الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)} قوله تعالى: {أَمْ خُلِقوا من غير شيء} فيه أربعة أقوال. أحدها: أَمْ خُلقوا من غير ربٍّ خالق؟ والثاني: أَمْ خُلقوا من غير آباءٍ ولا أُمَّهات، فهم كالجماد لا يعقِلون؟ والثالث: أَمْ خُلقوا من غير شيء كالسماوات والأرض؟ أي: إنهم ليسوا بأشَدَّ خَلْقاً من السماوات والأرض، لأنها خُلقت من غير شيء وهم خُلقوا من آدم، وآدم من تراب. والرابع: أَمْ خُلقوا لغير شيء؟ فتكون «مِنْ» بمعنى اللام. والمعنى: ما خُلقوا عَبَثاً فلا يؤمَرون ولا يُنْهَون. قوله تعالى: {أَمْ هُمُ الخالقون} فلذلك لا يأتمرون ولا ينتهون؟ لأن الخالق لا يؤمر ولا يُنهى. قوله تعالى: {بَلْ لا يوقِنون} بالحق، وهو توحيدُ الله وقدرته على البعث. قوله تعالى: {أَمْ عندهم خزائنُ ربِّك} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: المطر والرِّزق، قاله ابن عباس. والثاني: النُّبوَّة، قاله عكرمة. والثالث: عِلْم ما يكون من الغيب، ذكره الثعلبي. وقال الزجاج: المعنى: أعندهم ما في خرائن ربِّك من العِلْم، وقيل: من الرِّزق، فهم مُعْرِضون عن ربِّهم لاستغنائهم؟! قوله تعالى: {أَمْ هُمُ المصيطِرون} قرأ ابن كثير: «المُسيطِرونَ» بالسين. وقال ابن عباس: المسلَّطون. قال أبو عبيدة: «المُصيطِرون» الأرباب. يقال: تسيطرتَ عليَّ، أي: اتَّخذتَني خَوَلاً، قال: ولم يأت في كلام العرب اسم على «مُفَيْعِل» إلا خمسة أسماء: مُهَيْمِن، ومُجَيْمِر، ومُسَيْطِر، ومُبَيْطِر، ومُبَيْقِر، فالمُهيْمن: الله الناظر المُحصي الذي لا يفوته شيء؛ ومُجَيْمر: جبل؛ والمُسَيْطِر: المسلَّط؛ ومُبَيْطِر: بَيْطار؛ والمُبَيْقِر: الذي يخرُج من أرض إلى أرض، يقال: بَيْقَرَ: إذا خرج من بلد إلى بلد، قال امرؤ القيس: أَلا هَلْ أَتاهَا، والحوادِثُ جَمَّةٌ *** بأنَّ امْرأَ القَيْس بنَ تَمْلِك بَيْقَرا؟ قال الزجّاج: المسيطِرون: الأرباب المسلَّطون، يقال: قد تسيطر علينا وتصيطر: بالسين والصاد، والأصل السين، وكل سين بعدها طاء، فيجوز أن تُقلب صاداً، تقول: سطر وصطر، وسطا علينا وصطا. قال المفسرون: معنى الكلام: أم هم الأرباب فيفعلون ما شاؤوا ولا يكونون تحت أمر ولا نهى؟! قوله تعالى: {أَمْ لهم سُلّمٌ} أي: مَرْقَىً ومصْعدٌ إلى السماء {يستمِعونَ فيه} أي: عليه الوحيَ، كقوله: {في جذوع النَّخْل} [طه: 71] فالمعنى يستمِعونَ [الوحي] فيعلمون أنَّ ما هُم عليه حق {فلْيأت مُستمِعُهم} إِن ادَّعى ذلك {بسُلطانٍ مُبينٍ} أي، بحُجَّة واضحة كما أتى محمد بحُجَّة على قوله. {أمْ له البناتُ ولكم البَنونَ} هذا إنكار عليهم حين جَعلوا لله البناتِ. {أم تسألُهم أجراً فهم من مَغْرَمٍ مُثْقَلونَ} أي: هل سألتهم أجراً على ما جئتَ به، فأثقلهم ذلك الذي تطلبه منهم فمنعهم عن الاسلام؟ والمَغْرمَ بمعنى الغُرْم وقد شرحناه في [براءة: 98]. قوله تعالى: {أم عندهم الغَيْبُ} هذا جواب لقولهم: «نَتربَّص به ريْبَ المَنون»؛ والمعنى: أعندهم الغيب؟ وفيه قولان. أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، {فهم يكتبون} ما فيه ويخبِرون الناس. قاله ابن عباس. والثاني: أعندهم عِلْم الغيب فيَعلمون أن محمداً يموت قبلم {فهم يكتُبون} أي: يحكُمون فيقولون: سَنقْهَرُك. والكتاب: الحُكم؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سأقضي بينكما بكتاب الله» أي: بحُكم الله عز وجل؛ وإلى هذا المعنى: ذهب ابن قتيبة. قوله تعالى: {أم يُريدون كَيْداً} وهو ما كانوا عزموا عليه في دار النَّدوة؛ وقد شرحنا ذلك في قوله: {وإذ يمكُرُ بِكَ الذين كفَروا} [الأنفال: 30] ومعنى {هُمُ المَكيدونَ} هم المَجْزِيُّون بكَيدهم، لأن ضرر ذلك عاد عليهم فقُتلوا ببدر وغيرها. {أم لهم إلهٌ غيرُ الله} أي: ألَهُم إله يرزقهم ويحفظهم غيرُ الله؟ والمعنى أن الأصنام ليست بآلهة، لأنها لا تنفع ولا تدفع. ثم نزَّه نَفْسه عن شرِكهم بباقي الآية.
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} ثم ذكر عنادهم فقال: {وإن يَرَوْا كِسْفاً من السماء ساقطاً} والمعنى: لو سقط بعضُ السماء عليهم لَمَا انتهوا عن كفرهم، ولَقالوا: هذه قِطعة من السَّحاب قدُركم بعضُه على بعض. {فذرْهم} أي خَلِّ عنهم {حتَّى يُلاقُوا} قرأ أبو جعفر «يَلْقَوا» بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف {يوْمَهم} وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنه يوم موتهم. والثاني: يوم القيامة. والثالث: يوم النَّفخة الأولى. قوله تعالى: {يُصْعَقُون} قرأ عاصم، وابن عامر: «يُصْعَقُون» برفع الياء، من أصعَقَهم غيرُهم؛ والباقون بفتحها، من صعقوهم. وفي قوله: {يُصْعقون} قولان. أحدهما: يموتون. والثاني: يُغشى عليهم، كقوله: {وخَرَّ موسى صعِقاً} [الأعراف: 143] وهذا يخرج على قول من قال: هو يوم القيامة، فإنهم يُغْشى عليهم من الأهوال. وذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولا يصح، لأن معنى الآية الوعيد. قوله تعالى: {يوْم لا يُغْني عنهم كيْدُهم شيئاً} هذا اليوم الأول؛ والمعنى: لا ينفعهم مكرهم ولا يدفع عنهم العذاب {ولا هُمْ يُنْصَرون} أي: يُمْنعون من العذاب. قوله تعالى: {وإِنَّ لِلَّذين ظلموا} أي: أشركوا {عذاباً دون ذلك} أي: قبْل ذلك اليوم؛ وفيه أربعة أقوال. أحدها: أنه عذاب القبر، قاله البراء، وابن عباس. والثاني: عذاب القتل يوم بدر، وروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل. والثالث: مصائبهم في الدنيا، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: عذاب الجوع، قاله مجاهد. قوله تعالى: {ولكنَّ أكثرهم لا يعْلمون} أي: لا يعلمون ما هو نازلٌ بهم. {واصْبِر لحُكم ربِّك} أي: لما يحكُم به عليك {فإنَّك بأعيُننا} قال الزجّاج: فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، فلا يصِلون إلى مكروهك. وذكر المفسرون: أن معنى الصبر نُسخ بآية السيف، ولا يصح لأنه لا تضادَّ. {وسبِّح بحمد ربِّك حين تقوم} فيه ستة أقوال. أحدها: صلِّ لله حين تقوم من منامك، قاله ابن عباس. والثاني: قُلْ: " سبحانك اللهمَّ وبحمدك " حين تقوم من مجلسك، قاله عطاء، وسعيد بن جبير، ومجاهد في آخرين. والثالث: قُلْ «سبحانك الله وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جُّدك ولا إله غيرك» حين تقوم في الصلاة، قاله الضحاك. والرابع: سبِّح الله إذا قُمْت من نومك، قاله حسّان بن عطيّة. والخامس: صلِّ صلاة الظُّهر إذا قُمْت من نوم القائلة، قاله زيد بن أسلم. والسادس: اذْكُر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخُل في الصلاة، قاله ابن السائب. قوله تعالى: {ومِن اللَّيل فسبِّحْه} قال مقاتل: صلِّ المغرب وصلِّ العِشاء {وإدبار النُّجوم} قرأ زيد عن يعقوب، وهارون عن أبي عمرو، والجعفي عن أبي بكر: «وأدبار النُّجوم» بفتح الهمزة؛ وقرأ الباقون بكسرها. وقد شرحناها في [ق: 40]؛ والمعنى: صلِّ له في إدبار النجوم، أي: حين تُدْبِر، أي: تغيب بضَوء الصُّبح. وفي هذه الصلاة قولان. أحدهما: أنها الرَّكعتان قَبْل صلاة الفجر، رواه عليٌّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو قول الجمهور. والثاني: أنها صلاة الغداة، قاله الضحاك، وابن زيد.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} قوله تعالى: {والنَّجْم إِذا هوى} هذا قسم. وفي المراد بالنجم خمسة أقوال. أحدها: أنه الثُّريّا، رواه العوفي عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، قال ابن قتيبة: والعرب تسمي الثريا- وهي ستة أنجُم- نجماً. وقال غيره: هي سبعة، فستة ظاهرة، وواحد خفي، يمتحن به الناسُ أبصارَهم. والثاني: الرُّجوم من النُّجوم، يعني ما يرمى به الشياطين، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنه القرآن نزل نجوماً متفرِّقة، قاله عطاء عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد. وقال مجاهد: كان ينزل نجوماً ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك. والرابع: نجوم السماء كُلِّها، وهو مروي عن مجاهد أيضاً. والخامس: أنها الزُّهَرةُ: قاله السدي. فعلى قول من قال: النجم: الثريا، يكون «هوى» بمعنى «غاب»؛ ومن قال: هو الرُّجوم، يكون هُوِيُّها في رمي الشياطين، ومن قال: القرآن، يكون معنى «هوى» نزل، ومن قال: نجوم السماء كلِّها، ففيه قولان. أحدهما: أن هُوِيَّها أن تغيب. والثاني: أن تنتثر يوم القيامة. قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلَّها بفتح أواخر آياتها. وقرأ أبو عمرو ونافع بين الفتح والكسر. وقرأ حمزة والكسائي ذلك كلَّه بالإمالة. قوله تعالى: {ما ضَلَّ صاحبُكم} هذا جواب القَسَم؛ والمعنى: ما ضَلَّ عن طريق الهُدى، والمراد به: رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وما يَنْطِقُ عن الهَوى} أي: ما يتكلَّم بالباطل. وقال أبو عبيدة: «عن» بمعنى الباء. وذلك أنهم قالوا: إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه. {إنْ هُوَ} أي: ما القرآنُ {إلاّ وَحْيٌ} من الله {يُوحَى} وهذا ممّا يحتجُّ به من لا يُجيز للنبيّ أن يجتهد، وليس كما ظنُّوا، لأن اجتهاد الرأي إذا صدر عن الوحي، جاز أن يُنْسَبَ إلى الوحي.
