الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)} {الحاقة}: القيامة. قال الفراء: إنما قيل لها: حاقة، لأن فيها حواق الأمور. وقال الزجاج: إنما سميت الحاقة، لأنها تحق كل إنسان بعمله من خير وشر. قوله تعالى: {ما الحاقة؟} هذا استفهام، معناه التفخيم لشأنها، كما تقول: زيد، وما زيد؟ على التعظيم لشأنه. ثم زاد في التهويل بأمرها، فقال تعالى: {وما أدراك ما الحاقة} أي: لأنك لم تعاينها، ولم تدر ما فيها من الأهوال. ثم أخبر عن المكذِّبين بها، فقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعة} قال ابن عباس: القارعة: اسم من أسماء يوم القيامة. قال مقاتل: وإنما سميت بالقارعة، لأن الله تعالى يقرع أعداءه بالعذاب. وقال ابن قتيبة: القارعة: القيامة لأنها تقرع، يقال: أصابتهم قوارع الدهر. وقال الزجاج: لأنها تقرع بالأهوال. وقال غيرهم: لأنها تقرع القلوب بالفزع. فأما {الطاغية} ففيها ثلاثة أقوال. أحدها: أنها طغيانهم وكفرهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، قال الزجاج: ومعنى الطاغية عند أهل اللغة: طغيانهم و«فاعلة» قد يأتي بمعنى المصادر، نحو عاقبة، وعافية. والثاني: بالصيحة الطاغية، قاله قتادة. وذلك أنها جاوزت مقدار الصياح فأهلكتهم. والثالث: أن الطاغية: عاقر الناقة، قاله ابن زيد. والريح الصرصر قد فسرناها في [حم السجدة: 16] والعاتية: التي جاوزت المقدار. وجاء في التفسير أنها عَتَتْ على خُزَّانها يومئذ، فلم يكن لهم عليها سبيل. قوله تعالى: {سخَّرها عليهم} أرسلها وسلَّطها. والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار. وفي قوله تعالى: {حسوماً} ثلاثة أقوال. أحدها: تباعاً، قاله ابن عباس. قال الفراء: الحسوم: التِّباع، يقال في الشيء إذا تتابع، فلم ينقطع أوله عن آخره: حسوم. وإِنما أُخِذَ والله أعلم من حَسْمِ الدَّاءِ: إذا كُوي صاحبُه، لأنه يحمى ثم يكوى، ثم يتابع الكي عليه. والثاني: كاملة، قاله الضحاك. فيكون المعنى: أنها حسمت الليالي والأيام فاستوفتها على الكمال، لأنها ظهرت مع طلوع الشمس، وذهبت مع غروبها. قال مقاتل: هاجت الريح غُدْوَةً، وسكنت بالعَشِيِّ في اليوم الثامن، وقبضت أرواحهم في ذلك اليوم، ثم بعث الله طيراً أسود فالتقطهم حتى ألقاهم في البحر. والثالث: أنها حسمتهم، فلم تبق منهم أحداً، أي: أذهبتهم وأفنتهم، هذا قول ابن زيد. قوله تعالى: {فترى القوم فيها} أي: في تلك الليالي والأيام {صرعى} وهو جمع صريع، لأنهم صرعوا بموتهم {كأنهم أعجاز نخل} أي: أصول نخل {خاوية} أي: بالية. وقد بيَّنَّا هذا في سورة [القمر: 20]. قوله تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: من بقاءٍ، قاله الفراء. والثاني: من بقية، قاله أبو عبيدة. قال: وهو مصدر كالطاغية. والثالث: هل ترى لهم من أثر؟ قاله ابن قتيبة {وجاء فرعون ومَن قبله} قرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي، وأبان: بكسر القاف، وفتح الباء. والباقون: بفتح القاف، وإسكان الباء. فمن كسر القاف أراد: من يليه ويَحفّ به من جنوده وأتباعه. ومن فتحها أراد: من كان قبله من الأمم الكافرة. وفي «المؤتفكات» ثلاثة أقوال. أحدها: قرى قوم لوط. والمعنى: وأهل المؤتفكات، قاله الأكثرون. والثاني: أنهم الذين ائتفكوا بذنوبهم، أي: هلكوا بالذنوب التي معظمها الإفك. وهو الكذب، قاله الزجاج. والثالث: أنه قارون وقومه، حكاه الماوردي. قوله تعالى: {بالخاطئة} قال ابن قتيبة: أي: بالذنوب، وقال الزجاج: الخاطئة: الخطأ العظيم {فعصَوْا رسول ربهم} أي: كذَّبوا رسلهم {فأخذهم أخذةً رابيةً} أي: زائدة على الأحداث {إنا لما طغى الماء} أي: تجاوز حدَّه حتى علا على كل شيء في زمن نوح {حملناكم} يعني: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم {في الجارية} وهي: السفينة التي تجري في الماء {لنجعلها} أي: لنجعل تلك الفَعْلةَ التي فعلنا من إغراق قوم نوح، ونجاة من حملنا معه {تذكرةً} أي: عبرةً، وموعظةً {وتعيها أذن واعية} أي: أُذُنٌ تحفظُ ما سمعَتْ، وتعمل به. وقال الفراء: لتحفظها كل أُذُن، فتكون عظة لمن يأتي بعده.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدةٌ} وفيها قولان. أحدهما: أنها النفخة الأولى، قاله عطاء. والثاني: الأخيرة، قاله ابن السائب، ومقاتل. {وحُمِلَت الأرضُ والجبالُ} أي: حملت الأرض والجبال وما فيها {فَدُكَّتا دكةً واحدةً} أي: كسرتا، ودقَّتا دقَّةً واحدة، لا يثنى عليها حتى تستوي بما عليها من شيءٍ، فتصير كالأديم الممدود. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في (الأعراف) عند قوله تعالى: {جعله دكاً} [آية: 143]. قال الفراء: وإنما قال: فدكتا، ولم يَقُل فَدُكِكْنَ، لأنه جعل الجبال كالشيء الواحد، كقوله تعالى: {أن السموات والأرض كانتا رتقاً} [الأنبياء: 30]، وانشدوا: هُمَا سَيِّدَانَا يَزْعُمانِ وَإنَّما *** يَسُودَانِنَا أَنْ يَسَّرَتْ غَنَماهُما والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت، أو تهيأت للولادة. قوله تعالى: {فيومئذ وقعت الواقعة} أي: قامت القيامة {وانشقت السماء} لنزول من فيها من الملائكة {فهي يومئذ واهية} فيه قولان. أحدهما: أن وَهْيَها: ضَعْفُها وتمزُّقْها من الخوف، قاله مقاتل. والثاني: أنه تشققها، قاله الفراء {والملك} يعني: الملائكة، فهو اسم جنس {على أرجائها} أي: على جوانبها. قال الزجاج: ورجاء كل شيء: ناحيته، مقصور. والتثنية: رجوان، والجمع: أرجاء. وأكثر المفسرين على أن المشار إليها السماء. قال الضحاك: إذ انشقت السماء كانت الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الله تعالى، فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بها، ومن عليها. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: على أرجاء الدنيا. قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: فوق رؤوسهم، أي: العرش على رؤوس الحَمَلة، قاله مقاتل. والثاني: فوق الذين على أرجائها، أي: أن حملة العرش فوق الملائكة الذين هم على أرجائها. والثالث: أنهم فوق أهل القيامة، حكاهما الماوردي {يومئذ} أي: يوم القيامة {ثمانية} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: ثمانية أملاك. وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة أملاك آخرين، هذا قول الجمهور. والثاني: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، قاله ابن عباس، وابن جبير، وعكرمة. والثالث: ثمانية أجزاء من الكروبيين لا يعلم عددهم إِلا الله، قاله مقاتل. وقد روى أبو داود في «سننه» من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أُذِنَ لي أن أُحَدِّثَ عن مَلَك من ملائكة الله من حملة العرش، أن ما بين شحمة أُذُنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ". قوله تعالى: {يومئذ تُعْرَضُون} على الله لحسابكم {لا تخفى} عليه. قرأ حمزة، والكسائي: «لا يخفى» بالياء. وقرأ الباقون بالتاء. والمعنى: لا يخفى عليه {منكم خافية} أي: نفس خافية، أو فَعْلَة خافية. وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال، ومعاذير، وأما الثالثة، فعندها تتطاير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله، وكان عمر بن الخطاب يقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ لا تخفى منكم خافية. {فيقول: هاؤم} قال الزجاج: «هاؤم» أمر من الجماعة. بمنزلة هاكم. تقول للواحد: ها يا رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان. وللثلاثة: هاؤم يا رجال. قال المفسرون: إنما يقول هذا ثقة بسلامته وسروراً بنجاته. وذكر مقاتل أنها نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد. قوله تعالى: {إني ظننت} أي: علمت وأيقنت في الدنيا {أني ملاقٍ حسابِيَهْ} أي: أبعث، وأحاسب في الآخرة {فهو في عيشة} أي: حالة من العيش {راضية} قال الفراء: أي: فيها الرضى. وقال الزجاج: أي: ذات رضىً يرضاها من يعيش فيها. وقال أبو عبيدة: مجازها مجاز مرضية {في جنَّةٍ عاليةٍ} أي: عالية المنازل {قطوفها} أي: ثمارها {دانيةٌ} أي: قريبة ممن يتناولها، وهي جمع قطف. والقطف: ما يقطف من الثمار. قال البراء بن عازب: يتناول الثمرة وهو نائم. قوله تعالى: {كلوا} أي: يقال لهم: كلوا {واشربوا هنيئاً بما أسلفتم} أي: قَدَّمتم من الأعمال الصالحة {في الأيام الخالية} الماضية، وهي أيام الدنيا. {وأما من أوتي كتابه بشماله} قال مقاتل: نزلت في الأسود بن عبد الأسود، قتله حمزة ببدر، وهو أخو أبي سلمة. وقيل: نزلت في أبي جهل. قوله تعالى: {يا ليتني لم أوت كتابيه} وذلك لما يرى فيه من القبائج {ولم أدر ما حسابيه} لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب، إنما كلُّه عليه. وكان ابن مسعود. وقتادة، ويعقوب، يحذفون الهاء من «كتابيه»، و«حسابيه» في الوصل. قال الزجاج: والوجه أن يوقف على هذه الهاآت، ولا توصل، لأنها أدخلت للوقف. وقد حذفها قوم في الوصل، ولا أُحبُّ مخالفة المصحف، وكذلك قوله تعالى: {وما أدراك ماهيه} [القارعة: 10]. قوله تعالى: {يا ليتها} يعني: الموتة التي ماتها في الدنيا {كانت القاضية} أي القاطعة للحياة، فكأنه تمنَّى دوام الموت، وأنه لم يُبْعَثْ للحساب {هلك عني سلطانيه} فيه قولان. أحدهما: ضلَّت عني حجتي، قاله مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والسدي. والثاني: زال عني ملكي، قاله ابن زيد. قوله تعالى: {خذوه} أي: يقول الله تعالى: {خذوه فغلُّوه} أي: اجمعوا يده إلى عنقه {ثم الجحيم صَلُّوه} أي: أدخلوه النار. وقال الزجاج: اجعلوه يَصْلَى النَّارَ {ثم في سِلْسِلَةٍ} وهي: حَلَقٌ منتظمة {ذَرْعُها سبعون ذراعاً} قال ابن عباس: بذراع المَلَك. وقال نوفٌ الشامي: كل ذراع سبعون باعاً. الباع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة. وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال مقاتل: ذرعها سبعون ذراعاً بالذراع الأول. ويقال: إن جميع أهل النار في تلك السلسلة. قوله تعالى: {فاسلكوه} أي: أدخلوه. قال الفراء: وذكر أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه، فذلك سلكه فيها. والمعنى: ثم اسكلوا فيه السلسلة، ولكن العرب تقول: أدخلت رأسي في القلنسوة، وأدخلتها في رأسي. ويقال: الخاتم لا يدخل في يدي، وإنما اليد تدخل في الخاتم، وإنما استجازوا ذلك، لأن معناه معروف. قوله تعالى: {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم} أي: لا يصدِّق بوحدانيته وعظمته {ولا يَحُضُّ على طعام المسكين} أي: لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه {فليس له اليوم هاهنا حميم} أي: قريب ينفعه، أي: يشفع له {ولا طعام إلا من غسلين} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنه صديد أهل النار، قاله ابن عباس. قال مقاتل: إِذا سال القيح، والدم، بادروا أكله قبل أن تأكله النار. والثاني: شجر يأكله أهل النار، قاله الضحاك، والربيع: والثالث: أنه غُسَالَةُ أجوافهم، قاله يحيى بن سلام. قال ابن قتيبة: وهو «فِعْلِين» من «غسلت» كأنه غسالة. قوله تعالى: {إلا الخاطئون} يعني: الكافرين.
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} قوله تعالى: {فلا أقسم} «لا» ردٌّ لكلام المشركين، كأنه قيل: ليس الأمر كما يقول المشركون {أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} وقال قوم: «لا» زائدة مؤكدة. والمعنى: أقسم بما ترون، وما لا ترون، فأراد جميع الموجودات. وقيل: الأجسام والأرواح {إنه} يعني: القرآن {لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ} فيه قولان. أحدهما: محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الأكثرون. والثاني: جبريل، قاله ابن السائب، ومقاتل. قال ابن قتيبة: لم يرد أنه قول الرسول، وإِنما أراد أنه قول الرسول عن الله تعالى، وفي الرسول ما يدل على ذلك، فاكتفى به من أن يقول عن الله {وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون} وقرأ ابن كثير. «يؤمنون» و«يَذَكَّرون» بالياء فيهما. قال الزجاج: «ما» مؤكدة، وهي لغو في باب الإعراب. والمعنى: قليلاً تؤمنون. وقال غيره: أراد نفي إيمانهم أصلاً. وقد بيَّنَّا معنى «الكاهن» في [الطور: 29] قال الزجاج: وقوله تعالى: «تنزيل» مرفوع ب «هو» مضمرة يدل عليها قوله تعالى: «وما هو بقول شاعر» هو تنزيل.
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)} قوله تعالى: {ولو تَقَوَّلَ علينا} أي: لو تكلَّف محمد أن يقول علينا ما لم نقله {لأخذنا منه باليمين} أي: لأخذناه بالقوة والقدرة، قاله الفراء، والمبرد، والزجاج. قال ابن قتيبة: إنما أقام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في ميامنه. قوله تعالى: {ثم لقطعنا منه الوتين} وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع بطلت القوى: ومات صاحبه. قال أبو عبيدة: الوتين: نياط القلب، وأنشد الشَّمَّاخ: إِذَا بَلَّغْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي *** عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمِ الوَتينِ وقال الزجاج: الوتين: عرق أبيض غليظ كأنه قصبة. قوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} أي: ليس منكم أحد يحجزنا عنه، وإنما قال تعالى: {حاجزين} لأن أحداً يقع على الجمع، كقوله تعالى: {لا نُفَرِّق بين أحد من رسله} [البقرة: 285]، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، والزجاج. ومعنى الكلام: أنه لا يتكلَّف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلَّف ذلك لعاقبناه، ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه {وإنه} يعني: القرآن {لحسرة على الكافرين} في يوم القيامة. يندمون إذ لم يؤمنوا به {وإِنه لحق اليقين} إضافة إلى نفسه لاختلاف اللفظين، كقوله تعالى: {ولدار الآخرة} [يوسف: 109]. وقال الزجاج: المعنى: وإنه لليقين حق اليقين، وقد شرحنا هذا المعنى، وما بعده في [الواقعة: 95، 96].
