّي لَهُ أَيَصْبِرُ فَأُعْطِيَهُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا فَاتَهُ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ، أَمْ يَتَسَخَّطُ فَيَكُونَ حَظُّهُ السُّخْطَ؟. فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ سَعَةَ الرِّزْقِ إِكْرَامٌ، وَأَنَّ الْفَقْرَ إِهَانَةٌ، فَقَالَ: لَمْ أَبْتَلِ عَبْدِي بِالْغِنَى لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَمْ أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ عَلَيَّ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِكْرَامَ وَالْإِهَانَةَ لَا يَدُورَانِ عَلَى الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَتَقْدِيرِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَسِّعُ عَلَى الْكَافِرِ لَا لِكَرَامَتِهِ، وَيُقَتِّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لَا لِإِهَانَتِهِ، إِنَّمَا يُكْرِمُ مَنْ يُكْرِمُهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَيُهِينُ مَنْ يُهِينُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَمَعْصِيَتِهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. فَعَادَتْ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
مَنْ لَهُ نَوْعُ عِبَادَةٍ فِرْقَةُ الْقَدَرِيَّةُ الْمَنْقُوصَةُ وَظَنُّهُمُ الْخَاطِئُ بِاللَّهِ بِلَا اسْتِعَانَةٍ، وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَدَرِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِالْعَبْدِ جَمِيعَ مَقْدُورِهِ مِنَ الْأَلْطَافِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي مَقْدُورِهِ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَعَانَهُ بِخَلْقِ الْآلَاتِ وَسَلَامَتِهَا، وَتَعْرِيفِ الطَّرِيقِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَتَمْكِينِهِ مِنَ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا إِعَانَةٌ مَقْدُورَةٌ يَسْأَلُهُ إِيَّاهَا، بَلْ قَدْ سَاوَى بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ فِي الْإِعَانَةِ، فَأَعَانَ هَؤُلَاءِ كَمَا أَعَانَ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنَّ أَوْلِيَاءَهُ اخْتَارُوا لِنُفُوسِهِمُ الْإِيمَانَ، وَأَعْدَاءَهُ اخْتَارُوا لِنُفُوسِهِمُ الْكُفْرَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَفَّقَ هَؤُلَاءِ بِتَوْفِيقٍ زَائِدٍ أَوْجَبَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، وَخَذَلَ هَؤُلَاءِ بِأَمْرٍ آخَرَ أَوْجَبَ لَهُمُ الْكُفْرَ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مَنْقُوصٌ مِنَ الْعِبَادَةِ، لَا اسْتِعَانَةَ مَعَهُ، فَهُمْ مَوْكُولُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، مَسْدُودٌ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوْحِيدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَكَذَّبَ بِقَدَرِهِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ لَهُمْ عِبَادَاتٌ وَأَوْرَادٌ، وَلَكِنَّ حَظَّهُمْ نَاقِصٌ مِنَ التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ، لَمْ تَتَّسِعْ قُلُوبُهُمْ لِارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْقَدَرِ، وَتَلَاشِيهَا فِي ضِمْنِهِ، وَقِيَامِهَا بِهِ، وَأَنَّهَا بِدُونِ الْقَدَرِ كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَا تَأْثِيرَ لَهُ، بَلْ كَالْعَدَمِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ، وَأَنَّ الْقَدَرَ كَالرُّوحِ الْمُحَرِّكِ لَهَا، وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْمُحَرِّكِ الْأَوَّلِ. فَلَمْ تَنْفُذْ قُوَى بَصَائِرِهِمْ مِنَ الْمُتَحَرِّكِ إِلَى الْمُحَرِّكِ، وَمِنَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبَّبِ، وَمِنَ الْآلَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، فَضَعُفَتْ عَزَائِمُهُمْ وَقَصُرَتْ هِمَمُهُمْ، فَقَلَّ نَصِيبُهُمْ مِنْ " {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} " وَلَمْ يَجِدُوا ذَوْقَ التَّعَبُّدِ بِالتَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ، عَلَى اللَّهِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ وَإِنْ وَجَدُوا ذَوْقَهُ بِالْأَوْرَادِ وَالْوَظَائِفِ. فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ التَّوْفِيقِ وَالنُّفُوذِ وَالتَّأْثِيرِ، بِحَسَبِ اسْتِعَانَتِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ، وَلَهُمْ مِنَ الْخُذْلَانِ وَالضَّعْفِ وَالْمَهَانَةِ وَالْعَجْزِ بِحَسَبِ قِلَّةِ اسْتِعَانَتِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ، وَلَوْ تَوَكَّلَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ فِي إِزَالَةِ جَبَلٍ عَنْ مَكَانِهِ وَكَانَ مَأْمُورًا بِإِزَالَتِهِ لَأَزَالَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ؟. قُلْتُ: هُوَ حَالٌ لِلْقَلْبِ يَنْشَأُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، وَالْإِيمَانِ بِتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأِ النَّاسُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ شَاءَهُ النَّاسُ، فَيُوجِبُ لَهُ هَذَا اعْتِمَادًا عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضًا إِلَيْهِ، وَطُمَأْنِينَةً بِهِ، وَثِقَةً بِهِ، وَيَقِينًا بِكِفَايَتِهِ لِمَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مَلِيٌّ بِهِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، شَاءَهُ النَّاسُ أَمْ أَبَوْهُ. فَتُشْبِهُ حَالَتُهُ حَالَةَ الطِّفْلِ مَعَ أَبَوَيْهِ فِيمَا يَنْوِيهِ مِنْ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ هُمَا مَلِيَّانِ بِهِمَا، فَانْظُرْ فِي تَجَرُّدِ قَلْبِهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ أَبَوَيْهِ، وَحَبْسِ هَمِّهِ عَلَى إِنْزَالِ مَا يَنْوِيهِ بِهِمَا، فَهَذِهِ حَالُ الْمُتَوَكِّلِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا مَعَ اللَّهِ فَاللَّهُ كَافِيهِ وَلَا بُدَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أَيْ كَافِيهِ، وَالْحَسْبُ الْكَافِي، فَإِنْ كَانَ- مَعَ هَذَا- مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَهُوَ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ شَهِدَ تَفَرُّدَ اللَّهِ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَدْرِ مَعَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَأَغْرَاضِهِ، وَطَلَبَهَا مِنْهُ، وَأَنْزَلَهَا بِهِ، فَقُضِيَتْ لَهُ، وَأُسْعِفَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ أمْوَالًا أَوْ رِيَاسَةً أَوْ جَاهًا عِنْدَ الْخَلْقِ، أَوْ أَحْوَالًا مِنْ كَشْفٍ وَتَأْثِيرٍ وَقُوَّةٍ وَتَمْكِينٍ، وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ، فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ الظَّاهِرِ، وَالْأَمْوَالُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ، فَضْلًا عَنِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ، لِلْحُصُولِ عَلَى مَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَإِنَّ الْمُلْكَ وَالْجَاهَ وَالْمَالَ وَالْحَالَ مُعْطَاةٌ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِمَنْ آتَاهُ إِيَّاهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُقَرَّبِينَ، فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ دِينِهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيَكْرَهُهُ وَيُسْخِطُهُ، فَالْحَالُ مِنَ الدُّنْيَا، فَهُوَ كَالْمُلْكِ وَالْمَالِ إِنْ أَعَانَ صَاحِبَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ أَلْحَقَهُ بِالْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ الْبَرَرَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَمُبْعِدٌ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وَمُلْحِقٌ لَهُ بِالْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ، وَالْأَغْنِيَاءِ الْفَجَرَةِ.