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} قوله تعالى: {عَلَّمه شديدُ القُوى} وهو جبريل عليه السلام علَّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن قتيبة: وأصل هذا من «قُوَى الحَبْل» وهي طاقاتُه، الواحدة: قُوَّةٌ {ذو مِرَّةٍ} أي: ذو قُوَّة، وأصل المِرَّة: الفَتْلُ. قال المفسرون: وكان من قُوَّته أنه قلع قَرْيات لوط وحملها على جناحه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين. قوله تعالى: {فاستوى، وهُو بالأُفُق الأعلى} فيه قولان. أحدهما: فاستوى جبريل، وهو يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنهما استويا بالأفق الأعلى لمّا أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الفراء. والثاني: فاستوى جبريل، وهو يعني جبريل بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية، لأنه كان يَتمثَّل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجُل، وأحبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته، فاستوى في أفق المَشْرِق، فملأ الأفق؛ فيكون المعنى؛ فاستوى جبريلُ بالأفق الأعلى في صورته، هذا قول الزجَّاج. قال مجاهد: والأفق الأعلى: هو مَطْلِع الشمس. وقال غيره: إنما قيل له: «الأعلى» لأنه فوق جانب المَغْرب في صعيد الأرض لا في الهواء. قوله تعالى: {ثُمَّ دنا فتَدَلَّى} قال الفراء: المعنى: ثم تَدلَّى فدنا. ولكنه جائز أن تقدِّم أيَّ الفعلين شئتَ إذا كان المعنى فيهما واحداً، فتقول: قد دنا فقَربُ، وقَرُبَ فدنا، وشتم فأساء، وأساء فشتم، ومنه قوله: {اقتربتِ الساعةُ وانشقَّ القمر} [القمر: 1] المعنى والله أعلم: انشق القمر واقتربت الساعة. قال ابن قتيبة: المعنى: تَدلَّى فدنا، لأنه تَدَلَّى للدُّنُوِّ، ودنا بالتَّدلِّي. وقال الزجاج: دنا بمعنى قَرُبَ، وتدلى: زاد في القُرْب، ومعنى اللفظتين واحد. وقال غيرهم: أصل التَّدَلِّي: النُّزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوُضع موضع القُرْب. وفي المشار إليه بقوله: «ثُمَّ دنا» ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الله عز وجل. روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث شريك بن أبي نَمِر عن أنس بن مالك قال: دنا الجبّار ربُّ العِزَّة فتدلَّى حتى كان منه قابَ قوسين أو أدنى. وروى أبو سلمة عن ابن عباس: «ثم دنا» قال: دنا ربُّه فتدلَّى، وهذا اختيار مقاتل. قال: دنا الرَّبُّ من محمد ليلةَ أُسْرِي به،، فكان منه قابَ قوسين أو أدنى. وقد كشفتُ هذا الوجه في كتاب «المُغْني» وبيَّنتُ أنه ليس كما يخطُر بالبال من قُرب الأجسام وقطع المسافة، لأن ذلك يختص بالأجسام، والله منزَّه عن ذلك. والثاني: أنه محمد دنا من ربِّه، قاله ابن عباس، والقرظي. والثالث: أنه جبريل. ثم في الكلام قولان. أحدهما: دنا جبريلُ بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: دنا جبريلُ من ربِّه عز وجل فكان منه قابَ قوسين أو أدنى، قاله مجاهد. قوله تعالى: {فكان قابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى} وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين: «فكان قاد قوسين» بالدال. وقال أبو عبيدة: القابُ والقادُ: القَدْر. وقال ابن فارس: القابُ: القدر. ويقال: بل القابُ: ما بين المَقْبِض والسِّية، ولكل قوس قابان. وقال ابن قتيبة: سِيَة القَوْس: ما عُطِفَ من طَرَفيْها. وفي المراد بالقوسين قولان. أحدهما: أنها القوس التي يُرمى بها، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة، فقال: قَدْر قوسين. وقال الكسائي: أراد بالقوسين: قوساً واحداً. والثاني: أن القوس: الذراع؛ فالمعنى: كان بينهما قَدْر ذراعين، حكاه ابن قتيبة. وهو قول ابن مسعود، وسعيد بن جبير، والسدي. قال ابن مسعود: دنا جبريل منه حتى كان قَدْرَ ذراع أو ذراعين. قوله تعالى: {أو أدنى} فيه قولان. أحدهما: أنها بمعنى «بل»، قاله مقاتل. والثاني: أنهم خوطبوا على لغتهم؛ والمعنى: كان على ما تقدِّرونه أنتم قَدْرَ قوسين أو أقلَّ، هذا اختيار الزجّاج. قوله تعالى: {فأَوْحى إلى عَبْده ما أَوْحى} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أَوْحى اللهُ إلى محمد كِفاحاً بلا واسطة، وهذا على قول من يقول: إنه كان في ليلة المعراج. والثاني: أَوحى جبريلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أَوحى اللهُ إليه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أَوحى [اللهُ] إلى جبريل ما يوحيه، روي عن عائشة رضي الله عنها، والحسن، وقتادة. قوله تعالى: {ما كَذَبَ الفؤادُ ما رأى} قرأ أبو جعفر، وهشام عن ابن عامر، وأبان عن عاصم: «ما كَذَّب» بتشديد الذّال؛ وقرأ الباقون بالتخفيف. فمن شدَّد أراد: ما أَنكر فؤادُه ما رأته عينُه؛ ومن خفَّف أراد: ما أوهمه فؤادُه أنه رأى، ولم ير، بل صَدَّقَ الفؤاد رؤيته. وفي الذي رأى قولان. أحدهما: أنه رأى ربَّه عز وجل، قاله ابن عباس، [وأنس]، والحسن، وعكرمة. والثاني: أنه رأى جبريلَ في صورته التي خُلق عليها، قاله ابن مسعود وعائشة. قوله تعالى: {أفَتُمارُونه} وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وخلف، ويعقوب: «أفَتمْروُنه». قال ابن قتيبة: معنى «أفَتُماروُنه»: أفتُجادِلونه، مِن المِراء، ومعنى «أفتَمْرُونه»: أفَتَجْحدونه. قوله تعالى: {ولقد رآه نَزْلَةً أُخْرَى} قال الزجّاج: أي: رآه مَرَّةً أُخرى. قال ابن عباس: رأى محمدٌ ربَّه؛ وبيان هذا أنه تردَّد لأجل الصلوات مراراً، فرأى ربَّه في بعض تلك المرّات مَرَّةً أُخرى. قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى، فرآه محمد مرتين، وكلَّمه موسى مرتين. وقد روي عن ابن مسعود أن هذه الرؤية لجبريل أيضاً، رآه على صورته التي خُلق عليها. فأمّا سِدْرة المُنتهى، فالسِّدْرة: شجرة النَّبِق، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نَبِقُها مِثْلُ قِلال هَجَر، ووَرَقُها مِثلُ آذان الفِيَلة " وفي مكانها قولان. أحدهما: أنها فوق السماء السابعة، وهذا مذكور في «الصحيحين» من حديث مالك بن صعصعة. قال مقاتل: وهي عن يمين العرش. والثاني: أنها في السماء السادسة، أخرجه مسلم في أفراده عن ابن مسعود وبه قال الضحاك. قال المفسرون: وإنما سُمِّيتْ سِدْرة المُنتهى، لأنه إليها مُنتهى ما يُصْعَد به من الأرض، فيُقْبَض منها، وإليها ينتهي ما يُهبْطَ به من فوقها فيُقْبَض منها، وإليها ينتهي عِلْم جميع الملائكة. قوله تعالى: {عِنْدَها} وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر، وأبو نهيك: «عِنْدَهُ» بهاءٍ مرفوعة على ضمير مذكَّر {جَنَّةُ المأوى} قال