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ} قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث حين قال: {اللهم إن كان هذا هو الحقَ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32] وهذا مذهب الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد. وقال الربيع بن أنس: هو أبو جهل. قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: «سال» بغير همز. والباقون بالهمز. فمن قرأ «سأل» بالهمز ففيه ثلاثة أقوال. أحدها: دَعَا دَاعٍ على نفسه بعذابٍ واقعٍ. والثاني: سأل سائل عن عذابٍ واقعٍ لمن هو؟ وعلى من يَنْزِل؟ ومتى يكون؟ وذلك على سبيل الاستهزاء، فتكون الباء بمعنى «عن» وأنشدوا: فَإنْ تَسْأَلُوني بالنِّساءِ فَإنَّنِي *** خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّساءِ طَبِيبُ والثالث: سأل سائل عذاباً واقعاً، والباء زائدة. ومن قرأ بلا همز ففيه قولان. أحدهما: أنه من السؤال أيضاً، وإنما لَيَّن الهمزة، يقال سأل، وسال، وأنشد الفراء: تَعَالَوْا فَسَالُوا يَعْلمِ النَّاسُ أَيُّنَا *** لِصَاحِبِهِ في أَوَّلِ الدَّهْرِ تَابِع والثاني: المعنى سال وادٍ في جهنم بالعذاب للكافرين، وهذا قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن، وكان ابن عباس في آخرين يقرؤون «سَالَ سَيْلٌ» بفتح السين، وسكون الياء من غير ألف ولا همز. وإذا قلنا إنه من السؤال فقوله تعالى: «للكافرين» جواب للسؤال، كأنه لما سأل: لمن هذا العذاب؟ قيل: للكافرين. والواقع: الكائن. والمعنى: أن العذاب للذي سأله هذا الكافر كائن لا محالة في الآخرة {للكافرين ليس له دافع من الله} قال الزجاج: المعنى: ذلك العذاب واقع من الله للكافرين. قوله تعالى: {ذي المعارج} فيه قولان. أحدهما: أنها السموات، قاله ابن عباس، وقال مجاهد: هي معارج الملائكة. قال ابن قتيية: وأصل المعارج الدَّرَج، وهي من عَرَجَ: إِذا صَعِدَ قال الفراء: لما كانت الملائكة تَعْرُج إليه، وصف نفسه بذلك. قال الخطابي: المعارج: الدَّرَج، واحدها: مَعْرَجٌ، وهو المَصْعَدُ، فهو الذي يُصْعَدُ إِليه بأعمال العباد، وبأرواح المؤمنين. فالمعارج: الطرائق التي يُصْعَدُ فيها. والثاني: أن المَعَارِجَ: الفَوَاضِلُ والنِّعم. قاله قتادة. قوله تعالى: {تَعْرُجُ الملائكة} قرأ الكسائي: «يَعْرُج» بالياء. {والروحُ} في «الروح» قولان. أحدهما: جبريل، قاله الأكثرون. والثاني: روُح الميِّت حين تُقْبَضُ، قاله قبيصة بن ذُؤَيْب. قوله تعالى: {إليه} أي: إِلى الله عز وجل {في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألفَ سنةٍ} فيه قولان. أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والقرظي، وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إِلى أن يفصل بين الخلق. وفي الحديث " إنه لَيُخفَّفُ على المؤمِن حتى يكون أَخَفَّ عليه من صلاة مكتوبة " وقيل: بل لو ولي حساب الخلق سوى الله عز وجل لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة، والحقُّ يفرغ منه في ساعة من نهار. وقال عطاء: يفرغ الله من حساب الخلق في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، فعلى هذا يكون المعنى: ليس دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقيل: المعنى: سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير. والثاني: أن مقدار صعود الملائكة من أسفل الأرض إلى العرش لو صعِده غيرهم قطعه في خمسين ألف سنة، وهذا معنى قول مجاهد. قوله تعالى: {فاصبر} أي: اصبر على تكذيبهم إياك {صبراً جميلاً} لا جزع فيه، وهذا قبل أن يُؤْمَرَ بقتالهم، ثم نسخ بآية السيف {إنهم يَرَوْنَهُ} يعني العذاب {بعيداً} غير كائن {ونراه قريباً} كائناً، لأن كل ما هو آتٍ قريبٌ. ثم أخبر متى يكون فقال تعالى {يوم تكون السماء كالمهل} وقد شرحناه في [الكهف 29] {وتكون الجبال كالعهن} أي: كالصوف. فَشَبَّهها في ضَعْفها ولِينِها بالصوف. وقيل: شبَّهها به في خِفَّتِها وسَيْرِها، لأنه قد نقل أنها تسير على صورها، وهي كالهباء: قال الزجاج: «العهن» الصوف. واحدته: عِهْنَةٌ، ويقال: عُهْنَةٌ، وعُهْنٌ، مثل: صُوفَةٍ، وصُوفٍ. وقال ابن قتيبة: «العِهْنُ» الصوفُ المصبوغ. وقوله تعالى: {ولا يَسْأَلُ حميمٌ حميماً} قرأ الأكثرون: «سأل» بفتح الياء. والمعنى: لا يسأل قريب عن قرابته، لاشتغاله بنفسه. وقال مقاتل: لا يسأل الرجل قرابته، ولا يكلِّمه من شدة الأهوال. وقرأ معاوية، وأبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر: بضم الياء. والمعنى: لا يقال للحميم: أين حَمِيمُكَ؟. قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهم} أي: يُعَرَّفُ الحميم حميمَه حتى يَعْرِفَه، وهو مع ذلك لا يسأل عن شأنه. ولا يكلِّمه اشتغالاً بنفسه. يقال: بَصَّرْتُ زيداً كذا: إذا عَرَّفْتَهُ إيَّاه. قال ابن قتيبة: معنى الآية لا يَسْأَلُ ذو قرابة عن قرابته، ولكنهم يُبَصَّرُونَهم، أي: يُعَرَّفُونَهم. وقرأ قتادة، وأبو المتوكل، وأبو عمران: «يُبْصِرُونَهم» بإسكان الباء، وتخفيف الصاد، وكسرها. قوله تعالى: {يَوَدُّ المجرم} يعني: يتمنَّى المشرك لو قُبِلَ منه الفداءُ {يومئذٍ ببنيه، وصاحبته} وهي الزوجة {وفصيلته} قال ابن قتيبة: أي: عشيرته. وقال الزجاج: هي أدنى قبيلته منه، ومعنى {تُؤويه} تضمه، فيودُّ أن يفتديَ بهذه المذكورات {ثم ينجيه} ذلك الفداء {كَلاَّ} لا ينجيه ذلك {إنها لَظَى} قال الفراء: هو اسم من أسماء جهنم، فلذلك لم يُجْرَ، وقال غيره: معناها في اللغة: اللهب الخالص، وقال ابن الأنباري: سميت لظى لشدة تَوَقُّدِها وتلهُّبِها، يقال: هو يتلظَّى، أي: يتلهَّب ويتوقَّد. وكذلك النار تتلظَّى يراد بها هذا المعنى. وأنشدوا: جَحِيماً تَلَظَّى لا تَفْتَّرُ سَاعَةً *** ولا الحَرُّ مِنْها غَابِرَ الدَّهْرِ يَبْرُدُ {نَزَّاعةً لِلشَّوى} قرأ الجمهور «نَزَّاعةٌ للشوى» بالرفع على معنى: هي نزَّاعة. وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم «نَزَّاعةً» بالنصب. قال الزجاج: وهذا على أنها حال مؤكدة، كما قال تعالى: {هو الحق مصدقاً} [فاطر: 31] ويجوز أن ينصب على معنى «إنها تتلظى نزاعة». وفي المراد ب «الشَّوى» أربعة أقوال. أحدها: جلدة الرأس، قاله مجاهد. والثاني: محاسن الوجه، قاله الحسن، وأبو العالية. والثالث: العصب، والعقب، قاله ابن جبير. والرابع: الأطراف اليدان، والرجلان، والرأس، قاله الفراء، والزجاج. قوله تعالى: {تَدْعُو من أدبر} عن الإيمان {وتولَّى} عن الحق. قال المفسرون: تقول: إِليّ يا مشرك، إِليّ يا منافق {وجمع فأوعى} قال الفراء: أي: جمع المال في وعاءٍ فلم يؤدِّ منه زكاةً، ولم يصل منه رحماً.
