الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: ثلاثون طريقة لخدمة الدين **
إن الشريعة الإسلامية الغراء قد حوت من مقتضيات الحفظ والصيانة ما يضمن لها الاستمرار والخلود ودوام البهاء والنضارة . ومن هذه المقتضيات : النهي عن الابتداع في الدين والأمر بلزوم حدود ما شرع الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو نقصان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حدثتكم حديثا فلا تزيدن علي ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( اتبعوا ولا تبتدعوا ، فقد كفيتم ) . وبإزاء هذه النصوص يزداد حرص أهل السنة على لزومها وعدم تعديها خشية الوقوع في مذمة الابتداع ، وقد تداعى الدعاة في هذا العصر على ضرورة نقاء الصحوة من شائبة بدعة أو تهمة إحداث في الدين ، لأن من شأن ذلك أن يعود باللائمة على مصداقية الصحوة الإسلامية نفسها ، وبالتالي على أهليتها أن تكون حجة لله على الخلق . والذي لاشك فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينص على بدعية كل البدع بأن عينها وبينها ، لاستحالة ذلك مع تمادي الزمان وتولد المحدثات الكثيرة ، فكان تنبيهه صلى الله عليه وسلم على كليات القضية وأصول الابتداع ليقيس السني بعد ذلك ويتحرى الاتباع كيفما تيسر . والذي لاشك في أيضا أن جانب الابتداع مبني على الاحتياط لا التساهل ، فإذا تفاوت القول في قضية بين تبديعها وعدم تبديعها فالأحوط في جنب المتحري للسنة أن يزهد فيها وأن يلتمس البراءة من الابتداع ما استطاع إلى ذلك سبيلا . لكن سمات الفعل المبدع وملامحه قد يختلط بملامح وسمات الفعل المشروع ، ويتجاور ذلك مع عدم وجود دليل خاص على التبديع ، بل قد يتضافر مع ذلك اجتماع جمهرة من أهل العلم على اعتبار مشروعية ذلك الفعل في ظل تبديع الآخرين ، فوجب عندئذ أن يأخذ الدعاة حِذرَهم ويسلكوا سبيل الأناة في تناول هذا الفعل ، وألا تأخذهم العزة بالإثم في سماع الهدى وتفيؤ ظل الشريعة . وفي المقابل لا بد أن يتهادن الدعاة فيما اختلفوا فيه من الحق ، وأن يتركوا التهاجر عند كل نازلة تنـزل بالمسلمين ، وألا يفزعوا إلى التبديع سلاحا يشهرونه عندما يعييهم الدليل ، فإن شأن العلماء التريث فيما لم يستبن لهم حتى يستجلوا غامضه فيكون الإنكار على بصيرة من الهدى والبينـات . وإذ نحض على التثبت – علما وعملا – فيما نأتي وما نذر من أمور الدعوة قبل اللجوء لسلاح التبديع ، فإننا نحذر – وبصرامة – أن يتخذ الدعاة من منهج التغافر في المختلف فيه تُكَأَةً للتوسع في استعمال الوسائل بزعم أنه لم يرد دليل بحظرها . وقد ابتليت الدعوة بزمرة من الناس تمالأت على هذا المهيع حتى وصل بها التساهل إلى الوقوع في المحرم الصريح بزعم أنه البديل عن جاهليات المجتمع المعاصر ، ولمثلهم يقال : أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل وقد تعرضت اهتمامات دعاة الصحوة الإسلامية لاستقطاب حاد حول قضية الوسائل الدعوية ، وهل يجب أن تكون توقيفية ، أم أنه يجوز اختراعها وابتكارها دون خوف من مذمة الابتداع ؟ والحق الذي لا مرية فيه أن هذه المسألة من المسائل التي ينبغي ردها للكتاب والسنة ، واستقراء عمل السلف وسبيلهم مع اعتبار كلام الأئمة المعتبرين من أهل السنة والجماعة . وفي ثنايا البحث لا بد أن نفرق بين ما هو من تخريج المناط وبين ما هو من تحقيقه ، فالأول بحث في دلالة الدليل ، والثاني بحث في تحقق وقوع الدليل على الفرد الخارجي ( أي على المسألة الواقعة بالفعل ) . وكثيرا ما يكثر اللغط في مسألة لعدم التفريق بين هذه الأمرين ، فيكون الفريقان كمثل العميان الذين أمسك كل منهم بعضو من الفيل وأخذ يصف ما أمسك به متهما صاحبه بالجهل بما يصف . فمن المعلوم أن من أهم أمارات البدعة عدم ورد الدليل الشرعي على اعتبار أصلها أو وصفها فيظن المبتدع أنه بنيته الحسنة في اختراعها قد استزاد بابا للخير وانفرد بطريق إلى الله قد هجرها السالكون ، فهذه هي البدعة الأصلية ، التي لم يعتبرها الشرع بأي وجه من الوجوه . فإذا ما اعتبر الشرع أصلها دون وصفها ( كالذكر الجماعي دبر كل صلاة فرض ) فهذه البدعة الإضافية وهي التي شهد الدليل على جواز حقيقتها كمطلق الذكر ولكنه لم يشهد على اعتبار وصفها ككون هذا الذكر جماعيا ودبر كل صلاة فرض ، فجمهور أهل العلم على أن مذمة الابتداع تلحقها أيضا ، ويفهم من نقل الشاطبي رحمه الله لآثار السلف في هذا الباب عدم اختلافهم في ذم البدعة الإضافية أيضا ، ولولا الاحتياط في نقل الإجماع لاعتبرته إجماعا عن السلف . وعلم بالاستقراء أن الأوصاف التي بابتداعها تكون البدعة إضافية هي الأوصاف التي توجد بها العبادة وهي : (1) المقدار (2) الكيف (3) الزمان (4) المكان (5) السبب ( الوسيلة ) (6) الغاية – أي النية – (7) الجنس ( الماهية ) . والمعنى أن هذه الأوصاف متى لم يرد باعتبارها دليل شرعي تكون البدعة العبادة بذلك بدعة إضافية . وما يعنينا في هذا المقام هو الوسيلة ، إذ تقرر في علم أصول الفقه أن الوسائل لها أحكام المقاصد ، والمراد دخول الوسائل في إطار شرعية المقاصد ، وفرعوا على هذا الأصل : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وأن ما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام . والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن : هل هناك تعارض بين هذا الأصل ( الوسائل لها أحكام المقاصد ) وبين كون الإحداث في وسيلة العبادة يجعل العبادة داخلة في إطار البدعة ؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى تقرير أمرين : الأول : أن هناك فرق بين البدعة وبين المصلحة المرسلة والاستحسان عند من يقول بهما ، يقول الشاطبي رحمه الله : فإن كثيرا من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعا ونسبوها إلى الصحابة والتابعين ، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات ..ثم أخذ الشاطبي رحمه الله يبين أصل المصلحة المرسلة وأن الاعتداد بها يرجع إلى اعتبار المناسب الذي لم يشهد له أصل معين ثم ساق عشرة أمثلة جرت في عهد الصحابة خرجت على جهة المصلحة المرسلة ولم تعتبر من البدع المحدثة ككتابة المصحف وتضمين الصناع ونحو ذلك ، وبين أن ضابط المصلحة المرسلة أنها لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله وأن عامة النظر فيها ( المصلحة المرسلة ) إنما هو فيما عقل معناه وجرى على ذوق المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية ، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل كالوضوء والصلاة والصيام . الثاني : أن حاصل المصلحة المرسلة – كما قال الشاطبي – يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين ، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لم يتم الواجب إلا به .. فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد .. ثم قال : وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل وما لا يتم الواجب إلا به : إن نُص على اشتراطه فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب ، لأن نص الشارع فيه قد كفانا مئونة النظر فيه . وإن لم ينص الشارع على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي ، فلا يلزم أن يكون شرعيا ، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة ، فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب عاديا مطردا لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها ، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك ..ثم قال : إذا تقررت هذه الشروطعلم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة .. ثم أخذ الشاطبي يفرق بين الاستحسان وبين الابتداع فقال : فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن وهو إما العقل أو الشرع . أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما ( يعنى أنهما هما المعتبران دون غيرهما ) لأن الأدلة اقتضت ذلك ، فلا فائدة لتسميته استحسانا ، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال فلم يبق إلا العقل هو المستحسن : فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية ، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها ، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن .. ثم ساق كلاما طويلا مفيدا في تعريفات الاستحسان عند العلماء واختار أن الاستحسان المعتبر هو ما استند إلى أصول شرعية وثوابت دينية وأن الحكم بمجرد الهوى وميل الطبع هو عين الابتداع . مما سبق يمكننا تحرير المسألة كالآتي : (1) إن الوسيلة من جهات الابتداع التي إذا أُحدث فيها كانت البدعة إضافية ، وقاعدة : الوسائل لها أحكام المقاصد صحيحة مطردة . (2) إن قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد إنما هو في الوسائل الشرعية ( كالشرط الشرعي والسبب الشرعي ) أما الوسائل العقلية والعادية فلا تدخل في تلك القاعدة ، بل قد يكون لها حكما مستقلا يخالف حكم مقصدها . ويمكننا صوغ القاعدة كالآتي : الوسيلة إذا لم يتحقق المقصد إلا بها شرعا فالإحداث فيها ابتداع مذموم ، وإذا تحقق المقصد بها أو بغيرها ولم يدل دليل على اعتبارها أو عدم اعتبارها فالإحداث فيها ليس من الابتداع المذموم . وبهذا تلتقي القاعدتان ولا تتعارضان . وبذلك نعلم أن الوسائل الدعوية يجب أن تخضع لهذا التقدير العلمي ، وألا تكون خاضعة في منهج الدعاة إلى الهوى أو الطبع أو ما استقر في أعرافهم الدعوية ، فلا حاكم بينهم إلا شرع الله تبارك وتعالى . ولكن قد يختلف العلماء في تبديع مسألة ، فماذا يكون موقف الداعية من هذه المسألة ؟ والجواب أنه لا بد من التفريق بين ما هو بدعة في أصول الدين وفروعه ، فالابتداع في أصول الدين دائر بين الفسق والكفر والضلالة المحضة ، أما الابتداع في فروع الدين إن كان في أصول المسائل ( أي المقاصد ) كأصول العبادات مثل الصلاة والذكر ونحو ذلك فهي حرية بوصف الضلال الذي ألصقه الرسول صلى الله عليه وسلم بالبدعة . أما إذا كانت فيما دون ذلك فليس الخطب فيها كغيرها . وقد قرر الإمام الشاطبي رحمه الله أن أحكام البدع ليست على رتبة واحدة وأن منها البدع المحرمة ومنها البدع المكروهة وأن المحرم منها ينقسم إلى صغير وكبير ، وإذا تقرر ذلك كان تصرف الداعية مع تلك المسألة المختلف فيها بحسب مكانتها وجلالة أمرها . ثم إن البدعة تنشأ على أربعة أوجه – كما قال الشاطبي - : أحدها : وهو أظهر الأقسام أن يخترعها المبتدع . والثاني : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة فيفهمها الجاهل مشروعة . الثالث : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار وهو قادر عليه ، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة . الرابع : من باب الذرائع ، وهي أن يكون العمل في أصله معروفا إلا أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد . ثم يقول الشاطبي رحمه الله : إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد ، ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ بل هي في القرب والبعد على تفاوت . فالأول هو الحقيق باسم البدعة فإنها تؤخذ علة بالنص عليها ويليه القسم الثاني ثم الثالث فالرابع . قال : وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات والبدعة من خارج ، إلا أنها لازمة لها لزوما عاديا ، ولزوم الثاني أقوى من لزوم الأول . وقد ظهر لي في بعض المسائل أنها من البدع التي لا يجوز إقرارها ، مثل إمساك ورقة فيها أسماء أشخاص عند ذبح الأضحية وذكر هذه الأسماء عند الذبح ، فلما راجعت فيها الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله رد في فتوى مكتوبة لدي أن هذا ليس ببدعة وأنه يشهد له أصل مثل قوله صلى الله عليه وسلم عند ذبح أضحيته : ( اللهم هذا عن محمد وآل محمد ) . فعلمت حينها أن أمر التبديع ينبغي عدم التسرع فيه والهجوم على أحكامه . وقد استبان لنا مما سبق أن الداعية ينبغي أن يتصف بما يلي : أولا : الإلمام بالقواعد الأصولية التي تحكم مسائل البدعة والتبديع . ثانيا : أن يأخذ في الاعتبار تفاوت البدعة في مراتبها . ثالثا : ألا يتسرع في تبديع مسألة إلا بعد البحث التام لجوانبها ومراجعة أهل العلم بها . رابعا : أن يتسم بالحكمة في التعامل مع المخالف ( المبتدع ) . وقد حرصت أن أضع هذه القواعد وأن أحررها مجافيا التحيز لأحد ، مفضلا عدم التفصيل وضرب الأمثلة حتى لا يتكئ على هذه التفاصيل متكئ فيحسب نفسه أولى بكلامي من غيره ، وكان هدفي ( الذي يجب أن يعلم ) أن ينضبط الدعاة بالقسطاس المستقيم وألا يشوهوا الدين بالتوسع في ابتكار الوسائل الدعوية المبتدعة ، وألا يجوروا على بعضهم إذا حصل الخلاف في بعض المسائل والله تبارك وتعالى هو المسئول أن يصلح أحوال المسلمين . تتواتر النصوص الشرعية الآمرة بإتقان العمل وإحسانه بقدر نفس النصوص الآمرة بالعمل نفسه ، يقول تبارك وتعالى : ومن شأن الأذكياء ذوي الهمم العالية الراقية أن يحرصوا على إتقان أعمالهم ، وأدائها على الوجه الذي يحسون معه ببذل كل الوسع وعدم القدرة على التدارك . وفوق كون ذلك مأمورا شرعيا ، فهو من كمال مروءة الإنسان أن يكون العمل عنوانا على جلالة الهمة وصفائها : على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم وقد استقر في وجدان كل مسلم ضرورة إتقان عباداته كالصلاة والصوم والحج ، ولا شك أن هذا مطرد في كل مناحي الشريعة ، بل إننا نجد في القرآن أمرا لو أعطيناه حقه من الفهم لاستطعنا أن ندرك حقيقة ما نتكلم عنه ، ألا وهو قوله تعالى : وإن إتقان العمل يتوازى بدرجة عالية مع حجم العوائق والتحديات التي تفسد العمل ، بل وإن الاهتمام بالعمل يتعاظم بقدر مكانة العمل نفسه ، فاستحضار