ابن عباس: هي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة. وقال الحسن: هي التي يصير إليها أهل الجنة. وقال مقاتل: هي جَنَّة إليها تأوي أرواح الشهداء. وقرأ سعيد بن المسيّب، والشعبي، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو العالية: «جَنَّهُ المأوى» بهاءٍ صحيحة مرفوعة. قال ثعلب: يريدون أَجنَّهُ، وهي شاذَّة. وقيل: معنى «عندها»: أدركه المبيت يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {إذ يَغْشى السِّدْرَةَ ما يغْشى} روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: غَشِيَها فَراشٌ مِنْ ذهب. وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لمّا غَشِيَها مِنْ أمْر الله ما غَشِيَها، تغيَّرتْ، فما أحدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يستطيع أن يَصِفها مِنْ حُسْنها " وقال الحسن، ومقاتل: تَغْشاها الملائكةُ أمثالَ الغِرْبان حين يَقَعْنَ على الشجرة. وقال الضحاك: [غَشِيها] نور ربِّ العالمين. قوله تعالى: {ما زاغ البَصَرُ} أي: ما عَدَلَ بَصرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يميناً ولا شِمالاً {وما طغى} أي: ما زاد ولا جاوز ما رأى؛ وهذا وصف أدبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام. {لقد رأى مِنْ آياتِ ربِّه الكُبرى} فيه قولان. أحدهما: [لقد] رأى من آياتِ ربِّه العِظامِ. والثاني: لقد رأى من آيات ربِّه [الآية] الكُبرى. وللمفسرين في المراد بما رأى من الآيات ثلاثة أقوال. أحدها: أنه رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سَدَّ الأفق، قاله ابن مسعود. والثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، قاله ابن زيد. والثالث: أنه رأى من أعلام ربِّه وأدلَّته [الأعلامَ والأدلةَ] الكُبرى، قاله ابن جرير:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} قال الزجاج: فلمّا قَصَّ اللهُ تعالى هذه الأقاصيص قال: {أفَرَأيتم اللاّت والعُّزَّى} المعنى: أخبِرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها هل لها من القُدرة والعظمة التي وُصف بها ربُّ العِزَّة شيءٌ؟! فأمّا «اللاّت» فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وهو اسم صنم كان لثقيف اتَّخذوه مِن دون الله، وكانوا يَشتقُّون لأصنامهم من أسماء الله تعالى، فقالوا من «الله»: اللات،: ومن «العزيز»: العُزَّى. قال أبو سليمان الخطابي: كان المشركون يتعاطَون «الله» اسماً لبعض أصنامهم، فصرفه الله إلى اللاّت صيانةً لهذا الاسم وذَبّاً عنه. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك، وابن السميفع، ومجاهد، وابن يعمر، والأعمش، وورش عن يعقوب: «اللاتّ» بتشديد التاء؛ ورد في تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق للحاجّ، فلمّا مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال الزجاج: زعموا أن رجلاً كان يلُتُّ السَّويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسُمِّي الصنمُ: اللاّتّ. وكان الكسائي يقف عليه بالهاء، فيقول: «اللاّه»؛ وهذا قياس، والأجود الوقوف بالتاء، لاتباع المصحف. وأما «العُزَّى» ففيها قولان. أحدهما: أنها شجرة لغطفان كانوا يعبدونها، قاله مجاهد. والثاني: صنم لهم، قاله الضحاك. قال: وأمّا «مَناةَ» فهو صنم لهُذَيل وخُزاعة يعبُده أهلُ مكة. وقال قتادة: بل كانت للأنصار. وقال أبو عبيدة: كانت اللاّت والعُزَّى ومَناة أصناماً من حجارة في جوف الكعبة يعبدونها. وقرأ ابن كثير «ومَناءَةَ» ممدودة مهموزة. فأمّا قوله: {الثالثةَ} فانه نعت ل «مَناة»، هي ثالثة الصنمين في الذِّكر، و«الأُخرى» نعت لها. قال الثعلبي: العرب لا تقول للثالثة: الأُخرى، وإنما الأُخرى نعت للثانية؛ فيكون في المعنى وجهان. أحدهما: أن ذلك لِوِفاق رؤوس الآي، كقوله {مَآربُ أُخرى} [طه: 18] ولم يقل، أُخَر، قاله الخليل. والثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره: أفرأيتم اللاّت والعُزَّى الأخرى ومَناة الثالثة، قاله الحسين بن الفضل. قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ} قال ابن السائب: إن مشركي قريش قالوا للأصنام والملائكة: بناتُ الله، وكان الرجُل منهم إذا بُشِّر بالأُنثى كرِه، فقال الله تعالى مُنْكِراً عليهم: {ألَكُمُ الذَّكرُ وله الأُنثى}؟! يعني الأصنام وهي [إناث] في أسمائها. {تلك إذاً قِسْمةٌ ضِيزى} قرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: [«ضِيزى»] بكسر الضاد من غير همز؛ وافقهم ابن كثير [في] كسر الضاد، لكنه همز. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاذ القارئ: «ضَيْزى» بفتح الضاد من غير همز. قال الزجاج: الضِّيزى في كلام العرب: الناقصةُ الجائرة، يقال: ضازه يَضِيزُه: إذا نقصه حَقَّه، ويقال: ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز. وأجمع النحويُّون أن أصل ضِيزَى: ضُوزًى، وحُجَّتُهم أنها نُقلت من «فُعْلى» من ضْوزى إلى ضِيزى، لتَسلم الياء، كما قالوا: أبيض وبِيْض، وأصله: بُوضٌ، فنُقلت الضَّمَّة إلى الكسرة. وقرأت على بعض العلماء باللُّغة: في «ضيزى» لغات؛ يقال: ضِيزَى، وضُوزَى، وضُؤْزَى، وضَأْزَى على «فَعْلى» مفتوحة؛ ولا يجوز في القرآن إلاّ «ضِيزى» بياءٍ غير مهموزة؛ وإنما لم يقُل النحويُّون: إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام «فِعْلى» صفة، إنما يعرفون الصِّفات على «فَعْلَى» بالفتح، نحو سَكُرَى وغَضْبى، أو بالضم، نحو حُبْلى وفُضْلى. قوله تعالى: {إن هي} يعني الأوثان {إلاّ أسماءٌ} والمعنى: إن هذه الأوثان التي سمَّوها بهذه الأسامي لا معنى تحتها، لأنها لا تضر ولا تنفع، فهي تسميات أُلقيت على جمادات، {ما أَنزل اللهُ بها من سُلطان} أي: لم يُنزل كتاباً فيه حُجّة بما يقولون: إِنها آلهة. ثم رجع إلى الإخبار عنهم بعد الخطاب لهم فقال: {إن يَتَّبِعونَ} في أنها آلهة، [{إلا الظن وما تهوى الأنفس}] وهو ما زيَّن لهم الشيطان، {ولقد جاءهم مِن ربِّهم الهُدى} وهو البيان بالكتاب والرسول، وهذا تعجيب من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وُضوح البيان. ثم أنكر عليهم تَمنِّيهم شفاعتَها فقال: {أَم للإنسان} يعني الكافر {ما تَمنَّى} من شفاعة الأصنام {فلِلَّهِ الآخِرةُ والأُولى} أي لا يَملك فيهما أحد شيئاً إلاّ بإذنه. ثم أكَّد هذا بقوله: {وكم مِنْ مَلَكٍ في السموات لا تُغْني شفاعتُهم شيئاً} فجمع في الكناية، لأن معنى الكلام الجمع {إلاّ مِنْ بَعْدِ أن يأذن اللهُ} في الشفاعة {لِمن يشاءُ ويَرضى}؛ والمعنى أنهم لا يَشفعون إلاّ لِمن رضي اللهُ عنهم.