{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)} قوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً} قال مقاتل: عنى به أُميَّة بن خلف الجُمَحي. وفي الهَلوع سبعة أقوال. أحدها: أنه الموصوف بما يلي هذه الآية، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة، والزجاج. والثاني: أنه الحريص على ما لا يحلُّ له، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثالث: البخيل، قاله الحسن، والضحاك. والرابع: الشحيح، قاله ابن جبير. والخامس: الشَّرِه، قاله مجاهد. والسادس: الضَّجُور، قاله عكرمه، وقتادة، ومقاتل، والفراء. والسابع: الشديد الجزع، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: {إذا مسه الشر} أي: أصابه الفقر {جزوعاً} لا يصبر. ولا يحتسب {وإذا مسه الخير} أصابه المال {منوعاً} بمنعه من حق الله عز وجل {إلا المصلين} وهم أهل الإيمان بالله. وإنما استثنى الجمع من الإنسان، لأنه اسم جنس {الذين هم على صلاتهم دائمون} وفيهم ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم الذين يحافظون على المكتوبات، وهو معنى قول ابن مسعود. والثاني: أنهم لا يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم في الصلاة، قاله عقبة بن عامر. واختاره الزجاج قال: ويكون اشتقاقه من الدائم، وهو الساكن، كما جاء في الحديث أنه نهى عن البول في الماء الدائم. والثالث: أنهم الذين يكثرون فعل التطوع، قاله ابن جريج. {والذين في أموالهم حق معلوم} قد سبق شرح هذه الآية والتي بعدها في [الذاريات: 19] وبينا معنى «يوم الدين» في «الفاتحة». وما بعد هذا قد شرحناه في [المؤمنين 7، 8] إلى قوله تعالى «لأماناتهم» قرأ ابن كثير وحده: «لأمانتهم» {والذين هم بشهاداتهم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «بشهادتهم» على التوحيد. وقرأ حفص عن عاصم: «بشهاداتهم» جمعاً {قائمون} أي: يقومون فيها بالحق، ولا يكتمونها {فمالِ الذين كفروا قِبلَكَ مُهْطِعين} نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يستهزؤون بالقرآن، ويكذِّبون به. قال الزجاج: والمُهْطِع: المُقْبِلُ ببَصَره على الشيء لا يُزَايِلُه، وكانوا ينظرون إلى النبي نظر عداوة. وقد سبق الخلاف في قوله تعالى: {مهطعين} [إبراهيم 43، والقمر: 8]. قوله: {عن اليمين وعن الشمال عِزين}. قال الفراء: العِزُون: الحِلَق، الجماعات، واحدتها: عِزَةٌ، وكانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: إن دخل هؤلاء الجنة، كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنَّها قبلهم، فنزل قوله تعالى {أيطمع كل امرئ منهم أن يُدَخل جنة نعيم} وقرأ ابن مسعود، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش، والمفضل عن عاصم: «أن يَدْخُلَ» بفتح الياء، وضم الخاء. وقال أبو عبيدة: عِزِين: جمع عِزَة، مثل ثُبَة، وثُبِين، فهي جماعات في تفرقة. قوله تعالى: {كلا} أي: لا يكون ذلك {إنا خلقناهم مما يعلمون} فيه قولان. أحدهما: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فالمعنى: لا يستوجب الجنة أحد بما يَدَّعيه من الشرف على غيره، إذ الأصل واحد، وإِنما يستوجبها بالطاعة. والثاني: إنا خلقناهم من أقذار. فبماذا يستحقون الجنة ولم يؤمنوا؟ وقد روى بشر بن جَحَّاش عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية {إنا خلقناهم مما يعلمون} ثم بَزَق، قال: يقول الله عز وجل: أنَّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سَوَّيتُك، وعَدَّلتُك، مَشَيْتَ بين بُرْدَيْنِ، وللأرض منك وئيد، فجمعتَ، ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتَصدَّقُ، وأنَّى أوان الصدقة؟!. قوله تعالى: {فلا أقسم} قد تكلمنا عليه في [الحاقة: 38] والمراد بالمشارق، والمغارب: شرقُ كل يوم ومغربُه {إِنَّا لقادرون على أن نُبَدِّل خيراً منهم} أي: نَخْلُقَ أَمْثَلَ منهم، وأَطْوَعَ لله حين عَصَوْا {وما نحن بمسبوقين} مفسر في [الواقعة: 60] {فذرهم يخوضوا} في باطلهم {ويلعبوا} أي: يلهوا في دنياهم {حتى يُلاقوا} وقرأ ابن محيصن «يَلْقَوْا يومَهم الذي يوعدون» وهو يوم القيامة. وهذا لفظ أمر، معناه: الوعيد. وذكر المفسرون أنه منسوخ بآية السيف. وإذا قلنا: إنه وعيد بلقاء يوم القيامة، فلا وجه للنسخ {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} أي: يخرجون بسرعة كأنهم يَسْتَبِقُون. قوله تعالى: {كأنهم إلى نُصُبٍ} قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم بضم النون والصاد. وقال ابن جرير: وهو واحد الأنصاب، وهي آلهتهم التي كانوا يعبدونها، فعلى هذا يكون المعنى: كأنهم إلى آلهتهم التي كانوا يعبدونها يُسرعون. وقرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بفتح النون وسكون الصاد، وهي في معنى القراءة الأولى، إلا أنه مصدر. كقول القائل: نصبت الشيء أنصبه نصباً. قال قتادة: معناه: كأنهم إلى شيء منصوب يسرعون. وقال ابن جرير: تأويله، كأنهم إِلى صنم منصوب يُسْرِعُون. وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، والنخعي «نُصْب» برفع النون، وإسكان الصاد، وقرأ الحسن، وأبو عثمان النَّهدي، وعاصم الجحدري «إلى نَصَبٍ» بفتح النون والصاد جميعاً. قال ابن قتيبة: النصب: حجر يُنْصَبُ أو صنم، يقال: نَصْب، ونُصْب، ونُصُب، وقال الفراء: النَّصْب والنُّصْبُ واحد، وهو مصدر، والجمع: الأنصاب. وقال الزجاج: النَّصْب، والنُّصُب: العلم المنصوب. قال الفراء: والإيفاض: الإسراع. قوله تعالى: {ترهقهم ذِلَّةٌ} قرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعمرو ابن دينار «ذِلَّةُ ذلك اليومِ» بغير تنوين، وبخفض الميم. وباقي السورة قد تقدم بيانه [المعارج: 42].
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)} قوله تعالى: {أن أنذر قومك} أي: بأن أنذر قومك. و«العذاب الأليم»، الغَرَق. قوله تعالى: {أن اعبدوا الله} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وعلي بن نصر عن أبي عمرو «أنُ اعبدوا الله» بضم النون. وقرأ عاصم، وحمزة، وعبد الوارث عن أبي عمرو «أنِ اعبدوا الله» بكسر النون. قال أبو علي: من ضم كره الكسر. قوله تعالى: {وأطيعونِ} أثبت الياء في الحالين يعقوب. قوله تعالى: {من ذنوبكم} «مِن» هاهنا صلة. والمعنى: يغفر لكم ذنوبَكم، قاله السدي، ومقاتل. وقال الزجاج: إنما دخلت «من» هاهنا لتختص الذنوب من سائر الأشياء، ولم تدخل لتبعيض الذنوب، ومثله {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] وذهب بعض أهل المعاني إلى أنها للتبعيض. والمعنى: يغفر لكم من ذنوبكم إلى وقت الإيمان {ويؤخركم} أي: عن العذاب {إلى أجل مسمى} وهو منتهى آجالهم. والمعنى: فتموتوا عند منتهى آجالكم غير مِيتة المعذَّبين {إنَّ أجلَ الله} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنه أجل الموت، قاله مجاهد. فيكون المعنى: إن أجل الله الذي أَجَّلكم إِليه، لا يُؤَخَّرُ إذا جاءَ، فلا يمكنكم حينئذ الإيمان. والثاني: أنه أجل البعث، قاله الحسن. والثالث: أجل العذاب، قاله السدي، ومقاتل.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)} قوله تعالى: {فلم يزدهم دعائي إِلا فراراً} أي: تباعداً من الإيمان {وإني كلما دعوتهم} إلى الإيمان والطاعة {جعلوا أصابعهم في آذانهم} لئلا يسمعوا صوتي {واستغْشَوْا ثيابهم} أي: غطوا بها وجوههم لئلا يَرَوْني {وأصَرُّوا} على كفرهم {واستكبروا} عن الإيمان بك واتِّباعي {ثم إِني دعوتهم جهاراً} أي: معلناً لهم بالدعاء. قال ابن عباس: بأعلى صوتي {ثم إني أعلنت لهم} أي: كرَّرت الدعاء معلناً {وأسررت لهم إِسراراً} قال ابن عباس: يريد أكلِّم الرجل بعد الرجل في السِّرِّ، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك {فقلت استغفروا ربكم} قال المفسرون: منع الله عنهم القطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم نوح {استغفروا ربكم} من الشرك، أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد {يرسلِ السماء عليكم مدراراً} قد شرحناه في أول [الأنعام: 6] ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة. قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً؟