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُتَحَقِّقًا بِـ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} " إِلَّا بِأَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: الْإِخْلَاصُ لِلْمَعْبُودِ، فَهَذَا تَحْقِيقُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ". وَالنَّاسُ مُنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَيْضًا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَهْلُ الْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَهُمْ أَهْلُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} " حَقِيقَةً، فَأَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَأَقْوَالُهُمْ لِلَّهِ، وَعَطَاؤُهُمْ لِلَّهِ، وَمَنْعُهُمْ لِلَّهِ، وَحُبُّهُمْ لِلَّهِ، وَبُغْضُهُمْ لِلَّهِ، فَمُعَامَلَتُهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِوَجْهِ اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مِنَ النَّاسِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَلَا ابْتِغَاءَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ، وَلَا طَلَبَ الْمُحَمَّدَةِ، وَالْمُنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَا هَرَبًا مِنْ ذَمِّهِمْ، بَلْ قَدْ عَدُّوا النَّاسَ بِمَنْزِلَةِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ، وَابْتِغَاءُ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ، وَرَجَاؤُهُمْ لِلضُّرِّ وَالنَّفْعِ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ مِنْ عَارِفٍ بِهِمُ الْبَتَّةَ، بَلْ مِنْ جَاهِلٍ بِشَأْنِهِمْ، وَجَاهِلٍ بِرَبِّهِ، فَمَنْ عَرَفَ النَّاسَ أَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَهُمْ، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَخْلَصَ لَهُ أَعْمَالَهُ وَأَقْوَالَهُ، وَعَطَاءَهُ وَمَنْعَهُ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ، وَلَا يُعَامِلُ أَحَدَ الْخَلْقِ دُونَ اللَّهِ إِلَّا لِجَهْلِهِ بِاللَّهِ وَجَهْلِهِ بِالْخَلْقِ، وَإِلَّا فَإِذَا عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ النَّاسَ آثَرَ مُعَامَلَةَ اللَّهِ عَلَى مُعَامَلَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا وَعِبَادَتُهُمْ مُوَافَقَةٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ عَامِلٍ سِوَاهُ، وَهُوَ الَّذِي بَلَا عِبَادَهُ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ لِأَجْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وَجَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْعَمَلُ الْحَسَنُ هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ: مَا كَانَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ: مَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وَفِي قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} فَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، عَلَى مُتَابَعَةِ أَمْرِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عَامِلِهِ، يُرَدُّ عَلَيْهِ- أَحْوَجَ مَا هُوَ إِلَيْهِ- هَبَاءً مَنْثُورًا، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " وَكُلُّ عَمَلٍ بِلَا اقْتِدَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ عَامِلَهُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا يُعْبَدُ بِأَمْرِهِ، لَا بِالْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ لَا إِخْلَاصَ لَهُ وَلَا مُتَابَعَةَ، فَلَيْسَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِشَرْعٍ، وَلَيْسَ هُوَ خَالِصًا لِلْمَعْبُودِ، كَأَعْمَالِ الْمُتَزَيِّنِينَ لِلنَّاسِ، الْمُرَائِينَ لَهُمْ بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهَؤُلَاءِ شِرَارُ الْخَلْقِ، وَأَمْقَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَهُمْ أَوْفَرُ نَصِيبٍ مِنْ قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ وَالشِّرْكِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْإِخْلَاصِ. وَهَذَا الضَّرْبُ يَكْثُرُ فِيمَنِ انْحَرَفَ- مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْفَقْرِ وَالْعِبَادَةِ- عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهُمْ يَرْتَكِبُونَ الْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَالرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ مِنَ الِاتِّبَاعِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعِلْمِ، فَهُمْ أَهْلُ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَنْ هُوَ مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ، لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، الشَّرْعِيِّ كَجُهَّالِ الْعُبَّادِ، وَالْمُنْتَسِبِينَ إِلَى طَرِيقِ الزُّهْدِ وَالْفَقْرِ، وَكُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَاعْتَقَدَ عِبَادَتَهُ هَذِهِ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ فَهَذَا حَالُهُ، كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ الْخَلْوَةَ الَّتِي يَتْرُكُ فِيهَا الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ مُوَاصَلَةَ صَوْمِ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ صِيَامَ يَوْمِ فِطْرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ قُرْبَةٌ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، كَطَاعَةِ الْمُرَائِينَ، وَكَالرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَحَمِيَّةً وَشَجَاعَةً، وَيَحُجُّ لِيُقَالَ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ، فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ ظَاهِرُهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، لَكِنَّهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَكُلُّ أَحَدٍ لَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ بِمَا أَمَرَ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُمْ أَهْلُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
ثُمَّ أَهْلُ مَقَامِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} " لَهُمْ فِي أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ وَأَنْفَعِهَا وَأَحَقِّهَا بِالْإِيثَارِ وَالتَّخْصِيصِ أَرْبَعُ طُرُقٍ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: عِنْدَهُمْ أَنْفَعُ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلُهَا أَشَقُّهَا عَلَى النُّفُوسِ وَأَصْعَبُهَا. قَالُوا: لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنْ هَوَاهَا، وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّعَبُّدِ. قَالُوا: وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَرَوَوْا حَدِيثًا لَا أَصْلَ لَهُ " أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحَمَزُهَا " أَيْ أَصْعَبُهَا وَأَشَقُّهَا. وَهَؤُلَاءِ: هُمْ أَهْلُ الْمُجَاهَدَاتِ وَالْجَوْرِ عَلَى النُّفُوسِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا تَسْتَقِيمُ النُّفُوسُ بِذَلِكَ، إِذْ طَبْعُهَا الْكَسَلُ وَالْمَهَانَةُ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا تَسْتَقِيمُ إِلَّا بِرُكُوبِ الْأَهْوَالِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ. الصِّنْفُ الثَّانِي، قَالُوا: أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ التَّجَرُّدُ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّلُ مِنْهَا غَايَةَ الْإِمْكَانِ، وَاطِّرَاحُ الِاهْتِمَامِ بِهَا، وَعَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْهَا. ثُمَّ هَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: فَعَوَامُّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا غَايَةٌ، فَشَمَّرُوا إِلَيْهِ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: هُوَ أَفْضَلُ مِنْ دَرَجَةِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، فَرَأَوُا الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا غَايَةَ كُلِّ عِبَادَةٍ وَرَأْسَهَا. وَخَوَاصُهُمْ رَأَوْا هَذَا مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، وَجَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَيْهِ، وَتَفْرِيغُ الْقَلْبِ لِمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمَرْضَاتِهِ، فَرَأَوْا أَنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ فِي الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمُرَاقَبَتِهِ، دُونَ كُلِّ مَا فِيهِ تَفْرِيقٌ لِلْقَلْبِ وَتَشْتِيتٌ لَهُ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ قِسْمَانِ، فَالْعَارِفُونَ الْمُتَّبِعُونَ مِنْهُمْ إِذَا جَاءَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَادَرُوا إِلَيْهِ وَلَوْ فَرَّقَهُمْ وَأَذْهَبَ جَمْعِيَّتَهُمْ، وَالْمُنْحَرِفُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ جَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ مَا يُفَرِّقُهُ عَنِ اللَّهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا يَقُولُ قَائِلُهُمْ: يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِــلًا *** فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ ثُمَّ هَؤُلَاءِ أَيْضًا قِسْمَانِ، مِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ الْوَاجِبَاتِ وَالْفَرَائِضَ لِجَمْعِيَّتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَيَتْرُكُ السُّنَنَ وَالنَّوَافِلَ، وَتَعَلُّمَ الْعِلْمِ النَّافِعِ لِجَمْعِيَّتِهِ. وَسَأَلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ شَيْخًا عَارِفًا، فَقَالَ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَنَا فِي جَمْعِيَّتِي عَلَى اللَّهِ، فَإِنْ قُمْتُ وَخَرَجْتُ نَفَقْتُ، وَإِنْ بَقِيتُ عَلَى حَالِي بَقِيتُ عَلَى جَمْعِيَّتِي، فَمَا الْأَفْضَلُ فِي حَقِّي؟ فَقَالَ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَنْتَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَقُمْ، وَأَجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ، ثُمَّ عُدْ إِلَى مَوْضِعِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ عَلَى اللَّهِ حَظُّ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِي حَقُّ الرَّبِّ، وَمَنْ آثَرَ حَظَّ رُوحِهِ عَلَى حَقِّ رَبِّهِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ". الصِّنْفُ الثَّالِثُ: رَأَوْا أَنَّ أَنْفَعَ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلَهَا: مَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ، فَرَأَوْهُ أَفْضَلَ مِنْ ذِي النَّفْعِ الْقَاصِرِ، فَرَأَوْا خِدْمَةَ الْفُقَرَاءِ، وَالِاشْتِغَالَ بِمَصَالِحِ النَّاسِ وَقَضَاءَ حَوَائِجِهِمْ، وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنَّفْعِ أَفْضَلَ، فَتَصَدَّوْا لَهُ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عَمَلَ الْعَابِدِ قَاصِرٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَمَلَ النَّفَّاعِ مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ، وَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟. قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهَذَا التَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ لِلنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَالنَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ صَاحِبَ الْعِبَادَةِ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَصَاحِبَ النَّفْعِ لَا يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ، مَا دَامَ نَفْعُهُ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا بُعِثُوا بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَهِدَايَتِهِمْ، وَنَفْعِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَمْ يُبْعَثُوا بِالْخُلْوَاتِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ وَالتَّرَهُّبِ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ هَمُّوا بِالِانْقِطَاعِ لِلتَّعَبُّدِ، وَتَرْكِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَرَأَى هَؤُلَاءِ التَّفَرُّقَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَنَفْعَ عِبَادِهِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، أَفْضَلَ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ، قَالُوا: إِنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ الْعَمَلُ عَلَى مَرْضَاةِ الرَّبِّ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتُهُ، فَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِ الْجِهَادِ: الْجِهَادُ، وَإِنْ آَلَ إِلَى تَرْكِ الْأَوْرَادِ، مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، بَلْ وَمِنْ تَرْكِ إِتْمَامِ صَلَاةِ الْفَرْضِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ حُضُورِ الضَّيْفِ مَثَلًا الْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ الْوِرْدِ الْمُسْتَحَبِّ، وَكَذَلِكَ فِي أَدَاءِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَالْأَهْلِ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ السَّحَرِ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ وَالْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ اسْتِرْشَادِ الطَّالِبِ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ الْإِقْبَالُ عَلَى تَعْلِيمِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ الْأَذَانِ تَرْكُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ وِرْدِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْجِدُّ وَالنُّصْحُ فِي إِيقَاعِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْخُرُوجُ إِلَى الْجَامِعِ، وَإِنْ بَعُدَ كَانَ أَفْضَلَ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ ضَرُورَةِ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُسَاعَدَةِ بِالْجَاهِ، أَوِ الْبَدَنِ، أَوِ الْمَالِ الِاشْتِغَالُ بِمُسَاعَدَتِهِ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ، وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى أَوْرَادِكَ وَخَلْوَتِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ جَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ، حَتَّى كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَاطِبُكَ بِهِ، فَتَجْمَعُ قَلْبَكَ عَلَى فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ أَعْظَمُ مِنْ جَمْعِيَّةِ قَلْبِ مَنْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الِاجْتِهَادُ فِي التَّضَرُّعِ وَالْدُعَاءِ وَالْذِكْرِ دُونَ الصَّوْمِ الْمُضْعِفِ عَنْ ذَلِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْإِكْثَارُ مِنَ التَّعَبُّدِ، لَاسِيَّمَا التَّكْبِيرُ وَالْتَهْلِيلُ وَالْتَحْمِيدُ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ غَيْرِ الْمُتَعَيَّنِ. وَالْأَفْضَلُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ لُزُومُ الْمَسْجِدِ فِيهِ وَالْخَلْوَةِ وَالِاعْتِكَافِ دُونَ التَّصَدِّي لِمُخَالَطَةِ النَّاسِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى تَعْلِيمِهِمُ الْعِلْمَ، وَإقْرَائِهِمُ الْقُرْآنَ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ مَرَضِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ أَوْ مَوْتِهِ عِيَادَتُهُ، وَحُضُورُ جِنَازَتِهِ وَتَشْيِيعُهُ، وَتَقْدِيمُ ذَلِكَ عَلَى خَلْوَتِكَ وَجَمْعِيَّتِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ نُزُولِ النَّوَازِلِ وَأَذَاةِ النَّاسِ لَكَ أَدَاءُ وَاجِبِ الصَّبْرِ مَعَ خُلْطَتِكَ بِهِمْ، دُونَ الْهَرَبِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ لِيَصْبِرَ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يُؤْذُونَهُ. وَالْأَفْضَلُ خُلْطَتُهُمْ فِي الْخَيْرِ، فَهِيَ خَيْرٌ مِنَ اعْتِزَالِهِمْ فِيهِ، وَاعْتِزَالُهُمْ فِي الشَّرِّ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ خُلْطَتِهِمْ فِيهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا خَالَطَهُمْ أَزَالَهُ أَوْ قَلَّلَهُ فَخُلْطَتُهُمْ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ مِنِ اعْتِزَالِهِمْ. فَالْأَفْضَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ إِيثَارُ مَرْضَاةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَالِاشْتِغَالُ بِوَاجِبِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتِهِ وَمُقْتَضَاهُ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ، وَالْأَصْنَافُ قِبَلَهُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُقَيَّدِ، فَمَتَى خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنِ النَّوْعِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَفَارَقَهُ يَرَى نَفْسَهُ كَأَنَّهُ قَدْ نَقَصَ وَتَرَكَ عِبَادَتَهُ، فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَصَاحِبُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي تَعَبُّدٍ بِعَيْنِهِ يُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ غَرَضُهُ تَتَبُّعُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْنَ كَانَتْ، فَمَدَارُ تَعَبُّدِهِ عَلَيْهَا، فَهُوَ لَا يَزَالُ مُتَنَقِّلًا فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ، كُلَّمَا رُفِعَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَمِلَ عَلَى سَيْرِهِ إِلَيْهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا حَتَّى تَلُوحَ لَهُ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا دَأْبَهُ فِي السَّيْرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ سَيْرُهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ الْعُلَمَاءَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْعُبَّادَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُجَاهِدِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الذَّاكِرِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُتَصَدِّقِينَ الْمُحْسِنِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَرْبَابَ الْجَمْعِيَّةِ وَعُكُوفِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ، الَّذِي لَمْ تَمْلِكْهُ الرُّسُومُ، وَلَمْ تُقَيِّدْهُ الْقُيُودُ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ عَلَى مُرَادِ نَفْسِهِ وَمَا فِيهِ لَذَّتُهَا وَرَاحَتُهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، بَلْ هُوَ عَلَى مُرَادِ رَبِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ رَاحَةُ نَفْسِهِ وَلَذَّتُهَا فِي سِوَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ بِـ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} " حَقًّا، الْقَائِمُ بِهِمَا صِدْقًا، مَلْبَسُهُ مَا تَهَيَّأَ، وَمَأْكَلُهُ مَا تَيَسَّرَ، وَاشْتِغَالُهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِوَقْتِهِ، وَمَجْلِسُهُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَكَانُ وَوَجَدَهُ خَالِيًا، لَا تَمْلِكُهُ إِشَارَةٌ، وَلَا يَتَعَبَّدُهُ قَيْدٌ، وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ رَسْمٌ، حُرٌّ مُجَرَّدٌ، دَائِرٌ مَعَ الْأَمْرِ حَيْثُ دَارَ، يَدِينُ بِدِينِ الْآمِرِ أَنَّى تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ، وَيَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ، يَأْنَسُ بِهِ كُلُّ مُحِقٍّ، وَيَسْتَوْحِشُ مِنْهُ كُلُّ مُبْطِلٍ، كَالْغَيْثِ حَيْثُ وَقَعَ نَفَعَ، وَكَالْنَخْلَةِ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَكُلُّهَا مَنْفَعَةٌ حَتَّى شَوْكُهَا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْغِلْظَةِ مِنْهُ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْغَضَبِ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَمَعَ اللَّهِ، قَدْ صَحِبَ اللَّهَ بِلَا خَلْقٍ، وَصَحِبَ النَّاسَ بِلَا نَفْسٍ، بَلْ إِذَا كَانَ مَعَ اللَّهِ عَزَلَ الْخَلَائِقَ عَنِ الْبَيْنِ، وَتَخَلَّى عَنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ مَعَ خَلْقِهِ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنَ الْوَسَطِ وَتَخَلَّى عَنْهَا، فَوَاهًا لَهُ! مَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ النَّاسِ! وَمَا أَشَدَّ وَحْشَتَهُ مِنْهُمْ! وَمَا أَعْظَمَ أُنْسَهُ بِاللَّهِ وَفَرَحَهُ بِهِ، وَطُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ إِلَيْهِ!! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ.
ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي مَنْفَعَةِ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتِهَا وَمَقْصُودِهَا طُرُقٌ أَرْبَعَةٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ.
الَّذِينَ يَرُدُّونَ الْأَمْرَ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، وَصِرْفِ الْإِرَادَةِ، فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمُ الْقِيَامُ بِهَا لَيْسَ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِسَعَادَةٍ فِي مَعَاشٍ وَلَا مَعَادٍ، وَلَا سَبَبًا لِنَجَاةٍ، وَإِنَّمَا الْقِيَامُ بِهَا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، كَمَا قَالُوا فِي الْخَلْقِ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِعِلَّةٍ، وَلَا لِغَايَةٍ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِهِ، وَلَا لِحِكْمَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَسْبَابٌ مُقْتَضِيَاتٌ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَلَا فِيهَا قُوًى وَلَا طَبَائِعُ، فَلَيْسَتِ النَّارُ سَبَبًا لِلْإِحْرَاقِ، وَلَا الْمَاءُ سَبَبًا لِلْإِرْوَاءِ وَالَبْرِيدِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ، وَلَا فِيهِ قُوَّةٌ وَلَا طَبِيعَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَحُصُولُ الْإِحْرَاقِ وَالرِّيِّ لَيْسَ بِهِمَا، لَكِنْ بِإِجْرَاءِ الْعَادَةِ الْاِقْتِرَانِيَّةِ عَلَى حُصُولِ هَذَا عِنْدَ هَذَا لَا بِسَبَبٍ وَلَا بِقُوَّةٍ قَامَتْ بِهِ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ فِي أَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَلَكِنَّ الْمَشِيئَةَ اقْتَضَتْ أَمْرَهُ بِهَذَا وَنَهْيَهُ عَنْ هَذَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ حُسْنَهُ، وَلَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ صِفَةٌ اقْتَضَتْ قُبْحَهُ. وَلِهَذَا الْأَصْلِ لَوَازِمُ وَفُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى " مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ وَمَطْلَبُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ " وَبَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ نَحْوِ سِتِّينَ وَجْهًا، وَهُوَ كِتَابٌ بَدِيعٌ فِي مَعْنَاهُ، وَذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ وَطَرِيقُ السَّعَادَتَيْنِ ". وَهَؤُلَاءِ لَا يَجِدُونَ حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ وَلَا لَذَّتَهَا، وَلَا يَتَنَعَّمُونَ بِهَا، وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ قُرَّةَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَيْسَتِ الْأَوَامِرُ سُرُورَ قُلُوبِهِمْ، وَغِذَاءَ أَرْوَاحِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، وَلِهَذَا يُسَمُّونَهَا تَكَالِيفَ، أَيْ قَدْ كُلِّفُوا بِهَا، وَلَوْ سَمَّى مُدَّعٍ لِمَحَبَّةِ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ تَكْلِيفًا، وَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ بِكُلْفَةٍ، لَمْ يَعُدَّهُ أَحَدٌ مُحِبًّا لَهُ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَؤُلَاءِ- أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ- مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا يُحِبُّ ثَوَابَهُ وَمَا يَخْلُقُهُ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ، لَا أَنَّهُ يُحِبُّ ذَاتَهُ، فَجَعَلُوا الْمَحَبَّةَ لِمَخْلُوقِهِ دُونَهُ، وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ، فَأَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبَّهَا، وَحَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ كَوْنُهُ مَأْلُوهًا مَحْبُوبًا بِغَايَةِ الْحُبِّ، الْمَقْرُونِ بِغَايَةِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، فَأَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَحْبُوبًا، وَذَلِكَ إِنْكَارٌ لِإِلَهِيَّتِهِ، وَشَيْخُ هَؤُلَاءِ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فِي يَوْمٍ أَضْحَى، وَقَالَ: إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَلَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَإِنَّمَا كَانَ إِنْكَارُهُ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مَحْبُوبًا مُحِبًّا، لَمْ يُنْكِرْ حَاجَةَ إِبْرَاهِيمَ إِلَيْهِ، الَّتِي هِيَ الْخُلَّةُ عِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، فَكُلُّهُمْ أَخِلَّاءُ لِلَّهِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِهِمْ هَذَا، وَإِنْكَارِهِمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " قُرَّةُ عُيُونِ الْمُحِبِّينَ، وَرَوْضَةُ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ " وَذَكَرْنَا فِيهِ وُجُوبُ تَعَلُّقِ الْمَحَبَّةِ بِالْحَبِيبِ الْأَوَّلِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا كَمَالَ لِلْإِنْسَانِ بِدُونِ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا كَمَالَ لِجِسْمِهِ إِلَّا بِالرُّوحِ وَالْحَيَاةِ، وَلَا لِعَيْنِهِ إِلَّا بِالنُّورِ الْبَاصِرِ، وَلَا لِأُذُنِهِ إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ.