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)} قوله تعالى: {إن الذين لا يؤمِنون بالآخرة} أي: بالبعث {لَيُسَمُّونَ الملائكةَ تسميةَ الأُنثى} وذلك حين زعموا أنها بنات الله، {وما لهم} بذلك، {من عِلْمٍ} أي: ما يَستيقِنون أنها إناث {إن يَتَّبَعون إِلاّ الظَّنَّ وإن الظَّنَّ لا يُغْني مِن الحقِّ شيئاً} أي: لا يقوم مقامَ العِلْم؛ فالحقُّ هاهنا بمعنى العِلْم. {فأَعْرِضْ عمَّن تولَّى عن ذِكْرِنا} يعني القرآن؛ وهذا عند المفسرين منسوخ بآية السيف. قوله تعالى: {ذلك مَبلغُهم من العِلْم} قال الزجّاج: إنَّما يعلمون ما يحتاجون إليه في معايشهم، وقد نبذوا أمر الآخرة. قوله تعالى: {هو أعلمُ بمن ضَلَّ عن سبيله...} الآية؛ والمعنى أنه عالِمٌ بالفريقين فيجازيهم.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} قوله تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض} هذا إِخبار عن قُدرته وسَعَة مُلكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله: {لِيَجْزِيَ الذين أساؤوا} لأن اللام في «ليجزي» متعلقة بمعنى الآية الأولى، لأنه إِذا كان أعلم بهما، جازى كُلاًّ بما يستحقُّه، وهذه لام العاقبة، وذلك أن عِلْمه بالفريقين أدَّى إلى جزائهم باستحقاقهم، وإِنما يَقْدِر على مُجازاة الفريقين إذا كان واسع المُلك، فلذلك أخبر به في قوله: {ولله ما في السموات وما في الأرض}. قال المفسرون: و«أساؤوا» بمعنى أشركوا، و«أحسنوا» بمعنى وحَّدوا. والحُسنى: الجنَّة. والكبائر مذكورة في سورة [النساء: 31] وقيل: كبائر الإثم: كُلُّ ذَنْب خُتم بالنّار، والفواحش: كُلُّ ذَنْب فيه الحدّ. وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وخلف: «يَجْتَنِبون كبِيرَ الإثم» واللَّمم في كلام العرب: المُقارَبة للشيء. وفي المراد به هاهنا ستة أقوال. أحدها: ما أَلمُّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية، فإنه يُغْفَر في الإسلام، قاله زيد بن ثابت. والثاني: أن يُلِمَّ بالذَّنْب مَرَّةً ثم يتوب ولا يعود، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي. والثالث: أنه صِغار الذُّنوب، كالنَّظرة والقُبلة وما كان دون الزِّنا، قاله ابن مسعود، وأبو هريرة، والشعبي، ومسروق، ويؤيِّد هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنا، فزِنا العينين النَّظر، وزِنا اللسان النُّطق، والنفس تشتهي وتتمنَّى، ويصدِّق ذلك ويكذِّبه الفَرْج، فإن تقدَّم بفَرْجه كان الزِّنا، وإلا فهو اللَّمم ". والرابع: أنه ما يَهُمُّ به الإنسان، قاله محمد بن الحنفية. والخامس: أنه ألَّم بالقلب، أي: خَطَر، قاله سعيد بن المسيّب. والسادس: أنه النَّظر من غير تعمُّد، قاله الحسين بن الفضل. فعلى القولين [الأولين] يكون الاستثناء من الجنس، وعلى باقي الأقوال ليس من الجنس. قوله تعالى: {إنَّ ربَّكَ واسعُ المغفرة} قال ابن عباس: لِمَن فعل ذلك ثم تاب. وهاهنا تمَّ الكلام. ثم قال {هو أعْلَمُ بِكُمْ} يعني قبل خَلْقكم {إذ أنشأكم من الأرض} يعني آدم عليه السلام {وإذا أنتم أجِنَّةٌ} جمع جَنِين؛ والمعنى أنه عَلِم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون، {فلا تُزَكُّوا أنفُسَكم} أي: لا تَشهدوا لها أنَّها زكيَّة بريئة من المعاصي. وقيل: لا تمدحوها بحُسن أعمالها. وفي سبب نزول هذه الآية قولان. أحدهما: أن اليهود كانوا إذا هلك لهم صبيّ، قالوا: صِدِّيق، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة رضي الله عنها. والثاني: أن ناساً من المسلمين قالوا: قد صليَّنا وصُمنا وفعلنا، يُزَكُّون أنفُسَهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قوله تعالى: {وهو أعلَمُ بِمَنِ اتَّقى} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: عمل حسنة وارعوى عن معصية، قاله عليّ رضي الله عنه. والثاني: أخلص العملَ لله، قاله الحسن. والثالث: اتَّقى الشِّرك فآمن، قاله الثعلبي.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} قوله تعالى: {أفرأيتَ الذي تَولَّى} اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال. أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، وكان قد تَبِع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فعيَّره بعضُ المشركين، وقال: تركتَ دين الأشياخ وضللَّتَهم؟ قال: إنِّي خشيتُ عذابَ الله، فضَمِن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجَع إلى شِركه أن يتحمَّل عنه عذابَ الله عز وجل ففعل، فأعطاه بعضَ الذي ضَمِن له، ثم بَخِل ومنعه، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وابن زيد. والثاني: أنه النَّضر بن الحارث أعطى بعضَ الفقراء المسلمين خمسَ قلائص حتى ارتدَّ عن إسلامه، وضَمِن له أن يَحْمِل عنه إثمه، قاله الضحاك. والثالث: أنه أبو جهل، وذلك أنه قال: واللهِ ما يأمُرُنا محمدٌ إلاّ بمكارم الأخلاق، قاله محمد بن كعب القرظي. والرابع: أنه العاص بن وائل السهمي، وكان رَّبما وافق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأُمور، قاله السدي. ومعنى «تَولَّى»: أعرضَ عن الإيمان. {وأعطى قليلاً} فيه أربعة أقوال. أحدها: أطاع قليلاً ثم عصى. قاله ابن عباس. والثاني: أعطى قليلاً من نَفْسه بالاستماع ثم أكدى بالانقطاع، قاله مجاهد. والثالث: أعطى قليلاً من ماله ثم مَنَع، قاله الضحاك. والرابع: أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع، قاله مقاتل. قال ابن قتيبة: ومعنى «أَكْدَى»: قَطَع، وهو من كُدْية الرَّكِيَّة، وهي الصَّلابة فيها، وإذا بلغها الحافر يئس من حَفْرها، فقطع الحَفْر، فقيل لكل من طلب شيئاً فلم يبلُغ آخِرَه، أو أعطَى ولم يُتِمَّ: أَكْدَىَ. قوله تعالى: {أعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} فيه قولان. أحدهما: فهو يرى حاله في الآخرة، قاله الفراء. والثاني: فهو يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وغيرها، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأُ بِما في صُحُف موسى} يعني التوراة، {وإبراهيمَ} أي: وصحف إبراهيم. وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن الله تعالى أَنزل على إبراهيمَ عشر صحائف، وأنزل على موسى قَبْلَ التَّوراة عشر صحائف ". قوله تعالى: {الذي وَفَّى} قرأ سعيد بن جبير، وأبو عمران الجوني، وابن السميفع اليماني «وَفَى» بتخفيف الفاء. قال الزجاج: قوله: «وَفَّى» أبلغ من «وَفَى»، لأن الذي امتُحن به مِنْ أعظمِ المِحن. وللمفسرين في الذي وفَّى عشرة أقوال. أحدها: أنه وفَّى عملَ يومه بأربع ركعات في أول النهار، رواه أبوأُمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه وفَّى في كلمات كان يقولها. روى سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألا أُخْبِرُكم لِمَ سمَّى اللهُ إِبراهيمَ خليله [الذي وفَّى]؟ " لأنه كان يقول كلمَّا أصبحَ وكلمَّا أمسى: {فسُبْحانَ اللهِ حينَ تُمْسونُ وحين تُصْبِحونَ...} [الروم: 17] وختم الآية. والثالث: أنه وفَّى الطاعة فيما فعل بابنه، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال القرظي. والرابع: أنه وفَّى ربَّه جميع شرائع الإسلام، روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس. والخامس: أنه وفَّى ما أُمر به من تبليغ الرِّسالة، روي عن ابن عباس أيضاً. والسادس: أنه عَمِل بما أُمر به، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، وقال مجاهد: وفَّى ما فُرض عليه. والسابع: أنه وفَّى بتبليغ هذه الآيات، وهي: «ألاّ تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخْرى» وما بعدها، وهذا مروي عن عكرمة، ومجاهد، والنخعي. والثامن: وفَّى شأن المناسك، قاله الضحاك. والتاسع: أنه عاهد أن لا يَسأل مخلوقاً شيئاً، فلمّا قُذف في النار قال له جبريل، ألَكَ حاجةٌ؟ فقال: أمّا إليك فلا، فوفَّى بما عاهد، ذكره عطاء بن السائب. والعاشر: أنه أدَّى الأمانة، قاله سفيان بن عيينة. ثم بيَّن ما في صحفهما فقال: {ألاّ تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي: لا تَحْمِل نَفْس حاملةٌ حِْملَ أُخْرى؛ والمعنى: لا تؤخَذ بإثم غيرها. {وأن ليس للإنسان إِلاّ ما سعى} قال الزجّاج: هذا في صحفهما أيضاً. ومعناه: ليس للإنسان إِلاّ جزاء سعيه، إِن عَمِل خيراً جُزِي عليه خيراً، وإِن عَمِل شَرّاً. جزي شَرّاً. واختلف العلماء في هذه الآية على ثمانية أقوال. أحدها: أنها منسوخة بقوله: {وأَتْبَعْناهم ذُرِّياتِهم بإيمان} [الطور: 21] فأُدخل الأبناء الجَنَّة بصلاح الآباء، قاله ابن عباس، ولا يصح، لأن لفظ الآيتين لفظ خبر، والأخبار لا تُنْسَخ. والثاني: أن ذلك كان لقوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمَّة فلهم ما سَعَوا وما سعى غيرُهم، قاله عكرمة، واستدل " بقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته: إنَّ أبي مات ولم يحُجَّ، فقال: «حُجِّي عنه» ". والثالث: أن المراد بالإنسان هاهنا: الكافر، فأمّا المؤمن، فله ما سعى وما سُعي له، قاله الربيع بن أنس. والرابع: أنه ليس للإنسان إلاّ ما سعى من طريق العدل، فأمّا مِنْ باب الفَضْل، فجائز أن يَزيده اللهُ عز وجل ما يشاء، قاله الحسين بن الفضل. والخامس: أن معنى «ما سعى» ما نوى، قاله أبو بكر الورّاق. والسادس: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدُّنيا، فيُثاب عليه فيها حتى لا يبقى له في الآخرة خير، ذكره الثعلبي. والسابع: أن اللام بمعنى «على» فتقديره: ليس على الإنسان إلا ما سعى. والثامن: أنه ليس له إلاّ سعيه، غير أن الأسباب مختلفة، فتارة يكون سعيه في تحصيل قرابة وولد يترحم عليه وصديق، وتارة يسعى في خِدمة الدِّين والعبادة، فيكتسب محبة أهل الدِّين، فيكون ذلك سببا حصل بسعيه، حكى القولين شيخنا علي بن عبيد الله الزاغوني. قوله تعالى: {وأنَّ سَعْيَه سوف يُرَى} فيه قولان. أحدهما: سوف يُعْلَم، قاله ابن قتيبة. والثاني: سوف يرى العبدُ سعيَه يومَ القيامة، أي: يرى عمله في ميزانه، قاله الزجاج. قوله تعالى: {يُجْزاه} الهاء عائدة على السعي {الجزاءَ الأَوْفَى} أي: الأكمل الأَتمّ.