الخشوع في الصلاة يتعاظم إذا علم العبد قدر الوساوس التي تحول بينه وبين الخشوع وقدر ما يبذله الشيطان اللعين في الحئول بينه وبين ثمرة الصلاة ، وليس الاهتمام بإتقان ذكاة البهائم كمثل الاهتمام بإتقان مجاهدة العدو المستعد بأعلى الاستعدادات للإفناء القيم والمثل الإسلامية . وإنه ليس من البذل للدين في شيء أن نرى أعداء الله تبارك وتعالى يستغلون كل المستجدات العصرية المتطورة ثم إذا نظرنا نظرة إلى الدعوة الإسلامية إذا هي تدار بطريقة عشوائية ، وإذا بالمسلمين يعجزون عن خوض المعركة الحضارية الكبرى مع ملل الكفر بشيء من إتقان العمل وإحسانه . إن الله تبارك وتعالى لا يحابي في سننه أحدا ، وجعل في سيرة الأنبياء مدكرا لكل ذي لب ، فلم يشفع لهم كونهم رسلا من عند الله تبارك وتعالى ، ولم يشفع لهم نقاء الحق الذي يحملونه ، فكذبوا وأوذوا وطردوا وحوربوا بل وجرحوا وقتلوا ، ومع ذلك فقد بذلوا الوسع في القيام بالدعوة ، فدعوا إلى الله سرا وجهرا وجيشوا الجيوش واشتروا السلاح واستعاروه وحفروا الخنادق وابتكروا وسائل الكر والفر ، ولم تلن لهم قناة في أمر الدين . وهكذا ينبغي أن يكون دعاة اليوم ، في هذا العصر الذي صار المحك في الغلبة للأخذ بالمتطور من مستجدات العصر كأجهزة اتصالات وتقنية إدارة الأعمال وغير ذلك مما يحتاج إلى ملاحقة وبحث لا أن ننتظر استعمال الخلق لها حتى إذا اهترأت فكرنا أن نخدم الدين بها بينما سوح الكفر تهنأ بأحدث وسائل الخدمة والمواجهة . وإذا كنا قد تجاوزنا إشكالية الوسائل الدعوية فإن أول بدهية يجب أن تحتل مساحتها اللائقة في عقولنا أن العلوم العصرية بكل أصنافها لها دور فعال في تسخير قوانين الكون لخدمة الإنسان . وفي الصحاح قال صلى الله عليه وسلم : ( ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء ، علمه من علمه وجهله من جهله ) ، فتأمل قوله : ( علمه من علمه وجهله من جهله ) وأنه لا يحول بين المكلف وبين الاستفادة مما بثه الله من منافع وطيبات في الكون إلا ببحث المكلف وسعيه في تحصيل ما ينفعه . وهكذا في مواجهة أهل الإيمان لعروش الكفر ، فإنه لن يحول بينهم وبين النصر إلا عجزهم عن السعي الحثيث في بذل المستطاع ، وإذا تقرر أن نصر الله يتلو نصر العبد لدينه ، فإن تقصير المجاهدين في بذل المستطاع يعد سببا وجيها لتأخر نصر الله . إن قناعة الدعاة إلى الله بضرورة احتراف الدعوة سبب رئيس من أسباب النصر ، فلا تجدي في هذه العصور محاولات الهواة لمزاحمة المحترفين في مجالاتهم . وقد تصاعدت اهتمامات دعاة الكفر بما يدعون إليه حتى إنه في سبيل ذلك سخروا كل العلوم العصرية لخدمة كفرهم . وإذا أردنا أن نؤرخ لابتداء احتراف جهد الدعوة إلى أية فكرة فنستطيع أن نذكر محاولات التنصير الحاذقة التي ابتدأت في قارة آسيا مع مطلع القرن السابع عشر حيث تزامن مع الحركة الاستعمارية الاقتصادية الأولى - على يد الشركات الشرقية - زحفُ المنصرين من كل المذاهب على تلك البلاد البكر ( كالهند وما جاورها ) فنشأت أولى الحركات التنصيرية المحترفة التي كانت تمول بأموال الشركات الاقتصادية الاستعمارية ، وتدار بجمعيات علمية ( جغرافية وطبية اجتماعية ) تحت رعاية التاج البريطاني رأسا ، حيث كانت الملكة إيلزابيث الأولى ملكة التاج البريطاني وراعية الكنيسة الإنجيلية . ثم تطورت جهود المنصرين العالمية في توسيع رقعة نشاطاتهم حتى غدت جهدا دوليا مكثفا تتوجه لخدمته كل