الَّذِينَ يُثْبِتُونَ نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَلَكِنْ لَا يَقُومُ بِالرَّبِّ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى مُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ الْمَخْلُوقِ وَمَنْفَعَتِهِ. فَعِنْدَهُمْ: أَنَّ الْعِبَادَاتِ شُرِعَتْ أَثْمَانًا لِمَا يَنَالُهُ الْعِبَادُ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ، وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ. قَالُوا: وَلِهَذَا يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى عِوَضًا كَقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ- يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قَالُوا: وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءً وَأَجْرًا وَثَوَابًا، لِأَنَّهُ يَثُوبُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْهُ. قَالُوا: وَلَوْلَا ارْتِبَاطُهُ بِالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ جَزَاءً وَلَا أَجْرًا وَلَا ثَوَابًا مَعْنًى. قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَزْنُ، فَلَوْلَا تَعَلُّقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالْأَعْمَالِ وَاقْتِضَاؤُهَا لَهَا، وَكَوْنُهَا كَالْأَثْمَانِ لَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَزْنِ مَعْنًى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}. وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ أَشَدَّ التَّقَابُلِ، وَبَيْنَهُمَا أَعْظَمُ التَّبَايُنِ. فَالْجَبْرِيَّةُ لَمْ تَجْعَلْ لِلْأَعْمَالِ اِرْتِبَاطًا بِالْجَزَاءِ الْبَتَّةَ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ، وَيُنَعِّمَ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَكِلَاهُمَا بِالْنِسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ وَأَفْضَلُ دَرَجَاتٍ، وَالْكُلُّ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ وَلَا سَبَبٍ، وَلَا حِكْمَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا بِالْثَوَابِ، وَهَذَا بِالْعِقَابِ. وَالْقَدَرِيَّةُ أَوْجَبَتْ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ، وَجَعَلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَحْضِ الْأَعْمَالِ وَثَمَنًا لَهَا، وَأَنَّ وُصُولَ الثَّوَابِ إِلَى الْعَبْدِ بِدُونِ عَمَلِهِ فِيهِ تَنْغِيصٌ بِاحْتِمَالِ مِنَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ بِلَا ثَمَنٍ. فَقَاتَلَهُمُ اللَّهُ، مَا أَجْهَلَهُمْ بِاللَّهِ وَأَغَرَّهُمْ بِهِ! جَعَلُوا تَفَضُّلَهُ وَإِحْسَانَهُ إِلَى عَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ، حَتَّى قَالُوا: إِنَّ إِعْطَاءَهُ مَا يُعْطِيهِ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ أَحَبُّ إِلَى الْعَبْدِ وَأَطْيَبُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ فَضْلًا مِنْهُ بِلَا عَمَلٍ. فَقَابَلَتْهُمُ الْجَبْرِيَّةُ أَشَدَّ الْمُقَابَلَةِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لِلْأَعْمَالِ تَأْثِيرًا فِي الْجَزَاءِ الْبَتَّةَ. وَالْطَائِفَتَانِ جَائِرَتَانِ، مُنْحَرِفَتَانِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَجَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْبَابٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، مُقْتَضِيَةٌ لَهُمَا كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَمَنِّهِ، وَصَدَقَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، إِنْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا وَوَفَّقَهُ لَهَا، وَخَلَقَ فِيهِ إِرَادَتَهَا وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهَا، وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِ، وَزَيَّنَهَا فِي قَلْبِهِ وَكَرَّهَ إِلَيْهِ أَضْدَادُهَا، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ ثَمَنًا لِجَزَائِهِ وَثَوَابِهِ، وَلَا هِيَ عَلَى قَدْرِهِ، بَلْ غَايَتُهَا- إِذَا بَذَلَ الْعَبْدُ فِيهَا نُصْحَهُ وَجُهْدَهُ، وَأَوْقَعَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ- أَنْ تَقَعَ شُكْرًا لَهُ عَلَى بَعْضِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ، فَلَوْ طَالَبَهُ بِحَقِّهِ لَبَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ بَقِيَّةٌ لَمْ يَقُمْ بِشُكْرِهَا، فَلِذَلِكَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا نَفَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ، كَمَا قَالَ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ- وَفِي لَفْظٍ: لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، وَفِي لَفْظٍ: لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ- قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَأَثْبَتَ سُبْحَانَهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْعَمَلِ، كَمَا فِي قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا، إِذْ تَوَارُدُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَيْسَ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَالْمَنْفِيُّ اسْتِحْقَاقُهَا بِمُجَرَّدِ الْأَعْمَالِ، وَكَوْنِ الْأَعْمَالِ ثَمَنًا وَعِوَضًا لَهَا، رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ، الَّتِي زَعَمَتْ أَنَّ الْتَفَضُّلَ بِالْثَوَابِ ابْتِدَاءً مُتَضَمِّنٌ لِتَكْرِيرِ الْمِنَّةِ شُبْهَةُ الْقَدَرِيَّةِ وَالرَدُّ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ، وَأَغْلَظِهِمْ عَنْهُ حِجَابًا، وَحُقَّ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَكْفِي فِي جَهْلِهِمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ فِي مِنَّتِهِ، وَأَنَّ مِنْ تَمَامِ الْفَرَحِ وَالْسُرُورِ، وَالْغِبْطَةِ وَاللَّذَّةِ اغْتِبَاطُهُمْ بِمِنَّةِ سَيِّدِهِمْ وَمَوْلَاهُمُ الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا طَابَ لَهُمْ عَيْشُهُمْ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ، وَأَعْظَمُهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ أَعْرَفُهُمْ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ، وَأَعْظَمُهُمْ إقْرَارًا بِهَا، وَذِكْرًا لَهَا، وَشُكْرًا عَلَيْهَا، وَمَحَبَّةً لَهُ لِأَجْلِهَا، فَهَلْ يَتَقَلَّبُ أَحَدٌ قَطٌّ إِلَّا فِي مِنَّتِهِ؟ {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وَاحْتِمَالُ مِنَّةِ الْمَخْلُوقِ إِنَّمَا كَانَتْ نَقْصًا لِأَنَّهُ نَظِيرُهُ، فَإِذَا مَنَّ عَلَيْهِ اسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَرَأَى الْمَمْنُونُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ دُونَهُ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنَّةُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: " اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ " وَلَا نَقْصَ فِي مِنَّةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا عَارَ عَلَيْهِ فِي احْتِمَالِهَا، وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ، فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي إِنَّمَا يَتَقَلَّبُ الْخَلَائِقُ فِي بَحْرِ مِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَحْضِ صَدَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، بِلَا عِوَضٍ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ؟ وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ أَسْبَابًا لِمَا يَنَالُونَهُ مِنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ، فَهُوَ الْمَنَّانُ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ وَفَّقَهُمْ لِتِلْكَ الْأَسْبَابِ وَهَدَاهُمْ لَهَا، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهَا، وَكَمَّلَهَا لَهُمْ، وَقَبِلَهَا مِنْهُمْ عَلَى مَا فِيهَا؟ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتَ بِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ فِي قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. فَهَذِهِ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ الْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ، وَلَا هِيَ أَسْبَابٌ لَهُ، وَإِنَّمَا غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ أَمَارَاتٍ. قَالُوا: وَلَيْسَتْ أَيْضًا مُطَّرِدَةً، لِتَخَلُّفِ الْجَزَاءِ عَنْهَا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَحْضُ الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالْمَشِيئَةِ. فَالنُّصُوصُ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ، كَمَا هِيَ مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ أُولَئِكَ، وَأَدِلَّةُ الْمَعْقُولِ وَالْفِطْرَةِ أَيْضًا تُبْطِلُ قَوْلَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتُبَيِّنُ لِمَنْ لَهُ قَلْبٌ وَلُبٌّ مِقْدَارَ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْوَسَطُ، الْمُثْبِتُونَ لِعُمُومِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَخَلْقِهِ الْعِبَادَ وَأَعْمَالَهُمْ، وَلِحِكْمَتِهِ التَّامَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ رَبْطَ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا، وَانْعِقَادَهَا بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، وَتَرْتِيبَهَا عَلَيْهَا عَاجِلًا وَآجِلًا. وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُنْحَرِفَتَيْنِ تَرَكَتْ نَوْعًا مِنَ الْحَقِّ، وَارْتَكَبَتْ لِأَجْلِهِ نَوْعًا مِنَ الْبَاطِلِ، بَلْ أَنْوَاعًا، وَهَدَى اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَ{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ فَائِدَةَ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتَهَا عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَفَلْسِفِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ رِيَاضَةُ النُّفُوسِ، وَاسْتِعْدَادُهَا لِفَيْضِ الْعُلُومِ عَلَيْهَا، وَخُرُوجِ قُوَاهَا عَنْ قُوَى النُّفُوسِ الْسَبُعِيَّةِ وَالْبَهِيمِيَّةِ، فَلَوْ عُطِّلَتْ عَنِ الْعِبَادَاتِ لَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ نُفُوسِ السِّبَاعِ وَالْبَهَائِمِ، وَالْعِبَادَاتُ تُخْرِجُهَا عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَعَوَائِدِهَا، وَتَنْقِلُهَا إِلَى مُشَابَهَةِ الْعُقُولِ الْمُجَرَّدَةِ، فَتَصِيرُ عَالِمَةً قَابِلَةً لِانْتِقَاشِ صُوَرِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ فِيهَا، وَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: مَنْ يَقْرُبُ إِلَى النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَعَدَمِ انْشِقَاقِ الْأَفْلَاكِ، وَعَدَمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ تَفَلْسَفَتْ مِنْ صُوفِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَقَرَّبَ إِلَى الْفَلَاسِفَةِ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ رِيَاضَاتٌ لِاسْتِعْدَادِ النُّفُوسِ وَتَجَرُّدِهَا، وَمُفَارَقَتِهَا الْعَالَمَ الْحِسِّيَّ، وَنُزُولِ الْوَارِدَاتِ وَالْمَعَارِفِ عَلَيْهَا. ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ الْعِبَادَاتِ إِلَّا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا حَصَلَ لَهَا بَقِيَ مُخَيَّرًا فِي حِفْظِهِ أَوْ رَدِّهِ، أَوِ الِاشْتِغَالِ بِالْوَارِدِ عَنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْقِيَامَ بِالْأَوْرَادِ وَالْوَظَائِفِ، وَعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِهَا، وَهُمْ صِنْفَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: مَنْ يُوجِبُونَهُ حِفْظًا لِلْقَانُونِ، وَضَبْطًا لِلنُّفُوسِ. وَالْآخَرُونَ: الَّذِينَ يُوجِبُونَهُ حِفْظًا لِلْوَارِدِ، وَخَوْفًا مَنْ تَدْرُجِ النَّفْسِ- بِمُفَارَقَتِهَا لَهُ- إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى مِنَ الْبَهِيمِيَّةِ. فَهَذِهِ نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى طَرِيقِ السُّلُوكِ، وَغَايَةُ مَعْرِفَتِهِمْ بِحُكْمِ الْعِبَادَةِ وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَلَا تَكَادُ تَجِدُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ غَيْر هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ.
أَتْبَاعُ الْخَلِيلَيْنِ، الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَهْلُ الْبَصَائِرِ فِي عِبَادَتِهِ، وَمُرَادِهِ بِهَا. فَالطَّوَائِفُ الثَّلَاثُ مَحْجُوبُونَ عَنْهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَالْقَوَاعِدِ الْفَاسِدَةِ، مَا عِنْدَهُمْ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْءٌ، قَدْ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُحَالِ، وَقَنَعُوا بِمَا أَلِفُوهُ مِنَ الْخَيَالِ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ وَرَاءَهُ مَا هُوَ أَجَّلُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ لَمَا ارْتَضَوْا بِدُونِهِ، وَلَكِنَّ عُقُولَهُمْ قَصُرَتْ عَنْهُ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهِ بِنُورِ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ، لِيَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِهِ، وَرَأَوْا أَنَّ مَا مَعَهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْجَهْلِ، وَرَأَوْا تَنَاقُضَ مَا مَعَ غَيْرِهِمْ وَفَسَادَهُ. فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إِيثَارُ مَا عِنْدَهُمْ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَهَذِهِ بَلِيَّةُ الطَّوَائِفِ، وَالْمُعَافَى مَنْ عَافَاهُ اللَّهُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ سِرَّ الْعُبُودِيَّةِ، وَغَايَتَهَا وَحِكْمَتَهَا إِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مَنْ عَرَفَ صِفَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُعَطِّلْهَا، وَعَرَفَ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ وَحَقِيقَتَهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ إِلَهًا، بَلْ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَكُلُّ إِلَهٍ سِوَاهُ فَبَاطِلٌ، بَلْ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ مُوجَبُ إِلَهِيَّتِهِ وَأَثَرُهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ مُتَعَلِّقِ الصِّفَاتِ بِالصِّفَاتِ، وَكَارْتِبَاطِ الْمَعْلُومِ بِالْعِلْمِ، وَالْمَقْدُورِ بِالْقُدْرَةِ، وَالْأَصْوَاتِ بِالْسَمْعِ، وَالْإِحْسَانِ بِالْرَحْمَةِ، وَالْعَطَاءِ بِالْجُودِ. فَمَنْ أَنْكَرَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ وَلَمْ يَعْرِفْهَا كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ مَعْرِفَةُ حِكْمَةِ الْعِبَادَاتِ وَغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ؟ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا هِيَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْخَلْقِ، وَالَّتِي لَهَا خُلِقُوا، وَلَهَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ وَالْنَارُ؟ وَأَنَّ فَرْضَ تَعْطِيلِ الْخَلِيقَةِ عَنْهَا نِسْبَةٌ لِلَّهِ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَتَعَالَى عَنْهُ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا، وَلَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ عَبَثًا وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى مُهْمَلًا، قَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} أَيْ لِغَيْرِ شَيْءٍ وَلَا حِكْمَةٍ، وَلَا لِعِبَادَتِي وَمُجَازَاتِي لَكُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا فِي قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فَالْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ لَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالْخَلَائِقَ كُلَّهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أَيْ مُهْمَلًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْصَحِيحُ الْأَمْرَانِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْأَمْرِ وَالْنَهْيِ، وَالْأَمْرُ وَالْنَهْيُ طَلَبُ الْعِبَادَةِ وَإِرَادَتُهَا، وَحَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ امْتِثَالُهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَقَالَ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ الْمُتَضَمِّنِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ. فَإِذَا كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا خُلِقَتْ لِهَذَا، وَهُوَ غَايَةُ الْخَلْقِ، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ، وَلَا حِكْمَةَ مَقْصُودَةٌ هِيَ غَايَتُهُ؟ أَوْ إِنَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ اسْتِئْجَارِ الْعِبَادِ حَتَّى لَا يُنَكَّدَ عَلَيْهِمُ الثَّوَابُ بِالْمِنَّةِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ اسْتِعْدَادِ النُّفُوسِ لِلْمَعَارِفِ الْعَقْلِيَّةِ، وَارْتِيَاضِهَا بِمُخَالَفَةِ الْعَوَائِدِ؟. فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ الْفُرْقَانَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْوَحْيِ يَجِدْ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ. فَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، الْجَامِعَةِ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ، مَعَ الْخُضُوعِ لَهُ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ. فَأَصْلُ الْعِبَادَةِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ، بَلْ إِفْرَادُهُ بِالْمَحَبَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْحُبُّ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَلَا يُحِبُّ مَعَهُ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ لِأَجْلِهِ وَفِيهِ، كَمَا يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، فَمَحَبَّتُنَا لَهُمْ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّتِهِ، وَلَيْسَتْ مَحَبَّةً مَعَهُ، كَمَحَبَّةِ مَنْ يَتَّخِذُ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ. وَإِذَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ لَهُ هِيَ حَقِيقَةَ عُبُودِيَّتِهِ وَسِرَّهَا، فَهِيَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، فَعِنْدَ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ تَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَلِهَذَا جَعَلَ تَعَالَى اتِّبَاعَ رَسُولِهِ عَلَمًا عَلَيْهَا، وَشَاهِدًا لِمَنِ ادَّعَاهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَجَعَلَ اتِّبَاعَ رَسُولِهِ مَشْرُوطًا بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وَشَرْطًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، وَوُجُودُ الْمَشْرُوطِ مُمْتَنِعٌ بِدُونِ وُجُودِ شَرْطِهِ وَتَحَقُّقُهُ بِتَحَقُّقِهِ فَعُلِمَ انْتِفَاءُ الْمَحَبَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ، فَانْتِفَاءُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ لَازِمٌ لِانْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ، وَانْتِفَاءُ الْمُتَابَعَةِ مَلْزُومٌ لِانْتِفَاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، فَيَسْتَحِيلُ إذًا ثُبُوتُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وَثُبُوتُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ بِدُونِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ. وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَطَاعَةُ أَمْرِهِ، وَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَتَى كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُمَا فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْبَتَّةَ، وَلَا يَهْدِيهِ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. فَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ طَاعَةَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ مَرْضَاةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ خَوْفَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَرَجَاءَهُ وَالْتَوَكُّلَ عَلَيْهِ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، أَوْ مُعَامَلَةَ أَحَدِهِمْ عَلَى مُعَامَلَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ لَيْسَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَإِنْ قَالَهُ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ، وَإِخْبَارٌ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَنَّ قَدَّمَ حُكْمَ أَحَدٍ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَذَلِكَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَكِنْ قَدْ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ يُقَدِّمُ قَوْلَ أَحَدٍ أَوْ حُكْمَهُ، أَوْ طَاعَتَهُ أَوْ مَرْضَاتَهُ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَحْكُمُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا مَا قَالَهُ الرَّسُولُ، فَيُطِيعُهُ، وَيُحَاكِمُ إِلَيْهِ، وَيَتَلَقَّى أَقْوَالَهُ كَذَلِكَ، فَهَذَا مَعْذُورٌ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الرَّسُولِ، وَعَرَفَ أَنَّ غَيْرَ مَنِ اتَّبَعَهُ هُوَ أَوْلَى بِهِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الرَّسُولِ وَلَا إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَهَذَا الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعِيدِ، فَإِنِ اسْتَحَلَّ عُقُوبَةَ مَنْ خَالَفَهُ وَأَذَلَّهُ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى اتِّبَاعِ شَيْخِهِ، فَهُوَ مِنَ الظَّلَمَةِ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.
وَبَنَى " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} " عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ: التَّحَقُّقُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْضَاهُ، مِنْ قَوْلِ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، وَعَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ. فَالْعُبُودِيَّةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ، فَأَصْحَابُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} " حَقًّا هُمْ أَصْحَابُهَا. فَقَوْلُ الْقَلْبِ: هُوَ اعْتِقَادُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَلِقَائِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ. وَقَوْلُ اللِّسَانِ: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِذَلِكَ، وَالْدَعْوَةُ إِلَيْهِ، وَالْذَبُّ عَنْهُ، وَتَبْيِينُ بُطْلَانِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ، وَالْقِيَامُ بِذِكْرِهِ، وَتَبْلِيغُ أَوَامِرِهِ. وَعَمَلُ الْقَلْبِ: كَالْمَحَبَّةِ لَهُ، وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْرَجَاءِ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَالْصَبْرِ عَلَى أَوَامِرِهِ، وَعَنْ نَوَاهِيهِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ، وَالْرِضَى بِهِ وَعَنْهُ، وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ، وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ، وَالْذُلِّ لَهُ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِخْبَاتِ إِلَيْهِ، وَالْطُمَأْنِينَةِ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي فَرْضُهَا أَفْرَضُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَمُسْتَحِبُّهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُسْتَحِبِّهَا، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ بِدُونِهَا إِمَّا عَدِيمُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ. وَأَعْمَالُ الْجَوَارِحِ: كَالْصَلَاةِ وَالْجِهَادِ، وَنَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَمُسَاعَدَةِ الْعَاجِزِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَـ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} " الْتِزَامٌ لِأَحْكَامِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِقْرَارٌ بِهَا، وَ " {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} " طَلَبٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَيْهَا وَالتَّوْفِيقِ لَهَا، وَ " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} " مُتَضَمِّنٌ لِلتَّعْرِيفِ بِالْأَمْرَيْنِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِلْهَامِ الْقِيَامِ بِهِمَا، وَسُلُوكِ طَرِيقِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ بِهَا.