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)} {وأنَّ إلى ربِّك المُنتهى} أي: مُنتهى العباد ومَرجِعهُم. قال الزجاج: هذا كُلُّه في صحف إبراهيم وموسى. قوله تعالى: {وأنَّه هو أضْحك وأبْكى} قالت عائشة: " مَرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوم يضحكون، فقال: لو تَعْلَمونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكتم قليلاً، ولبَكَيتم كثيراً "، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، فرجع إليهم، فقال: ما خطَوْتُ أربعينَ خطوة حتى أتاني جبريل، فقال: إئت هؤلاء فقُل لهم: إن الله يقول: وأنَّه هو أضحك وأبْكى، وفي هذا تنبيه على أن جميع الأعمال بقضاء الله وقدره حتى الضحك والبُكاء. وقال مجاهد: أضْحكَ أهلَ الجَنَّة، وأبكى أهل النّار. وقال الضحاك: أضْحَك الأرض بالنبات. وأبكى السماءَ بالمطر. قوله تعالى: {وأنَّه هو أمات} في الدُّنيا {وأحْيا} للبعث. {وأنَّه خَلَق الزَّوجَين} أي: الصِّنفين {الذَّكر والأنثى} من جميع الحيوانات، {مِنْ نُطْفة إذا تُمْنى} فيه قولان. أحدهما: إذا تُراق في الرَّحِم، قاله ابن السائب. والثاني: إذا تُخْلق وتُقَدَّر، {وأنَّ عليه النَّشْأةَ الأخْرى} وهي الخَلْق الثاني للبعث يوم القيامة. {وأنَّه هو أغْنى} فيه أربعة أقوال. أحدها: أغنى بالكفاية، قاله ابن عباس. والثاني: بالمعيشة، قاله الضحاك. والثالث: بالأموال، قاله أبو صالح. والرابع: بالقناعة، قاله سفيان. وفي قوله: {أقنى} ثلاثة أقوال: أحدها: أرْضى بما أعطى، قاله ابن عباس. والثاني: أخْدم، قاله الحسن، وقتادة، وعن مجاهد كالقولين. والثالث: جعل للإنسان قِنْيَةً، وهو أصل مال، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: {وأنَّه هو ربُّ الشِّعْرى} قال ابن قتيبة: هو الكوكب الذي يطْلُع بعد الجَوْزاء، وكان ناس من العرب يعبُدونها. قوله تعالى: {وأنَّه أهلك عاداً الأولى} قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «عاداً الأولى» منوَّنة. وقرأ نافع، وأبو عمرو: «عاداً لُولى» موصولة مدغمة. ثم فيهم قولان. أحدهما: أنهم قوم هود، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى، هذا قول الجمهور. والثاني: أن قوم هود هم عادٌ الأخرى، وهم من أولاد عادٍ الأولى، قاله كعب الأحبار. وقال الزجاج: وفي «الأولى» لغات، أجودها سكون اللام وإثبات الهمزة، والتي تليها في الجودة ضم اللام وطرح الهمزة، ومن العرب من يقول: لُولى، يريد: الأُولى، فتطرح الهمزة لتحرّك اللاّم. قوله تعالى: {وقومَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أي: مِن قَبْل عادٍ وثمودَ {إنَّهم كانوا هُمْ أظلمَ وأطغى} من غيرهم، لطول دعوة نوح إيّاهم، وعتوّهم. {والمُؤتفِكةُ} قُرى قوم لوط {أهوى} [أي]: أسقط، وكان الذي تولَّى ذلك جبريل بعد أن رفعها، وأتبعهم اللهُ بالحجارة، فذلك قوله: {فغشّاها} أي: ألبسها {ما غشَّى} يعني الحجارة {فبأيِّ آلاءِ ربِّكَ تتمارى} هذا خطاب للإنسان، لمّا عدَّد اللهُ ما فعله ممّا يَدلُّ على وحدانيَّته قال: فبأيِّ نِعم ربِّك التي تدُلُّ على وحدانيَّته تتشكَّك؟ وقال ابن عباس: فبأي آلاءِ ربِّك تكذِّب يا وليد، يعني [الوليد] بن المغيرة.
{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} قوله تعالى: {هذا نذيرٌ} فيه قولان. أحدهما: أنه القرآن، نذيرٌ بما أنذرتْ الكتبُ المتقدِّمة، قاله قتادة. والثاني: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذيرٌ بما أنذرتْ به الأنبياءُ، قاله ابن جريج. قوله تعالى: {أزِفت الآزفة} أي: دَنَت القيامة، {ليس لها مِنْ دُون الله كاشفة} فيه قولان. أحدهما: إذا غَشِيَت الخَلْقَ شدائدُها وأهوالُها لمْ يَكْشِفها أحد ولم يرُدَّها، قاله عطاء، وقتادة، والضحاك. والثاني: ليس لعِلْمها كاشف دونَ الله، أي: لا يَعلم عِلْمها إلاّ الله، قاله الفراء، قال: وتأنيث «كاشفة» كقوله: {هل ترى لهم من باقيةٍ} [الحاقة: 8] يريد: مِن بقاءٍ؛ والعافية والباقية والناهية كُلُّه في معنى المصدر. وقال غيره: تأنيث «كاشفة» على تقدير: نفس كاشفة. قوله تعالى: {أفَمِن هذا الحديث} قال مقاتل: يعني القرآن {تَعْجَبونَ} تكذيباً به، {وتَضْحَكون} استهزاءً {ولا تَبْكون} ممّا فيه من الوعيد؟! ويعني بهذا كفار مكة، {وأنتم سامِدون} فيه خمسة أقوال. أحدها: لاهون، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الفّراء والزجّاج. قال أبو عبيدة: يقال: دَعْ عنك سُمودَك، أي: لَهْوك. والثاني: مُعْرِضون، قاله مجاهد. والثالث: أنه الغِناء، وهي لغة يمانية، يقولون: اسْمُد لنا، أي: تَغَنَّ لنا، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عكرمة: هو الغِناء بالحِمْيَريَّة. والرابع: غافلون، قاله قتادة. والخامس: أشِرون بَطِرون، قاله الضحاك. قوله تعالى: {فاسْجُدوا لله} فيه قولان. أحدهما: أنه سُجود التلاوة، قاله ابن مسعود. والثاني: سُجود الفرض في الصلاة. قال مقاتل: يعني بقوله: «فاسْجُدوا»: الصلوات الخمس. وفي قوله: {واعْبُدوا} قولان. أحدهما: أنه التوحيد. والثاني: العبادة.
وهي مكيَّة بإجماعهم، وقال مقاتل: مكِّيَّة غير آية {سيُهْزمُ الجَمْعُ} [القمر: 45]، وحكي عنه أنه قال: إلاّ ثلاث آيات، أولها: {أم يقولون نحنُ جميعٌ مْنتَصِرٌ} [القمر: 44] إلى قوله {وأمَرُّ} [القمر: 46]، قال ابن عباس: " اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فعلتُ تؤمنون؟» قالوا: نعم، فسأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يُعطيَه ما قالوا، فانشقَّ القمر فرقتين، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينادي: «يا فلان يا فلان اشْهَدوا» " وذلك بمكة قبل الهجرة.