} فيه أربعة أقوال. أحدها: لا تَرَوْن لله عظمة، قال الفراء، وابن قتيبة. والثاني: لا تخافون عظمة الله، قاله الفراء، وابن قتيبة. والثالث: لا تَرَوْن لله طاعة، قاله ابن زيد. والرابع: لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد، قاله الزجاج {وقد خلقكم أطواراً} أي: وقد جعل لكم في أنفسكم آيةً تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة، ثم من علقة شيئاً بعد شيء إلى آخر الخلق. قال ابن الأنباري: الطَّوْر: الحال، وجمعه: أطوار. وقال ابن فارس: الطَّوْر: التارة، طوراً بعد طور، أي: تارةً بعد تارة. وقيل أراد بالأطوار: اختلاف المناظر والأخلاق، من طويل، وقصير، وغير ذلك، ثم قَرَّرَهم، فقال تعالى: {ألم تَرَوْا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً} وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «طباقٍ» بتنوين القاف، وكسرها من غير ألف. وقد بيَّنَّا هذا في سورة [الملك: 3]. قوله تعالى: {وجعل القمر فيهنَّ نوراً} فيه قولان. أحدهما: أن وجهَ القمر قِبَل السموات، وظهرَه قِبَل الأرض، يضيء، لأهل السموات، كما يضيء لأهل الأرض، وكذلك الشمس، هذا قول عبد الله ابن عمرو. والثاني: أن القمر في السماء الدنيا، وإنما قال «فيهن» لأنهن كالشيء الواحد، ذكره الأخفش والزجاج، وغيرهما. وهذا كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيتَ بعضهم، وركبتُ السفن، {وجعل الشمس سراجاً} يستضيء بها العالم {والله أنبتكم من الأرض} يعني: أن مبتدأ خلقكم من الأرض، وهو آدم {نباتاً} قال الخليل: معناه: فنبتُّم نباتاً. وقال الزجاج: «نباتاً» محمول في المصدر على المعنى، لأن معنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتاً. قال ابن قتيبة: هذا مما جاء فيه المصدر على غير المصدر، لأنه جاء على نبت. ومثله: {وتبتَّل إليه تبتيلاً} [المزمل: 8] فجاء على «بَتَّل». قال الشاعر: وَخَيْرُ الأَمْرِ ما استقبلتَ منـ *** ـه وليس بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعاً فجاء على اتَّبَعْتُ. وقال الآخر: وإن شئتم تعاودنا عواداً *** فجاء على «عوادنا» وإنما تجيء المصادر مخالفة الأفعال، لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها، واحدة في المعنى. قوله تعالى: {سبلاً فجاجاً} قال الفراء: هي الطرق الواسعة. قوله تعالى: {واتَّبعوا مَنْ لم يزده مالُه وولدُه} قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم، «ووَلَده» بفتح اللام والواو. وقرأ الباقون «وُلْده» بضم الواو، وسكون اللام. قال الزجاج: وهما بمعنى واحد، مثل العَرَب، والعُرْب، والعَجَم، والعُجْم، وقرأ الحسن، وأبو العالية، وابن يعمر، والجحدري، «وَوِلْده» بكسر الواو، وإسكان اللام. قال المفسرون: المعنى: أن الأتباع، والفقراء اتَّبَعوا رَأْيَ الرؤساء والكبراء. قوله تعالى: {ومكروا مكراً كُبَّاراً} قرأ أبو رجاء، وأبو عمران: «كُبَارا» برفع الكاف، وتخفيف الباء. وقرأ ابن يعمر، وأبو الجوزاء، وابن محيصن: «كِبَارا» بكسر الكاف مع تخفيف الباء. والمعنى: «كبيراً» يقال: كبير، وكبار، وقد شرحنا هذا في أول {ص} ومعنى «المكر»: السعي في الفساد. وذلك أن الرؤساء منعوا أتباعهم من الإيمان بنوح {وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتَكم} أي: لا تَدَعُنَّ عبادتها {ولا تَذَرُنَّ وداً} قرأ أبو جعفر، ونافع بضم الواو. والباقون بفتحها. وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم. وجاء في التفسير أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح. ونشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صُوَرَهُمْ كان أنشط لكم، وأشوق للعبادة، ففعلوا. ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم، وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت. وسميت تلك الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسمّين بهذه الأسماء. وقيل: إنما هي أسماء لأولاد آدم، مات، منهم واحد، فجاء الشيطان فقال: هل لكم أن أصور لكم صورته، فتذكرونه بها؟ فصورها. ثم مات آخر، فصور لهم صورته، إلى أن صور صوراً خمسة. ثم طال الزمان. وتركوا عبادة الله، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ فقالوا: لمن نعبد؟ قال هذه آلهتكم، وآلهة آبائكم، ألا ترونها مصوَّرة في مصلاكم؟! فعبدوها. وقال الزجاج: هذه الأصنام كانت لقوم نوح، ثم صارت إِلى العرب، فكان «ود» لكلب، و«سواع» لهمدان، و«يغوث» لبني غطيف، وهم حي من مراد. وقيل: لما جاء الطوفان غطى على هذه الأصنام وطمَّها التراب، فلما ظهرت بعد الطوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين، قال الواقدي: كان «ود» على صورة رجل، «وسواع» على صورة امرأة، «ويغوث» على صورة أسد، و«يعوق» على صورة فرس، و«نسر» على صورة النسر من الطير. قوله تعالى: {وقد أضلوا كثيراً} فيه قولان. أحدهما: وقد أضلت الأصنام كثيراً من الناس، أي: ضلوا بسببها. والثاني: وقد أضلَّ الكبراء كثيراً من الناس {ولا تزد الظالمين} يعني: الكافرين {إلا ضلالاً} وهذا دعاء من نوح عليهم، لما أعلمه الله أنهم لا يؤمنون.
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} قوله تعالى: {مما خطيآتهم} «ما»: صلة. والمعنى: من خطيآتهم: أي: من أجلها، وسببها، وقرأ أبو عمرو «مما خطاياهم» وقرأ أبو الجوزاء، والجحدري «خطيئتهم» من غير ألف {أُغرقوا فأُدخلوا ناراً} قال ابن السائب: المعنى: سيدخلون في الآخرة ناراً، فجاء لفظ الماضي بمعنى الاستقبال، لأن الوعد حق، هذا قول الأكثرين. وقال الضحاك: فأُدخلوا ناراً في الدنيا، وذلك أنهم كانوا يغرقون من جانب، ويحترقون في الماء من جانب. قوله تعالى: {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً} أي: لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله. قوله تعالى: {دَيَّاراً} قال ابن قتيبة: أي: أحداً. يقال: ما بالمنازل دَيَّارٌ، أي: ما بها أحد، وهو من الدار، أي: ليس بها نازل داراً. وقال الزجاج: أصلها «دَيْوار» فَيْعَال، فقلبت الواو ياءً، وأدغمت إحداهما في الأخرى. وإِنما دعا عليهم نوح لأن الله تعالى أوحى إليه {لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود: 36]. قوله تعالى: {يُضِلُّوا عبادك} وذلك أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح، فيحذِّره تصديقه. قوله تعالى: {ولا يَلِدُوا إلا فاجراً كفاراً} قال المفسرون: إن الله تعالى أخبر نوحاً أنهم لا يلدون مؤمناً، فلذلك علم الفاجر الخارج عن الطاعة. قوله تعالى: {رب اغفر لي ولوالديَّ} قال الحسن: وذلك أنهما كانا مؤمنَين. وقرأ أبو بكر الصديق، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، والجحدري، والجوني «ولوالدِي» ساكنة الياء على التوحيد. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وابن يعمر، والزهري، والنخعي «ولولَدَيَّ» من غير ألف على التثنية {ولمن دخلَ بيتي} وقرا حفص عن عاصم «بيتيَ» بفتح الياء. وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: منزله، قاله ابن عباس. والثاني: مسجده، قاله الضحاك. والثالث: سفينته، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: {وللمؤمنين والمؤمنات} هذا عام في كل من آمن {ولا تزد الظالمين} يعني: الكافرين {إلا تَبَاراً} أي: هلاكاً. ومنه قوله تعالى: {تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} [الفرقان: 39].