الإمكانات المتاحة وبإدارة مجلس الكنائس العالمي الذي تأسس للتنسيق بين ملل النصرانية المتناحرة . وفي إحصائية متأخرة ذكر بعض الباحثين أن ميزانية جمعيات التنصير لعام 1999 م قد فاقت 200 مليار دولار ، ولا شك أن هذا المبلغ متواضع جدا مقارنة بالمبلغ الحقيقي الذي تنفقه الدول النصرانية في تسيير سياسات العالم بما يصب في مصلحة المنصرين لا محالة . أمام هذا البذل الذي يبذله أهل الكفر ، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن من أسئلة : ماذا أعد الدعاة أمام هذا الإتقان في العداء للدين ؟! إن الجواب الذي يرضي كل منصف أن دين الله تبارك وتعالى يأخذ مجراه في قلوب الناس ويغزو كل الأقطار بتقدير الله وحسب ، ولم يأخذ حقه من جهد الدعاة بل المسلمين . حتى المجهودات التي تبذلها الهيئات الإسلامية العالمية نجدها – مع كثرتها وتشعب أنشطتها – تدار بطرق بدائية ، ولا يعتمد في إدارتها على المتخصصين ، كما أن تلك الهيئات لا تملك تصورات محددة لأنشطتها المستقبلية ، وغدت أعمال الدعاة – كمال قال بعض الغيورين – مجرد ردود أفعال للمآسي التي تحيق بالمسلمين بين الحين والحين . إن الفاتيكان قد أعلن في خطط واضحة وصريحة جعل عام 2000 من الميلاد هو عام تنصير أفريقيا ، وبينما كان كرادلة الفاتيكان يمدون إلى وزارات الأوقاف في العالم الإسلامي يدا حانية زاعمين رغبتهم في الحوار بين الأديان كانت يدهم الثانية الملوثة بنجاسة الكفر تمتد إلى أدغال أفريقيا وغابات إندونيسيا ، بل إن إرساليات التنصير التي تعتمد على المدارس الراقية والمستشفيات المتقدمة ما فتئت تجوس خلال ديار الإسلام بل وديار الكفر على السواء تمارس دورها التنصيري في كل أرجاء العالم دون حياء أو خفر . وبينما نرى الكاتدرائيات النصرانية والكليات اللاهوتية تخرج من بين جدرانها منصرين على مستوى عال من المهارة والإتقان في دعوة الناس فإننا نرى مناهج الكليات الإسلامية والدعوية في كل جامعات العالم الإسلامي ( لا نستثني والله شيئا منها ) لا تلبي في قليل أو كثير طموح الزحف الإسلامي الذي بدأت جحافله تطرق أبواب الفاتيكان دون إراقة قطرة دم تحقيقا لبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد عقد في إحدى الولايات الأمريكية – لاحظ – مؤتمرا تنصيريا عالميا كان الهدف منه دراسة أوضاع البعثات التنصيرية في جميع أنحاء العالم ، وقد اطلعت على كل أبحاث هذا المؤتمر التي طبعت في مجلد ضخم ، ولشد ما تعجبت حينما وقعت عيني على تلك الأبحاث . لقد كانوا يطرحون كل المشكلات التي تواجه البعثات التنصيرية في كل بلاد العالم ، وكم كانت المسائل التي يعالجونها دقيقة تعتمد على دراسات أنثربولوجية راقية ، وكان يتبع الأبحاث مناقشات دقيقة واعية لما يطرح . وعلى سبيل المثال فقد كان من ضمن الأبحاث التي طرحت : مدى تأثير الروحانيات ( السحر والاعتقاد في الحسد ) على العوام من المسلمين ، ولم أدرك حينها مع التمعن فائدة دراسة عادات المسلمين واعتقاداتهم الاجتماعية ولو كانت باطلة أو خرافية ، ثم تراءى لي أن القوم من الذكاء بمكان ، فهم يعملون كما تعمل أجهزة المخابرات التي تستقصي كل معلومة عن عملائها في كل أنحاء العالم ، لعل أن تكون المعلومة الواحدة – وإن كانت تافهة في ذاتها – ذات أثر في يوم من الأيام . وهكذا يتحرك التنصير في أنحاء العالم ، وفي بلد مثل تايلاند حدثني بعض المسلمين هناك أن مجموعة من المنصرين الشباب