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)} وقد روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود قال: " انشقَّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقَّتين، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اشْهَدوا» " وقد روى حديث الانشقاق جماعةٌ، منهم عبد الله بن عمر، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعلى هذا جميع المفسرين، إلاّ أن قوماً شذُّوا فقالوا: سيَنْشَقُّ يوم القيامة. وقد روى عثمان بن عطاء عن أبيه نحو ذلك، وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع، ولأن قوله: {وانْشَقَّ} لفظ ماض، وحَمْلُ لفظ الماضي على المستقبل يفتقر إلى قرينة تنقله ودليل، وليس ذلك موجوداً. وفي قوله: «وإن يَروا آيةً يُعْرضوا» دليل على أنه قد كان ذلك. ومعنى {اقْتَربَت}: دنَتْ؛ و{الساعةُ} القيامة. وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، تقديره: انشقَّ القمر واقتربت الساعة. وقال مجاهد: انشقَّ القمر فصار فِرقتين، فثبتت فِرقة، وذهبت فِرقة وراء الجبل. وقال ابن زيد: لمّا انشقَّ القمر كان يُرى نصفُه على قُعيَقِعَانَ، والنصف الآخر على أبي قُبيس. قال ابن مسعود: لمّا انشقَّ القمر قالت قريش: سحركم ابن أَبي كبشة، فاسألوا السُّفَّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأيناه، فأنزل اللهُ عز وجل: «اقتربتِ السّاعةُ وانشَقَّ القمر». قوله تعالى: {وإنْ يروا آيةً} أي: آية تدُلُّهم على صدق الرسول، والمراد بها هاهنا: انشقاق القمر {يُعْرضوا} عن التصديق {ويقولوا سِحْرٌ مستمرٌّ} فيه ثلاثة أَقوال. أحدها: ذاهبٌ، من قولهم: مَرَّ الشيءُ واستمرَّ: إذا ذهب، قاله مجاهد، وقتادة، والكسائي، والفراء؛ فعلى هذا يكون المعنى: هذا سِحر، والسِّحر يذهب ولا يثبت. والثاني: شديدٌ قويٌّ، قاله أبو العالية، والضحاك، وابن قتيبة، قال: وهو مأخوذ من المِرَّة، والمِرَّة: الفَتْل. والثالث: دائمٌ، حكاه الزجّاج. قوله تعالى: {وكذَّبوا} يعني كذَّبوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قُدرة الله تعالى {واتَّبَعوا أَهواءَهم} ما زيَّن لهم الشيطانُ {وكُلُّ أمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أن كُلَّ أمْر مستقِرٌّ بأهله، فالخير يستقِرُّ بأهل الخير، والشر يستقِرُّ بأهل الشر، قاله قتادة. والثاني: لكل حديثٍ مُنتهىً وحقيقةٌ، قاله مقاتل. والثالث: أن قرار تكذيبهم مستقِرّ، وقرار تصديق المصدِّقين مستقِرّ حتى يعلموا حقيقته بالثواب والعقاب، قاله الفراء. قوله تعالى: {ولقد جاءهم} يعني أهل مكة {مِنَ الأنباء} أي: من أخبار الأُمم المكذِّبة في القرآن {ما فيه مُزْدَجَرٌ} قال ابن قتيبة: أي: مُتَّعَظٌ ومُنتهىً. قوله تعالى: {حِكْمَةٌ بالغةٌ} قال الزجّاج: هي مرفوعة لأنها بدل من «ما» فالمعنى: ولقد جاءهم حكمةٌ بالغةٌ [وإن شئت رفعتهما بإضمار: هو حكمة بالغة]. و«ما» في قوله {فما تُغْنِ النُّذُرُ} جائز أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ، فيكون المعنى: أيّ شيء تُغْني النُّذُر؟! وجائز أن يكون نفياً، على معنى، فليست تُغْني النُّذُر. قال المفسرون: والمعنى: جاءهم القرآن وهو حِكْمة تامَّة قد بلغت الغاية، فما تُغُني النُّذُر إذا لم يؤمِنوا؟!.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} {فَتَولَّ عنهم} قال الزجّاج: هذا وقف التمام، و{يومَ} منصوب بقوله: «يخرُجون من الأجداث» وقال مقاتل: فتولَّ عنهم [إلى] يوم {يَدْعُ الدّاعي} أثبت هذه الياء في الحالين يعقوب؛ وافقه أبو جعفر، وأبو عمرو في الوصل، وحذفها الأكثرون في الحالين. و«الداعي»: إِسرافيل ينفُخ النفخة الثانية {إلى شيءٍ نُكُرٍ} وقرأ ابن كثير: «نُكْرٍ» خفيفة؛ أي: إلى أمر فظيع. وقال مقاتل: «النُّكُر» بمعنى المُنْكَر، وهو القيامة، وإنما يُنْكِرونه إعظاماً له. والتَّولِّي المذكور في الآية منسوخ عند المفسرين بآية السيف. قوله تعالى: {خُشَّعاً أبصارُهم} قرأ أهل الحجاز، وابن عامر، وعاصم: «خُشَّعاً» بضم الخاء وتشديد الشين من غير ألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «خاشِعاً» بفتح الخاء وألف بعدها وتخفيف الشين. قال الزجاج: المعنى: يخرُجون خُشَّعاً، و«خاشعاً» منصوب على الحال، وقرأ ابن مسعود: «خاشعةً»؛ ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدَّمت على الجماعة التوحيد والتأنيث والجمع؛ تقول: مررت بشُبّانٍ حَسَنٍ أوجُههم، وحِسانٍ أوجُههم، وحَسَنةٍ أوجُههم، قال الشاعر: وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ *** مِنْ إِياد بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ قال المفسرون: والمعنى أن أبصارهم ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب. والأجداث: القبور، وإنما شبَّههم بالجراد المنتشِر، لأن الجراد لا جِهةَ له يَقْصِدها، [فهو أبداً مختلف بعضه في بعض]، فهم يخرُجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يَقْصِدها. والدّاعي: إِسرافيل. وقد أثبت ياء «الدّاعي» في الحالين ابن كثير، ويعقوب؛ تابعهما في الوصل نافع، وأبو عمرو؛ والباقون بحذفها في الحالين. وقد بيَّنّا معنى «مُهْطِعين» في سورة [إبراهيم: 43] والعَسِر: الصَّعب الشَّديد.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)} قوله تعالى: {كذَّبتْ قَبْلَهم} أي: قبل أهل مكة {قومُ نُوح فكذَّبوا عَبْدَنا} نوحاً {وقالوا مجنونٌ وازْدُجِرَ} قال أبو عبيدة: افتُعِل مِن زُجِر. قال المفسرون: زجروه عن مقالته {فدعا} عليهم نوح {ربَّه} ب {أنِّي مغلوبٌ فانْتَصر} أي: فانتَقِم لي ممَّن كذَّبني. قال الزَّجاج: وقرأ عيسى بن عمر النحوي: «إنِّي» بكسر الألف، وفسرها سيبويه فقال: هذا على إِرادة القول، فالمعنى: قال: إني مغلوب؛ ومن فتح، وهو الوجه، فالمعنى: دعا ربَّه ب {أنِّي مغلوب}. قوله تعالى: {ففَتَحْنا أبوابَ السماء} قرأ ابن عامر: «ففَتَّحْنا» بالتشديد. فأما المُنهمِر، فقال ابن قتيبة: هو الكثير السريع الانصباب، ومنه يُقال: هَمَر الرجلُ: إذا أكثر من الكلام وأسرع. وروى عليٌّ رضي الله عنه أن أبواب السماء فُتحت بالماء من المَجَرَّة، وهي شَرَجُ السماء. وعلى ما ذكرنا من القصة في [هود: 44] أن المطر جاءهم، يكون هو المراد بقوله: {ففَتَحْنا أبوابَ السماء} قال المفسرون: جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوماً، وفُجِّرت الأرض من تحتهم عيوناً أربعين يوماً. {فالتقى الماءُ} وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري: «المآءان» بهمزة وألف ونون مكسورة. وقرأ ابن مسعود: «المايانِ» بياءٍ وألف ونون مكسورة من غير همز. وقرأ الحسن، وأبو عمران: «الماوانِ» بواو وألف وكسر النون. قال الزجاج: يعني بالماء: ماء السماء وماء الأرض، ويجوز الماءان، لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء. قوله تعالى: {على أَمْرٍ قد قُدِرَ} فيه قولان. أحدهما: كان قَدْر ماء السماء كقَدْر ماء الأرض، قاله مقاتل. والثاني: قد قُدر في اللوح المحفوظ، قاله الزجاج. فيكون المعنى: على أمر قد قُضي عليهم، وهو الغرق. قوله تعالى: {وحَمَلْناه} يعني نوحاً {على ذات ألواحٍ ودُسُرٍ} قال الزجاج: أي: على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ. قال المفسرون: ألواحها: خشباتها العريضة التي منها جُمعت. وفي الدُّسُر أربعة أقوال. أحدها: أنها المسامير، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والقرظي، وابن زيد، وقال الزجاج: الدُّسُر: المسامير والشُّرُط التي تُشَدِّ بها الألواح، وكل شيء نحو السَّمْر أو إدخال شيء في شيءٍ بقوَّة وشِدة قَهر فهو دَسْر، يقال: دَسَرْتُ المسمار أدْسُرُه وأَدْسِرُه. والدُّسُر: واحدها دِسار، نحو حِمار، وحُمُر. والثاني: أنه صَدْر السفينة، سُمِّي بذلك لأنه يَدْسُر الماء، أي: يدفعه، رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة؛ ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر، أي: دفعه. والثالث: أن الدُّسُر: أضلاع السفينة، قاله مجاهد. والرابع: أن الدُّسُر: طرفاها وأصلها، والألواح: جانباها، قاله الضحاك. قوله تعالى: {تَجْري بأعيْننا} أي: بمَنْظَرٍ ومرأىً مِنّا {جزاءً} قال الفراء: فعَلْنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثواباً لمن كُفِر به. وفي المراد ب «مَنْ» ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الله عز وجل، وهو مذهب مجاهد، فيكون المعنى: عوقبوا لله ولكُفرهم به. والثاني: أنه نوحٌ كُفِر به وجُحِد أمْرُه، قاله الفراء. والثالث: أن «مَنْ» بمعنى «ما»؛ فالمعنى: جزاءً لِما كان كُفِر من نِعم الله عند الذين أغرقهم، حكاه ابن جرير. وقرأ قتادة: «لِمَنْ كان كَفَر» بفتح الكاف والفاء. قوله تعالى: {ولقد تَرَكْناها} في المشار إليها قولان. أحدهما: أَنها السفينة، قال قتادة: أبقاها الله على الجوديّ حتى أدركها أوائل هذه الأمة. والثاني: أنها الفَعْلة، فالمعنى: تركنا هذه الفَعْلة وأمر سفينة نوح آية، أي: علامة ليُعتبر بها، {فهل مِنْ مُدَّكِرٍ} وأصله مُدتكِر، فأبدلت التاء دالاً على ما بيَّنّا في قوله: {وادَّكَرَ بعدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] قال ابن قتيبة: أصله: مذْتَكِر، فأْدغمت التاء في الذال، ثم قُلبت دالاً مشدَّدة. قال المفسرون: والمعنى: هل من متذكِّر يعتبر بذلك؟ {فكيف كان عذابي ونُذُرِ} وفي هذه السورة «ونُذُر» ستة مواضع، أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب، تابعه في الوصل ورش، والباقون بحذفها في الحالين، وقوله: «فكيف كان عذابي» استفهام عن تلك الحالة، ومعناه التعظيم لذلك العذاب. قال ابن قتيبة: والنُّذُر هاهنا جمع نذير، وهو بمعنى الإنذار، ومثله النَّكير بمعنى الإنكار. قال المفسرون: وهذا تخويف لمشركي مكة. {ولقد يسَّرنا القرآنَ} أي: سهَّلْناه {للذِّكر} أي: للحِفظ والقراءة {فهل من مُدَّكِرٍ} أي: من ذاكرٍ يذكره ويقرؤه؛ والمعنى: هو الحث على قراءته وتعلُّمه قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يُقرأ كُلُّه ظاهراً إلاّ القرآن. وأمّا الرِّيح الصَّرصر، فقد ذكرناها في [حم السجدة: 160]. قوله تعالى: {في يومِ نَحْسٍ مُستمرٍّ} قرأ الحسن: «في يومٍ» بالتنوين، على أن اليوم منعوت بالنَّحْس. والمُستمِّر: الدائم الشؤم، استمر عليهم بنُحوسه. وقال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. وقيل: إنه كان يومَ أربعاء في آخر الشهر. {تَنْزِعُ النّاسَ} أي: تقلعهُم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدُقّ رقابَهم فتُبِين الرّأسَ عن الجسد، ف {كأنهم أعجاز نَخْلٍ} وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن السميفع: «أعْجُزُ نَخْلٍ» برفع الجيم من غير ألف بعد الجيم. وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وأبو عمران: «كأنَّهم عُجُز نخل» بضم العين والجيم. ومعنى الكلام: كأنهم أصول «نَخلٍ مُنْقَعِرٍ» أَي: مُنْقَلِع. وقال الفراء: المُنْقَعِر: المُنْصَرِع من النَّخْل. قال ابن قتيبة: يقال: قَعَرْتُه فانْقَعَر، أي قلعته فسقط. قال أبو عبيدة: والنَّخْل يُذَكَّر ويؤنَّث، فهذه الآية على لغة من ذكَّر، وقوله: {أعجازُ نَخْلٍ خاويةٍ} [الحاقة: 8] على لغة من أنَّث. وقال مقاتل: شبَّههم حين وقعوا من شِدَّة العذاب بالنَّخْل الساقطة التي لا رؤوس لها، وإنما شبَّههم بالنَّخْل لِطُولهم، وكان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)} قوله تعالى: {كذَّبَتْ ثمودُ بالنُّذُر} فيه قولان. أحدهما: أنه جمع نذير. وقد بيَّنّا أن من كذَّب نبيّاً واحداً فقد كذَّب الكُلَّ. والثاني: أن النُّذُر بمعنى الإنذار كما بيَّنّا في قوله: «فكيف كان عذابي ونُذُرِ»؛ فكأنهم كذَّبوا الإنذار الذي جاءهم به صالح، {قالوا أبَشَراً مِنّا} قال الزجاج: هو منصوب بفعل مُضْمَر والذي ظهر تفسيره، المعنى: أنتبع بَشَراً مِنّا {واحداً}، قال المفسرون: قالوا: هو آدميّ مِثْلَنا، وهو واحد فلا نكون له تَبَعاً {إنّا إذاً} إن فعلنا ذلك {لَفي ضلالٍ} أي: خطأٍ وذهاب عن الصواب {وسُعُرٍ} قال ابن عباس: أي: جنون. قال ابن قتيبة: هو من: تَسَعَّرتِ النّارُ: إذا التَهبتْ، يقال: ناقةٌ مَسْعُورةٌ، أي: كأنها مجنونة من النشاط. وقال غيره: لَفي شقاءٍ وعَناءٍ لأجل ما يلزمنا من طاعته. ثم أنْكَروا أن يكون الوحي يأتيه فقالوا: {أَأُلْقِي الذِّكْرُ؟} أي: أَنَزَل الوحيُ {عليه مِنْ بينِنا} أي: كيف خُصَّ من بيننا بالنُّبوَّة والوحي؟! {بل هو كذّابٌ أشِرٌ} وفيه قولان. أحدهما: أنه المَرِح المتكبِّر، قاله ابن قتيبة. والثاني: البَطِر، قاله الزجاج. قوله تعالى: {سيَعْلَمونَ غداً} قرأ ابن عامر وحمزة: «ستَعلمون» بالتاء «غداً» فيه قولان. أحدهما: يوم القيامة، قاله ابن السائب. والثاني: عند نزول العذاب بهم، قاله مقاتل. قوله تعالى: {إنا مُرْسِلوا النّاقةِ} وذلك أنهم سألوا صالحاً أن يُظْهِر لهم ناقةً من صخرة، فقال الله تعالى: «إنّا مُرْسِلوا النّاقةِ» أي: مُخرجوها كما أرادوا {فِتنةً لهم} أي: مِحنةً واختباراً {فارتَقِبْهم} أي: فانتظر ما هم صانعون {واصْطَبِر} على ما يُصيبُك من الأذى، {ونَبِّئْهم أنَّ الماءَ قسمةٌ بينهم} أي: بين ثمود وبين الناقة، يوم لها ويوم لهم، فذلك قوله: {كُلُّ شِرْبٍ مُحتضَرٌ} يحضُرُهُ صاحبُه ويستحقُّه. قوله تعالى: {فنادَوا صاحبَهم} واسمه قُدار بن سالف {فتعاطى} قال ابن قتيبة: تعاطى عَقْر الناقة {فعَقَر} أي: قتل؛ وقد بيَّنا هذا في [الأعراف: 77]. قوله تعالى: {إنا أرسلنا عليهم صَيْحةً واحدةً} وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم؛ وقد أشرنا إلى قصتهم في [هود: 61] {فكانوا كهَشِيم المُحتظِر} قال ابن عباس: هو الرجُل يجعل لغنمه حظيرة بالشَّجر والشوك دون السِّباع، فما سقط من ذلك وداسته الغنمُ، فهو الهَشيم. وقد بيَّنا معنى «الهشيم» في [الكهف: 45]. وقال الزجَّاج: الهَشيم: ما يَبِس من الورق وتكسَّر وتحطَّم، والمعنى: كانوا كالهَشِيم الذي يجمعه صاحبُ الحظيرة بعد أن بلغ الغاية في الجفاف، فهو يُجمع لِيوقد. وقرأ الحسن: «المُحتظَرِ» بفتح الظاء، وهو اسم الحظيرة؛ والمعنى: كهشيم المكان الذي يُحتظَر فيه الهشيم من الحطب. وقال سعيد بن جبير: هو التراب الي يتناثر من الحيطان. وقال قتادة: كالعظام النَّخِرة المحترقة. والمراد من جميع ذلك: أنهم بادوا وهلكوا حتى صاروا كالشيء المتحطِّم.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)} قوله تعالى: {إنا أرسَلْنا عليهم حاصِباً} قال المفسرون: هي الحجارة التي قُذِفوا بها {إلاّ آلَ لوطٍ} يعني لوط وابنتيه {نجَّيْناهم} من ذلك العذاب {بسَحَرٍ} قال الفراء: «سَحَرٍ» هاهنا يجري لأنه نكرة، كقوله: نجَّيناهم بِلَيْلٍ، فإذا ألقت العرب منه الباء لم يَجر، لأن لفظهم به بالألف واللام، يقولون: ما زال عندنا منذُ السَّحَرِ، لا يكادون يقولون غيره، فإذا حذفت منه الألف واللام لم يُصْرَف. وقال الزجاج: إِذا كان السَّحر نكرة يراد به سَحَرٌ من الأسحار، انصرف، فإذا أردتَ سَحَرَ يومِك، لم ينصرف. قوله تعالى: {كذلك نجزي من شكرَ} قال مقاتل: من وحدَّ الله تعالى لم يُعَذَّب مع المشركين. قوله تعالى: {ولقد راودوه عن ضَيفه} أي: طلبوا أن يسلِّم إليهم أضيافه، وهم الملائكة {فطَمَسْنا أعيُنهَم} وهو أن جبريل ضرب أعيُنَهم بجَناحه فأذهبها. وقد ذكرنا القصة في سورة [هود: 81]. وتم الكلام هاهنا، ثم قال: {فذوقوا} أي: فقُلنا لقوط لوط لما جاءهم العذاب: ذوقوا {عذابي ونُذُرِ} أي: ما أنذركم به لوط، {ولقد صبَّحهم بُكْرَةً} أي: أتاهم صباحاً {عذابٌ مستقِرٌ} أي: نازل بهم. قال مقاتل: استقرَّ بهم العذابُ بُكْرةً. قال الفرّاء: والعرب تُجري «غُدوة» و«بُكرة» ولا تُجريهما، وأكثر الكلام في «غُدوة» ترك الإجراء، وأكثر في «بكرة» أن تُجرى، فمن لم يُجرها جعلها معرفة، لأنها اسم يكون أبداً في وقتٍ واحد بمنزلة «أمسِ» و«غدٍ» وأكثر ما تُجري العربُ «غُدوةً» إذا قُرنت بعشيَّةٍ، يقولون: إني لآتيهم غُدوةً وعشيَّةً، [وبعضهم يقول: «غُدوة»، فلا يُجريها، و«عشيةً»] فيُجريها، ومنهم من لا يُجري «عشيَّة» لكثرة ما صحبت «غُدوةً». وقال الزجاج: الغُدوة والبُكرة إذا كانتا نكِرتين نُوِّنتا وصُرِفتا، فإذا أردتَ بهما بُكرة يومك وغداة يومك، لم تصرفهما، والبُكرة هاهنا نكِرة، فالصرف أجود، لأنه لم يثبُت رواية في أنه كان في يوم كذا في شهر كذا.
{وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)} قوله تعالى: {ولقد جاء آل فرعونَ} يعني القِبْطَ {النُّذُرُ} فيهم قولان. أحدهما: [أنه] جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى. والثاني: أن النُّذُر بمعنى الإنذار؛ وقد بيَّناه آنفاً، {فأخذناهم} بالعذاب {أخْذَ عَزيزٍ} أي: غالبٍ في انتقامه {مُقْتَدِرٍ} قادر على هلاكهم. ثم خوَّف أهل مكة فقال: {أكُفّاركم} يا معشر العرب {خيرٌ} أي: أشدُّ وأقوى {مِنْ أولئكم؟!} وهذا استفهام معناه الإنكار؛ والمعنى: ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود، وقد أهلَكْناهم {أمْ لكم براءةٌ} من العذاب أنه لا يصيبكم ما أصابهم {في الزُّبر} أي: في الكُتب المتقدِّمة، {أم يقولون نحن جميع منتصر} المعنى: أيقولون: نحن يدٌ واحدةٌ على مَنْ خالفنا فننتصر منهم؟ وإنما وحَّد المُنْتَصِر للفظ الجميع، فإنه على لفظ «واحد» وإن كان اسماً للجماعة {سيُهْزَمُ الجمع} وروى أبو حاتم بن يعقوب: «سنهزم» بالنون، «الجمعَ» بالنصب، «وتوّلون» بالتاء، ويعني بالجمع: جمع كفار مكة {ويوّلون الدُّبرَ} ولم يقل: الأدبار، وكلاهما جائز؛ قال الفراء: مِثلُه أن يقول: إن فلانا لكثير الدِّينار والدِّرهم. وهذا مما أخبر اللهُ به نبيَّه من عِلم الغَيب، فكانت الهزيمة يومَ بدر. قوله تعالى: {والسّاعةُ أدهى} قال مقاتل: هي أفظع {وأمَرُّ} من القتل. قال الزجاج: ومعنى الدّاهية: الأمر الشديد الذي لا يُهتدى لدوائه؛ ومعنى «أمَرُّ»: أشَدُّ مرارةً من القَتْل والأسْر.
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} قوله تعالى: {إنَّ المجرمينَ في ضلالٍ وسُعُرٍ} في سبب نزولها قولان. أحدهما: أن مشركي مكة جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخاصِمونَ في القدَرَ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {خَلَقْناه بقَدَرٍ} انفرد بإخراجه مسلم من حديث أبي هريرة وروى أبو أُمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذه الآية نزلت في القَدَريَّة ". والثاني: " أن أُسْقُف نَجران جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم فقال: يا محمد تزعُم أن المعاصي بقَدر، وليس كذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم خُصَماءُ الله» "، فنزلت: {إِن المجرمين} إلى قوله {بقَدرٍ}، قاله عطاء. قوله تعالى: {وسُعُرٍ} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: الجنون. والثاني: العَناء، وقد ذكرناهما في صدر السورة. والثالث: أنه نار تَسْتَعِرُ عليهم، قاله الضحاك. فأمّا {سَقَر} فقال الزجّاج: هي اسم من أسماء جهنَّم لا ينصرف لأنها معرفة، وهي مؤنَّثة. وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: سَقَر: اسم لنار الأخرة أعجميّ، ويقال: بل هو عربيّ، من قولهم: سَقَرَتْه الشمس: إذا أذابته، سمِّيتْ بذلك لأنها تُذيب الأجسام. وروى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جَمَع اللهُ الخلائق يوم القيامة أمر منادياً فنادى نداءً يسمعُه الأوَّلون والآخرون: أين خُصَماءُ اللهِ؟ فتقوم القَدريَّة، فيؤمر بهم إلى النار "، يقول الله تعالى: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَر إنّا كُلَّ شيء خلقناه بقَدرٍ}، وإنما قيل لهم: «خُصَماء الله» لأنهم يُخاصمون في أنه لا يجوز أن يُقَدِّر المعصية على العَبْد ثم يعذِّبه عليها. وروى هشام بن حسان عن الحسن قال: واللهِ لو أنِّ قدريّاً صام حتى يصير كالحَبْل، ثم صلَّى حتى يصير كالوتر، ثم أخذ ظلماً وزُوراً حتى ذُبح بين الرُّكْن والمقام لكَبَّه اللهُ على وجهه في سَقَر «إنّا كُلَّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ». وروى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ شيء بقدرٍ حتى العَجْزُ والكَيْسُ " وقال ابن عباس: كل شيء بقدرٍ حتى وضعُ يدك على خدِّك. وقال الزجّاج: معنى «بقَدَرٍ» أي: كل شيء خلقناه بقدرٍ مكتوبٍ في اللوح المحفوظ. قبل وقوعه، ونصب «كُلَّ شيءٍ» بفعل مضمر؛ المعنى: إنّا خلقنا كلَّ شيء خلقناه بقَدرٍ. قوله تعالى: {وما أمْرُنا إلاّ واحدةٌ} قال الفراء: أي: إلاّ مرَّة واحدة، وكذلك قال مقاتل: مرَّة واحدة لا مثنوّية لها. وروى عطاء عن ابن عباس قال يريد: إِن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وقال ابن السائب: المعنى: وما أمرنا بمجيء الساعة في السُّرعة إلاّ كلَمْح البصر. ومعنى اللَّمْح بالبصر: النَّظر بسرعة. {ولقد أهلكْنا أشياعَكم} أي: أشباهكم ونُظَراءكم في الكُفر من الأمم الماضية {فهل من مُدَّكر} أي مُتَّعظ {وكل شيء فعلوه} يعني الأمم. وفي {الزُّبُر} قولان. أحدهما: أنه كُتُب الحَفَظة. والثاني: اللَّوح المحفوظ. {وكُلُّ صغيرٍ وكبيرٍ} أي: من الأعمال المتقدِّمة {مُسْتَطَرٌ} أي: مكتوب، قال ابن قتيبة: هو «مُفْتَعَلٍ» من «سَطَرْتُ»: إذا كتبت، وهو مثل «مَسْطُور». قوله تعالى: {في جَنّاتٍ ونَهَرٍ} قال الزجّاج: المعنى: في جنّات وأنهار، والاسم الواحد يَدلُّ على الجميع، فيجتزأ به من الجميع. أنشد سيبويه والخليل: بِها جِيَفُ الْحَسْرَى، فأَمّا عِظامُها *** فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ يريد: وأمّا جلودها، ومثله: في حَلْقِكُم عَظْمٌ وقد شجينا *** ومثله: كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا *** وحكى ابن قتيبة عن الفراء أنه وُحِّد لأنه رأسُ آية، فقابل بالتوحيد رؤوس الآي، قال: ويقال: النَّهَر: الضِّياء والسَّعة، من قولك: أنْهَرْتُ الطعنة: إِذا وسَّعْتَها، قال قيس بن الخَطِيم يصف طعنة: مَلَكْتُ بها كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا *** يَرَى قائمٌ مِنْ دُونِها ما وراءَها أي: أوسعتُ فَتْقَها. قلت: وهذا قول الضحاك. وقرأ الأعمش «ونُهُرٍ». قوله تعالى: {في مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي: مَجلِس حسن؛ وقد نبَّهْنا على هذا المعنى في قوله: {أنَّ لهم قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] فأمّا المَلِيك، فقال الخطابي: المَلِيك: هو المالك، وبناء فَعِيل للمُبالغة في الوصف، ويكون المَلِيك بمعنى المَلِك، ومنه هذه الآية. والمُقْتَدِر مشروح في [الكهف: 45].
|