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} قوله تعالى: {قل أُوحيَ إليَّ أنه استمع نَفَرٌ من الجن} قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في [الأحقاف: 29] وبَيَّنَّا هنالك سبب استماعهم. ومعنى «النفر» وعَدَدَهم، فأما قوله تعالى: {قرآناً عجبا} فمعناه: بليغاً يعجب منه لبلاغته {يهدي إلى الرُّشد} أي: يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان {ولن نشرك بربنا} أي: لن نعدل بربنا أحداً من خلقه. وقيل: عنوا إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله. قوله تعالى: {وأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا} اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة، وهي: «وأنه تعالى»، «وأنه كان يقول»، «وأنا ظننا»، «وأنه كان رجال»، «وأنهم ظنوا»، «وأنا لمسنا»، «وأنا كنا»، «وأنا لا ندري»، «وأنا منا»، «وأنا ظننا أن لن نعجز الله»، «وأنا لما سمعنا»، «وأنا منا»، ففتح الهمزة في هذه المواضع ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع «وأنه تعالى»، «وأنه كان يقول»، «وأنه كان رجال»، وكسر الباقيات. وقرأ الباقون بكسرهن. وقال الزجاج: والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه «أن» بالفتح، وما كان من قول الجن قيل «إن» بالكسر. معطوف على قوله تعالى: {إنا سمعنا قرآناً عجباً} وعلى هذا يكون المعنى: وقالوا: إنه تعالى جَدُّ ربنا، وقالوا: إنه كان يقول سفيهنا. فأما من فتح، فذكر بعض النحويين: يعني الفراء، أنه معطوف على الهاء في قوله تعالى: {فآمنا به} وبأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا. وكذلك ما بعد هذا. وهذا رديء في القياس، لا يعطف على الهاء المتمكّنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض. ولكن وجهه أن يكون محمولاً على معنى أمنَّا به، فيكون المعنى: وصدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ رَبِّنا. وللمفسرين في معنى «تعالى جَدُّ رَبِّنا» سبعة أقوال. أحدها: قُدْرَةُ رَبِّنا، قاله ابن عباس. والثاني: غِنى رَبِّنا، قاله الحسن. والثالث: جَلاَلُ رَبِّنا، قاله مجاهد، وعكرمة. والرابع: عَظَمَةُ رَبِّنا، قاله قتادة. والخامس: أَمْرُ رَبِّنا، قاله السدي. والسادس: ارتفاع ذِكره وعظمته، قاله مقاتل. والسابع: مُلْكُ رَبِّنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة. {وأنه كان يقول سفيهنا} فيه قولان. أحدهما: أنه إبليس، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: أنه كفارهم، قاله مقاتل. و«الشطط»: الجَوْر، والكذب، وهو: وصفه بالشريك، والولد. ثم قالت الجن {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً} وقرأ يعقوب: «أن لن تَقَوَّلَ» بفتح القاف، وتشديد الواو. والمعنى: ظنناهم صادقين في قولهم: لله صاحبة وولد، وما ظننَّاهم يكذبون حتى سمعنا القرآن، يقول الله عز وجل «وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن» وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بِسِّيدِ هذا الوادي من شَرِّ سُفَهَاءِ قومه، فيبيت في جِوارٍ منهم حتى يصبح. ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذُكِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى منادٍ لا نراه: يا سرحان أرسله. فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم «وأنه كان رجال من الإنس...» الآية. وفي قوله تعالى: {فزادوهم رهقاً} قولان. أحدهما: أن الإنس زادوا الجن رهقاً لتعوُّذهم بهم، قاله مقاتل. والمعنى: أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة: قد سدنا الجن والإنس. والثاني: أن الجن زادوا الإنس رَهَقاً، ذكره الزجاج. قال أبو عبيدة: زادوهم سَفَهَاً وطغياناً. وقال ابن قتيبة: زادوهم ضلالاً. وأصل الرهق: العيب. ومنه يقال: فلان يرهق في دينه. قوله تعالى: {وأنهم ظنوا} يقول الله عز وجل: ظن الجن {كما ظننتم} أيها الإنس المشركون أنه لا بعث. وقالت الجن: {وأنا لمسنا السماء} أي: أتيناها {فوجدناها ملئت حَرَساً شديداً} وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع {وشُهُباً} جمع شهاب، وهو النجم المضيء {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} أي: كنا نستمع، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم، رُمِينا بالشُّهُب. ومعنى: «رصداً» قد أرصد له المرمى به {وأنا لا ندري أَشَرٌّ أريدَ بمن في الأرض} بإرسال محمد إليهم، فيكذبونه فيهلكون {أم أراد بهم ربهم رشداً} وهو أن يؤمنوا فيهتدوا، قاله مقاتل. والثاني: أنه قول كفرة الجن، والمعنى: لا ندري أشرٌّ أريدَ بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب، أم صلاح؟ قاله الفراء. ثم أخبروا عن حالهم، فقالوا: {وأنا مِنَّا الصالحون} وهم المؤمنون المخلصون {ومِنَّا دون ذلك} فيه قولان. أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: أنهم أهل الشرِّ دون الشرك {كنَّا طرائق قدداً} قال الفراء: أي: فرقاً مختلفة أهواؤنا. وقال أبو عبيدة: واحد الطرائق: طريقة، وواحد القِددِ: قدة، أي: ضروباً وأجناساً ومِلَلاً. قال الحسن، والسدي: الجن مثلكم فمنهم قَدَرِيَّة، ومرجِئَةٌ، ورافضة. قوله تعالى: {وأنا ظننا} أي: أيقنَّا {أن لن نعجز الله في الأرض} أي: لن نَفُوتَه إِذا أراد بنا أمراً {ولن نعجزه هَرَباً} أي: أنه يدركنا حيث كنَّا {وأنا لمَّا سمعنا الهدى} وهو القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم {آمنَّا به} أي: صدَّقنا أنه من عند الله عز وجل {فمن يؤمنْ بربه فلا يخاف بخساً} أي: نقصاً من الثواب {ولا رَهَقاً} أي: ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه، {وأنا منَّا المسلمون} قال مقاتل: المخلصون لله {ومِنَّا القاسطون} وهم المَرَدَة. قال ابن قتيبة: القاسطون: الجائرون. يقال: قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل. قال المفسرون: هم الكافرون {فمن أسلم فأولئك تَحَرَّوا رشداً} أي: تَوَخَّوْه، وأَمَّوْه. ثم انقطع كلام الجن. قال مقاتل: ثم رجع إلى كفار مكة فقال تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة} يعني طريقة الهدى، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، واختاره الزجاج. قال لأن الطريقة هاهنا بالألف واللام معرفة، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى. وذهب قوم إلى أن المراد بها: طريقة الكفر، قاله محمد بن كعب، والربيع، والفراء، وابن قتيبة، وابن كيسان. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسَّعنا عليهم {لِنَفْتِنَهم} أي: لنختبرَهم {فيه} فننظر كيف شُكْرُهم. والماء الغَدَق: الكثير. وإنما ذكر الماء مثلاً، لأن الخير كله يكون بالمطر، فأقيم مقامه إِذ كان سببه وعلى الثاني يكون المعنى: لو استقاموا على الكفر فكانوا كفاراً كلهم، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدارجاً، ثم نعذبهم على ذلك. وقيل لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم، كقوم نوح {ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّه} يعني: القرآن {يسلكْه} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «نسلكه» بالنون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالياء. {عذاباً صعداً} قال ابن قتيبة: أي: عذاباً شاقاً، يقال: تصعَّدني الأمر: إذا شَقَّ علي. ومنه قول عمر: ما تَصَعَّدني شيء ما تصعَّدَتني خِطْبَةُ النِّكاح. ونرى أصل هذا كله من الصعود، لأنه شاق، فكني به عن المشَقَّات. وجاء في التفسير أنه جبل في النَّار يكلَّف صعوده، وسنذكره عند قوله تعالى: {سأرهقه صعوداً} [المدثر: 17] إن شاء الله تعالى.