ذوي السحنة الأوروبية طرقوا عليه الباب وأخذوا يكلمونه عن النصرانية بلغة تايلندية طليقة تنبئ عن أن القوم إذا أعدوا لشيء أعدوه على الوجه الذي يظن به بلوغ الأرب . ولقد رُزئت الأمة الإسلامية في العقد الأخير بنكبات مدوية هزت أركان عزيمتها وأثخنتها بجراح غائرة في عزتها وكبريائها ما زالت تعاني نزيفها المتوالي . ولقد كانت التحديات التي واجهت الأمة الإسلامية في البوسنة وكوسوفا بمثابة امتحان حقيقي لإمكاناتها البشرية والاقتصادية والسياسية ، فسقطت بجدارة في الجميع . وقد رأينا كيف كانت C.I.A ( المخابرات الأمريكية ) والبنتاجون ( وزارة الدفاع الأمريكية ) والناتو ( حلف شمال الأطلسي ) والاتحاد الأوروبي يديرون الأزمة وسط همسات الدول الإسلامية وهمهمات أصحاب القضية بحجم المؤامرة الكبير . ووسط مرارات وصلت إلى الحلقوم رأينا كيف استقبلت إسرائيل عشرات الأسر المسلمة من كوسوفا في استعراض سياسي مدروس الأبعاد بينما لم تتقدم أية دولة إسلامية باستعراض مماثل ! إن مثل ردود الأفعال هذه هي التي تنبيك أيها المسلم بحجم التخبط الذي يعتري جهودنا في خدمة الدين ، ولست بلائم أفرادا بأخطاء دول ، كما أن اعتذار البعض بأن أوزار الحكام في تشرذم الأمة لا يجوز أن يتحملها المحكومون اعتذار صحيح وتخلص وجيه ، ولكنني أزعم أن الهيئات والجماعات الإسلامية ما زالت تخنس عن دورها الأصيل في تبني القضايا الكبرى ، وما زالت تتوارى وراء طرق بالية في إدارة الدعوة حتى أضحت رهينة العادة والهوى والآلية الصماء التي لا تغني عن نصرة الدين فتيلا . وبإزاء قناعة الأفراد بأهمية احتراف خدمة الدين لا بد أن تتولد في وجدانات القيادات الدعوية مثل هذه القناعة حتى تهب الهمم لمشروع حضاري كبير يستنقذ الأمة من نكباتها وهزائمها . حقا إن التحديات التي تواجهها الصحوة في كل الأصعدة شديدة وخطيرة ، وتربص أعدائها بها على كل المستويات وفي كل زمان ومكان ، لكل ذلك كله في نظري سيضمحل أمام الإمكانات الحقيقية لقطاعات الصحوة المتكاثرة ، وظني أن الصحوة تفتقر بشدة إلى شخصيات إدارية عالية المهارة تعمل على تفعيل الكوادر الموجودة بالفعل ، والرقي بإمكانياتها والنهوض بمستوياتها ورفع درجة الاستفادة من الخبرات التي تمارس عملها بالفعل ، ولنا مع هذا الموضوع عود . لم يعد من المجدي أن يمارس الداعية في أي ميدان نشاطه بارتجالية ، ولم يعد مقبولا أن نترك دعاتنا فريسة للتجارب الدعوية التي تستقطع وقتا ومجهودا أولى بنا أن نسخره في التدريب وصقل الخبرات . إننا نرى بوضوح كيف أن الغيورين من شباب الأمة يبذلون الغالي والرخيص في سبيل رفعة شأن الأمة ، وكيف أنهم يضحون بأوقاتهم وأموالهم وبكل ما يظنون أن الدعوة تحتاج إليه ، لكنهم يفاجئون أن محاولاتهم الدعوية تذهب أدراج الرياح ومجهوداتهم تصير رهينة أماكنها ، لا لشيء إلا أنهم واجهوا واقعا دعويا صعبا بآلات بدائية وبدون خبرة أو ممارسة سابقة . تأمل ( مثلا ) الجهد التربوي الذي يقوم به الدعاة ، إن جميعهم – إلا من رحم ربي – يشكو كثرة مشكلات الشباب وتعقيدها وصعوبة فهم شخصيات المراهقين . ولا شك أن هؤلاء الدعاة سيعانون أكثر عندما يلتزم الشباب بالدين دون أن تحل مشكلاتهم التي تنشأوا عليها في الجاهلية . وقد رأينا كيف أن رواسب التربية الخاطئة التي بدأ التزام هؤلاء الشباب عليها تطفوا سريعا عندما تتعرض تلك الشخصيات لأول محك في حياتها الجديدة ، بل إن علماءنا قد نصوا