وَجَمِيعُ الرُّسُلِ إِنَّمَا دَعَوْا إِلَى " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} " فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ دَعَوْا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِخْلَاصِ عِبَادَتِهِ، مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ وَصْفَ أَكْمَلِ خَلْقِهِ، وَأَقْرَبِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هَاهُنَا، ثُمَّ يَبْتَدِئُ {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} فَهُمَا جُمْلَتَانِ تَامَّتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، أَيْ إِنَّ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ عَبِيدًا وَمِلْكًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ جُمْلَةً أُخْرَى فَقَالَ: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} يَعْنِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ يَعْنِي لَا يَأْنَفُونَ عَنْهَا، وَلَا يَتَعَاظَمُونَ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ، فَيَعْيَوْنَ وَيَنْقَطِعُونَ- يُقَالُ: حَسِرَ وَاسْتَحْسَرَ، إِذَا تَعِبَ وَأَعْيَا- بَلْ عِبَادَتُهُمْ وَتَسْبِيحُهُمْ كَالنَّفَسِ لِبَنِي آدَمَ، فَالْأَوَّلُ وَصْفٌ لِعَبِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَالثَّانِي وَصْفٌ لِعَبِيدِ إِلَهِيَّتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَقَالَ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} وَقَالَ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وَقَالَ عَنْ سُلَيْمَانَ {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وَقَالَ عَنِ الْمَسِيحِ {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} فَجَعَلَ غَايَتَهُ الْعُبُودِيَّةَ لَا الْإِلَهِيَّةَ، كَمَا يَقُولُ أَعْدَاؤُهُ النَّصَارَى، وَوَصَفَ أَكْرَمَ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، وَأَعْلَاهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} فَذَكَرَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ، وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَقَالَ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} فَذَكَرَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} فَذَكَرَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَا عَبْدٌ، آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ. وَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْبِشَارَةَ الْمُطْلَقَةَ لِعِبَادِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَجَعَلَ الْأَمْنَ الْمُطْلَقَ لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} وَعَزَلَ الشَّيْطَانَ عَنْ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَجَعَلَ سُلْطَانَهُ عَلَى مَنْ تَوَلَّاهُ وَأَشْرَكَ بِهِ، فَقَالَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} وَقَالَ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}. وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْسَانَ الْعُبُودِيَّةِ أَعْلَى مَرَاتِبِ الدِّينِ وَهُوَ الْإِحْسَانُ فَقَالَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ- وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الْإِحْسَانِ- أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وَقَالَ أَهْلُ النَّارِ {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} وَالْيَقِينُ هَاهُنَا هُوَ الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَفِي الصَّحِيحِ- فِي قِصَّةِ مَوْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ أَيِ الْمَوْتُ وَمَا فِيهِ، فَلَا يَنْفَكُّ الْعَبْدُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، بَلْ عَلَيْهِ فِي الْبَرْزَخِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى لَمَّا يَسْأَلُهُ الْمَلَكَانِ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ؟ وَمَا يَقُولُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَيَلْتَمِسَانِ مِنْهُ الْجَوَابَ، وَعَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَدْعُو اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ إِلَى السُّجُودِ، فَيَسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُودَ، فَإِذَا دَخَلُوا دَارَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ هُنَاكَ، وَصَارَتْ عُبُودِيَّةُ أَهْلِ الثَّوَابِ تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِأَنْفَاسِهِمْ لَا يَجِدُونَ لَهُ تَعَبًا وَلَا نَصْبًا. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَصِلُ إِلَى مَقَامٍ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ التَّعَبُّدُ، فَهُوَ زِنْدِيقٌ كَافِرٌ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَإِنَّمَا وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَالِانْسِلَاخِ مِنْ دِينِهِ، بَلْ كُلَّمَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ أَعْظَمَ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْهَا أَكْبَرَ وَأَكْثَرَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَلْ عَلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ- أَعْظَمَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ أَعْظَمَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى أُولِي الْعِلْمِ أَعْظَمَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ، وَكُلُّ أَحَدٍ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ.
الْعُبُودِيَّةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ: فَالْعُبُودِيَّةُ الْعَامَّةُ عُبُودِيَّةُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلِّهِمْ لِلَّهِ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ الْقَهْرِ وَالْمُلْكِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} فَسَمَّاهُمْ عِبَادَهُ مَعَ ضَلَالِهِمْ، لَكِنْ تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً بِالْإِشَارَةِ، وَأَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَلَمْ تَجِئْ إِلَّا لِأَهْلِ النَّوْعِ الثَّانِي، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وَقَالَ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْعُبُودِيَّةَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَعُبُودِيَّةُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْأَوَامِرِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} وَقَالَ: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُ رُبُوبِيَّتِهِ، وَأَهْلُ طَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ هُمْ عَبِيدُ إِلَهِيَّتِهِ. وَلَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ إِضَافَةُ الْعِبَادِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا إِلَّا لِهَؤُلَاءِ. وَأَمَّا وَصْفُ عَبِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَلَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى أَحَدِ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا مُنْكِرًا، كَقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وَالثَّانِي مُعَرَّفًا بِاللَّامِ، كَقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}. الثَّالِثُ: مُقَيَّدًا بِالْإِشَارَةِ أَوْ نَحْوِهَا، كَقوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ}. الرَّابِعُ: أَنْ يُذْكَرُوا فِي عُمُومِ عِبَادِهِ، فَيَنْدَرِجُوا مَعَ أَهْلِ طَاعَتِهِ فِي الذِّكْرِ، كَقوله: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. الْخَامِسُ: أَنْ يُذْكَرُوا مَوْصُوفِينَ بِفِعْلِهِمْ، كَقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّمَا سَمَّاهُمْ عِبَادَهُ إِذْ لَمْ يَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَنَابُوا إِلَيْهِ، وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، فَيَكُونُوا مِنْ عَبِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالطَّاعَةِ. وَإِنَّمَا انْقَسَمَتِ الْعُبُودِيَّةُ إِلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَى اللَّفْظَةِ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، يُقَالُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إِذَا كَانَ مُذَلَّلًا بِوَطْءِ الْأَقْدَامِ، وَفُلَانٌ عَبَّدَهُ الْحُبُّ إِذَا ذَلَّلَهُ، لَكِنْ أَوْلِيَاؤُهُ خَضَعُوا لَهُ وَذَلُّوا طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَانْقِيَادًا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَعْدَاؤُهُ خَضَعُوا لَهُ قَهْرًا وَرَغْمًا. وَنَظِيرُ انْقِسَامِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ انْقِسَامُ الْقُنُوتِ إِلَى خَاصٍّ وَعَامٍّ، وَالُجُودُ كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى فِي الْقُنُوتِ الْخَاصِّ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} وَقَالَ فِي حَقِّ مَرْيَمَ {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ فِي الْقُنُوتِ الْعَامِّ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أَيْ خَاضِعُونَ أَذِلَّاءُ. وَقَالَ فِي السُّجُودِ الْخَاصِّ {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} وَقَالَ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ فِي السُّجُودِ الْعَامِّ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}. وَلِهَذَا كَانَ هَذَا السُّجُودُ الْكُرْهُ غَيْرَ السُّجُودِ الْمَذْكُورِ فِي قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} فَخَصَّ بِالسُّجُودِ هُنَا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَعَمَّهُمْ بِالسُّجُودِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ} وَهُوَ سُجُودُ الذُّلِّ وَالْقَهْرِ وَالْخُضُوعِ، فَكُلُّ أَحَدٍ خَاضِعٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، ذَلِيلٌ لِعِزَّتِهِ، مَقْهُورٌ تَحْتَ سُلْطَانِهِ تَعَالَى.
|