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} قوله تعالى: {وأن المساجد لله} فيها أربعة أقوال. أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت الصلوات، قاله ابن عباس. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعَهُم أشركوا، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم. والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير، وابن الأنباري، وذكره الفراء. فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره. والثالث: أن المراد بالمساجد هاهنا: البقاع كلُّها، قاله الحسن. فيكون المعنى: أن الأرض كلها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. والرابع: أن المساجد: السجود، فإنه جمع مسجد. يقال: سجدت سجوداً، ومَسْجِداً، كما يقال: ضربت في الأرض ضرباً، ومَضْرِباً، ثم يجمع، فيقال: المسَاجِد، والمضارِب. قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مَسْجَداً، بفتح الجيم. والمعنى: أَخْلِصُوا له، ولا تسجدوا لغيره. ثم رجع إلى ذكر الجن فقال تعالى: {وأنه لما قام عبد الله} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {يدعوه} أي: يعبده. وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في [الأحقاف: 29] {كادوا يكونون عليه لِبَداً} قرأ الأكثرون: «لبداً» بكسر اللام، وفتح الباء. وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن «لُبَداً» بضم اللام، وفتح الباء مع تخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد. يقال: لِبَدة، ولُبَدة. قال الزجاج: والمعنى: كاد يركب بعضهم بعضاً. ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش. وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لَبَّدته. وقرأ قوم منهم الحسن، والجحدري: «لُبَّداً» بضم اللام مع تشديد الباء. قال الفراء: فعلى هذه القراءة يكون صفة للرجال، كقولك: رُكَّعاً وركوعاً، وسُجَّداً وسجوداً. قال الزجاج: هو جمع لابد، مثل راكع، وركَّع. وفي معنى الآية ثلاثة أقوال. أحدها: أنه إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم. والمعنى: أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضاً، حِرْصاً على سماع القرآن، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع، والسجود، فكأنهم قالوا: لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبداً. وهذا المعنى في رواية ابن جبير، عن ابن عباس. والثالث: أن المعنى: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدَّعوة تلبَّدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاء به، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد. قوله تعالى: {قل إنما أدعوا ربي} قرأ عاصم، وحمزة: «قل إنما أدعو ربي» بغير ألف. وقرأ الباقون «قال» على الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {قل لا أملك لكم ضراً} أي: لا أدفعه عنكم {ولا} أسوق إليكم {رَشَداً} أي: خيراً، أي: إن الله تعالى يملك ذلك، لا أنا {قل إني لن يجيرني من الله أحد} أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرك {ولن أجد من دونه ملتحداً} وقد بيَّنَّاه في [الكهف: 27] {إلا بلاغاً من الله} فيه وجهان، ذكرهما الفراء. أحدهما: أنه استثناء من قوله تعالى {لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} إلا أن أبلغكم. والثاني: لن يجيرني من الله أحد إِن لم أبلِّغ رسالته. وبالأول قال ابن السائب. وبالثاني: قال مقاتل. وقال بعضهم: المعنى: لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلّغ عن الله ما أُرسِلْتُ، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني {ومن يعص الله ورسوله} بترك الإيمان والتوحيد. قوله تعالى: {حتى إذا رأَوْا} يعني: الكفار {ما يوعدون} من العذاب في الدنيا، وهو القتل. وفي الآخرة {فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً} أي: جنداً ونصراً، أهم، أم المؤمنون؟ {قل إن أدري} أي: ما أدري {أقريب ما توعدون} من العذاب {أم يجعل له ربي أمداً} أي: غاية وبُعْداً. وذلك لأن علم الغيب لله وحده {فلا يُظهِر} أي: فلا يُطلِع على غيبه الذي يعلمه أحداً من الناس {إِلا من ارتضى من رسول} لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارَهم بالغيب. والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدل على الغيب فهو كافر. ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه} أي: من بين يدي الرسول {ومِن خلفه رَصَداً} أي: يجعل له حَفَظَةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن تَسْتَرِقَه الشياطين، فتلقيه إلى الكَهَنة، فيتكلَّمون به قبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس. وقال الزجاج: يسلك من بين يَدَيْ الملَك ومن خلفه رصداً. وقيل يسلك من بين يدي الوحي. فالرُّصَّدُ من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي. قوله تعالى: {ليعلم} فيه خمسة أقوال. أحدها: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلَّغ إليه، قاله ابن جبير. والثاني: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله {قد أبلغوا رسالاتِ رِّبهم} وأن الله قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة. والثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد. والرابع: ليعلم الله عز وجل ذلك موجوداً ظاهراً يجب به الثواب، فهو كقوله تعالى: {ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم} [آل عمران: 142] قاله ابن قتيبة. والخامس: ليعلم النبيُّ أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج. وقرأ رويس عن يعقوب {ليُعْلَم} بضم الياء على ما لم يسم فاعله. وقال ابن قتيبة: ويُقرأ {لتَعْلَم} بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل قد بلَّغت عن إلههم بما رَجَوْا من استراق السمع {وأحاط بما لديهم} أي: علم الله ما عند الرسل {وأحصى كل شيء عدداً} فلم يفته شيء حتى الذَّرّ والخردل.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)} قوله تعالى: {يا أيها المُزَّمِّل} وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران، والأعمش: «المتزمِّل» بإظهار التاء. وقرأ عكرمة، وابن يعمر: «المزمل» بحذف التاء وتخفيف الزاي قال اللغويون: «المُّزَّمِّل» الملتف في ثيابه، وأصله المتزِّمل فأدغمت التاء في الزاي. فثقِّلت. وكل من التفَّ بثوبه فقد تزمَّل. قال الزجاج: وإِنما أدغمت فيها لقربها منها. قال المفسرون: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتزمَّل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فَرَقاً منه حتى أنس به. وقال السدي: كان قد تزمَّل للنوم. وقال مقاتل: خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل: يا أيها المُزَّمِّل. وقيل: أريد به مُتَزَمِّل النبوة. قال عكرمة: في معنى هذه الآية: زُمِّلْتَ هذا الأمر، فَقُمْ به. وقيل: إِنما لم يخاطب بالنبي والرسول هاهنا، لأنه لم يكن قد بلَّغ، وإنما كان في بدء الوحي. قوله تعالى: {قم الليل} أي: للصلاة. وكان قيام الليل فرضاً عليه {إلا قليلا نصفَه} هذا بدل من الليل، كما تقول: ضربت زيداً رأسَه. فإنما ذكرت زيداً لتوكيد الكلام، لأنه أوكد من قولك: ضربت رأس زيد. والمعنى: قم من الليل النصف إلا قليلاً {أو انقص منه قليلاً} أي: من النصف {أو زِد عليه} أي: على النصف. قال المفسرون: انقص من النصف إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فجعل له سَعَة في مدة قيامه، إذ لم تكن محدودة، فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين، فشق ذلك عليه وعليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى، وكم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كلَّه مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله تعالى: {إِن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ***} الآية، هذا مذهب جماعة من المفسرين. وقالوا: ليس في القرآن سورة نَسَخَ آخِرُها أولَها سوى هذه السورة، وذهب قوم إلى أنه نُسِخَ قيامُ اللَّيْلِ في حقِّه بقوله تعالى {ومن الليل فتهجَّدْ به نافلةً لكَ} [الإسراء: 79] ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس. وقيل: نسخ عن الأمة، وبقي عليه فرضه أبداً. وقيل: إنما كان مفروضاً عليه دونهم، وفي مدة فرضه قولان. أحدهما: سَنَةٌ، قال ابن عباس: كان بين أول (المزَّمِّل) وآخرها سَنَةٌ. والثاني: ستة عشر شهراً، حكاه الماوردي. قوله تعالى: {وَرَتِّل القرآن} قد ذكرنا الترتيل في [الفرقان: 32]. قوله تعالى: {إِنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} وهو القرآن. وفي معنى ثِقَله ستة أقوال. أحدها: أنه كان يثقُل عليه إذا أُوحي إليه. وهذا قول عائشة قالت ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، يعني يتخلص عنه، وإِن جبينه ليتفصّد عرقاً. والثاني: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: أنه يثقل في الميزان يوم القيامة، قاله ابن زيد. والرابع: أنه المهيب، كما يقال للرجل العاقل: هو رزين راجح، قاله عبد العزيز بن يحيى. والخامس: أنه ليس بالخفيف ولا السفساف، لأنه كلام الرب عز وجل، قاله الفراء. والسادس: أنه قول له وزن في صحته وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رصين، وهذا قول وزن: إذا استجدته. ذكره الزجاج. قوله تعالى: {إِن ناشئة الليل} قال ابن مسعود، وابن عباس، هي قيام الليل بلسان الحبشة. وهل هي في وقت مخصوص من الليل، أم في جميعه؟ فيه قولان. أحدهما: أنها في جميع الليل. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: الليل كلُّه ناشئة. وإلى هذا ذهب اللغويون. قال ابن قتيبة: ناشئة الليل: ساعاته الناشئة، من نشأتْ: إذا ابتدأتْ. وقال الزجاج: ناشئة الليل: ساعات الليل، كلّ ما نشأ منه، أي: كلّ ما حدث. وقال أبو علي الفارسي: كأن المعنى: إن صلاة ناشئة، أو عمل ناشئة الليل. والثاني: أنها في وقت مخصوص من الليل، ثم فيه خمسة أقوال. أحدها: أنها ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك. والثاني: أنها القيام بعد النوم، وهذا قول عائشة، وابن الأعرابي. وقد نص عليه أحمد في رواية المرودي. والثالث: أنها ما بعد العشاء، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو مجلز. والرابع: أنها بَدْءُ الليل، قاله عطاء، وعكرمة. والخامس: أنها القيام من آخر الليل، قاله يمان، وابن كيسان. قوله تعالى: {هي أشد وَطْأً} قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، «وِطاءً» بكسر الواو مع المد، وهوَ مصدر واطأت فلاناً على كذا مُواطَأَةً، وَوِطاء، وأراد أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهُّم للقرآن والإحكام لتأويله. ومنه قوله تعالى: {ليواطئوا عِدَّة ما حَرَّم الله} [التوبة: 37] وقرأ الباقون «وَطْأً» بفتح الواو مع القصر والمعنى: إنه أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدت على القوم وَطْأَةُ السلطان: إذا ثقل عليهم ما يلزمهم. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم اشدد وطأتك على مضر» ذكر معنى القراءتين ابن قتيبة. وقرأ ابن محيصن «أشد وَطَاءً» بفتح الواو، والطاء، وبالمد. قوله تعالى: {وأقْومُ قيلا} أي: أخلص للقول، وأسمع له، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات فتخلص القراءة، ويفرغ القلب لفهم التلاوة، فلا يكون دون سمعه وتفهّمه حائل. قوله تعالى: {إن لك في النهار سبحاً طويلاً} أي: فراغاً لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، قاله ابن عباس، وعطاء، وقرأ علي، وابن مسعود، وأبو عمران، وابن أبي عبلة «سبخاً» بالخاء المعجمة قال الزجاج: ومعناها في اللغة صحيح يقال: قد سبخت القطن بمعنى نفشته، ومعنى نَفَّشته: وسَّعته فيكون المعنى: إن لك في النهار توسُّعاً طويلاً. قوله تعالى: {واذكر اسم ربك} أي: بالنهار أيضاً {وتَبَتَّل إِليه تبتيلا} قال مجاهد: أخلص له إخلاصاً. وقال ابن قتيبة: انقطع إليه، من قولك: بَتَّلُت الشيء: إذا قطعتَه. وقال الزجاج: انقطع إِليه في العبادة. ومنه قيل لمريم: البتول، لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة. وكذلك صدقة بتلة: منقطعة من مال المصِّدِّق، والأصل في مصدر تبتَّل تبتلاً. وإنما قوله تعالى: «تبتيلاً» محمول على معنى تبتّل {رب المشرق} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم «ربُّ» بالرفع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، بالكسر. وما بعد هذا قد سبق [الشعراء: 28] إلى قوله تعالى {واصبر على ما يقولون} من التكذيب لك والأذى {واهجرهم هجراً جميلاً} لا جزع فيه. وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف {وذَرْني والمكذِّبين} أي: لا تهتمَّ بهم، فأنا أكفيكهم {أُولي النَّعْمة} يعني: التَّنَعُّم. وفيمن عُني بهذا ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم المطعِمُون بِبَدْرٍ، قاله مقاتل بن حيان. والثاني: أنهم بنو المغيرة بن عبد الله، قاله مقاتل بن سليمان. والثالث: أنهم المستهزئون، وهم صناديد قريش، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: {ومَهِّلْهم قليلاً} قالت عائشة: فلم يكن إلا اليسير حتى كانت وقعة بدر، وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح. قوله تعالى: {إن لدينا أنكالاً} وهي القيود، واحدها: نكل. وقد شرحنا معنى «الجحيم» في [البقرة: 119] {وطعاماً ذا غُصَّةٍ} وهو الذي لا يسوغ في الحلق، وفيه للمفسرين أربعة أقوال. أحدها: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: الزَّقُّوم، قاله مقاتل. والثالث: الضَّريع، قاله الزجاج. والرابع: الزَّقُّوم والغِسْلين والضَّريع، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: {يوم ترجُف الأرض} قال الزجاج: هو منصوب بقوله تعالى: «إن لدينا أنكالاً» والمعنى: ينكِّل الكافرين، ويعذِّبهم، {يوم ترجُف الأرض} أي: تُزَلزَل وتُحَرَّك أغلظ حركة. قوله تعالى: {وكانت الجبال} قال مقاتل: المعنى: وصارت بعد الشدة، والقوة «كثيباً» قال الفراء: «الكثيب»: الرمل. و«المهيل»: الذي تحرَّك أسفله، فينهال عليكم من أعلاه. والعرب تقول: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول. وقال الزجاج: الكثيب جمعه: كثبان، وهي القطع العظام من الرمل. والمهيل: السائل. قوله تعالى: {إنا أرسلنا إليكم} يعني: أهل مكة {رسولاً} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم {شاهداً عليكم} بالتبليغ وإِيمان من آمن، وكفر من كفر {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً} وهو موسى عليه السلام، والوبيل: الشديد. قال ابن قتيبة: هو من قولك: استوبلت المكان: إذا استوخمتَه. ويقال: كَلًأ مُسْتَوْبَل أُي: لاَ يُسْتَمْرَأُ. قال الزجاج: الوبيل: الثقيل الغليظ جداً. ومنه قيل للمطر العظيم. وابل قال مقاتل: والمراد بهذا الأخذ الوبيل: الغرق. وهذا تخويف لكفار مكة أن ينزل بهم العذاب لتكذيبهم، كما نزل بفرعون. قوله تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم يوماً} أي: عذاب يوم. قال الزجاج: المعنى: بأي شيء تتحصَّنون من عذاب يوم مِنْ هوله يَشيب الصغير من غير كِبَر. وقرأ أُبي بن كعب، وأبو عمران «نجعل الولدان» بالنون. قوله تعالى: {السماء مُنْفَطِرٌ به} قال الفراء: السماء تُذَكَّر وتؤنَّث. وهي هاهنا في وجه التذكير. قال الشاعر: فَلَوْ رَفَع السَّماءُ إليه قوماً *** لَحِقْنَا بِالسَّماءِ مَعَ السَّحابِ قال الزجاج: وتذكير السماء على ضربين. أحدهما: على أن معنى السماء معنى السقف. والثاني: على قولهم: امرأة مُرْضِع على جهة النسب. فالمعنى: السماء ذات انفطار، كما أن المرضع ذات الرضاع. وقال ابن قتيبة: ومعنى الآية: السماء مُنْشَقّ به، أي: فيه، يعني في ذلك اليوم. قوله تعالى: {كان وعده مفعولاً} وذلك أنه وعد بالبعث فهو كائن لا محالة.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} {إن هذه} يعني: آيات القرآن {تذكرة} أي: تذكير وموعظة {فمن شاء اتخذ إِلى ربه سبيلا} بالإيمان والطاعة. قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى} أي: أقل {من ثُلُثَيِ الليل ونصفَه وثُلُثَه} وقرأ ابن كثير، وأهل الكوفة. بفتح الفاء والثاء. والباقون: بكسرهما. قوله تعالى: {وطائفة من الذين معك} يعني: المؤمنين {والله يُقَدِّر الليل والنهارَ} يعلم مقاديرهما، فيعلم القدر الذي تقومون به من الليل {علم أن لن تحصوه} وفيه قولان. أحدهما: لن تطيقوا قيام ثُلُثَيِ الليل، ولا ثلث الليل، ولا نصف الليل، قاله مقاتل. والثاني: لن تحفظوا مواقيت الليل، قاله الفراء. {فتاب عليكم} أي: عاد عليكم بالمغفرة والتخفيف {فاقرؤوا ما تيسر} عليكم {من القرآن} يعني: في الصلاة، من غير أن يوقت وقتاً. وقال الحسن: هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء. ثم ذكر أعذارهم فقال تعالى: {علم أن سيكونُ منكم مرضى} فلا يطيقون قيام الليل، {وآخرون يضربون في الأرض} وهم المسافرون للتجارة {يبتغون من فضل الله} أي: من رزقه، فلا يطيقون قيام الليل، {وآخرون يقاتلون في سبيل الله} وهم المجاهدون، فلا يطيقون قيام الليل، {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} وذكروا أن هذا نسخ عن المسلمين بالصلوات الخمس، فذلك قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أي: الصلوات الخمس في أوقاتها {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} وقد سبق بيانه [الحديد: 18]. قال ابن عباس: يريد سوى الزكاة في صلة الرحم، وقِرى الضيف {وما تقدِّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} أي: تجدوا ثوابه في الآخرة {هو خيراً} قال أبو عبيدة: المعنى: تجدوه خيراً. قال الزجاج: ودخلت «هو» فصلاً. وقال المفسرون: ومعنى «خيراً» أي: أفضل مما أُعطيتم {وأعظم أجراً} من الذي تؤخِّرونه إلى وقت الوصية عند الموت.
|