على أن فساد الانتهاء من فساد الابتداء . إن مثل هذه الإشكالية في نظري مأتاها من تقصير الدعاة في العلوم الاجتماعية والتربوية ، وقلة مطالعاتهم لكتابات ذوي الخبرة والديانة في هذا المجال ، وأنا أجزم غير شاك أن قطاعا كبيرا ممن يمارسون دعوة الشباب جاهلون بأساسيات العلوم التربوية مما يتعلق بنفسية المراهق ونحو ذلك . ومما لا شك فيه أن هذه العلوم فيها الغث والسمين ، وأن واضعيها بعضهم ممن لا خلاق له في دين الله تبارك وتعالى ، ولا شك أيضا أننا لا نقصد بالاستفادة من هذه العلوم أن نعتمد قوانينها واكتشافاتها وتجاربها الغضة ، بل المقصود أن يستفيد الداعية والمربي من تلك الدراسات التربوية والنفسية والاجتماعية في فهم النفسية البشرية ، ولا شك أيضا أن الممارسة التربوية قائمة بالدرجة الأولى على براعة فهم الشخصية التي يراد تربيتها واختيار المنهج التربوي الملائم ، وكل ذلك راجع إلا ذكاء المربي في فهم الشخصية التي يربيها ، وهذا الفهم يرجع جزء كبير منه للفراسة التي بعضها كسبي يُجتنى بالخبرة وبالبعض الآخر فطري يُمنح من الله تبارك وتعالى . وليس على الدعاة من بأس إن هم حاولوا صقل تجاربهم بمثل هذه العلوم والقراءات التي وإن لم يستفيدوا منها في دعوتهم فلا شك أنها ستفيدهم في أمور دنياهم لا محالة . بل إنه يمكننا أن نمثل لإشكاليتنا بأمثلة أعمق في آلامها ونتائجها ، ألا وهي قضية خلق الداعية ، فإنه مما لا شك فيه أن ثمة تقصيرا حادا على مستوى الأفراد والجماعات في تلقين الدعاة المثل الأخلاقية العليا التي تليق بدعاة الإسلام والمتحدثين باسمه بين الناس . وإنه لمن الطبعي أن نجد بعض الدعاة يأتي أفعالا هي في عرف الشرع من المباح الذي لا إثم فيه ولكنها في بعض الأعراف من المستشنعات ، والعادة محكّمة ، وسيحتاج الداعية حتما حينئذ إلى تهذيب بعض عاداته حتى يدرأ المطاعن عن نفسه وعن الدين ، فالجهلاء أعداء أنفسهم ، وهؤلاء وغيرهم من أعداء الدين متربصون بالدعاة يعدون عليهم هناتهم ، فما أحرانا أن نقطع على هؤلاء محاولاتهم ونقدم لهم نماذج دعوية تبهر العقول والألباب . والعجيب أن مثل هذا التلقين – أعني تلقين الأخلاق – كان سلفنا وعلماؤنا يجعلونه علما مستقلا يدرس في حلقاتهم ، وكانت لهم مؤلفات حافلة في علم الآداب حوت المنظومات الألفية وشروحها وتناولت أدق تفاصيل الآداب حتى إنهم تعرضوا لآداب استعارة الكتب وآداب المسلم في السوق وفي الشارع على نحو ما تراه في كتاب الجامع في الآداب للشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله ، وقد رأيت متنا مشروحا في آداب النكاح والزواج لأحد المالكية ينبئ أن تراثنا جمع فأوعى . وفي قضية احتراف خدمة الدين : لا أريد أن أعقد المشاكل أو أن ألزم الدعاة بما لا يلزمهم شرعا ، فإنني لا أماري في أن في شرع الله غنية عن كل شيء ، ولكن شرع الله نفسه قد حض على المعرفة وبارك أهل التخصص وألزم الناس بالرجوع إليهم والاعتداد برأيهم ومشورتهم . والمنصف لا يمكن أن يتخيل مفتيا في مسائل الاقتصاد والتجارة لا يعرف في عرف التجار والاقتصاديين نقيرا ، كما لا يمكن أن نأخذ بقول من يفتي الناس في الفرائض حال كونه لا يحسن حساب الكسور . ولو تجاوزنا القضايا الجزئية في جانب احتراف الدين إلى القضايا الكبرى العامة ، كقضية الصراع الحضاري بين الإسلام والأيديولجيات الأرضية فإننا سنبصر هوة سحيقة تفصل بين الحركات التي تتبنى موقف الإسلام وبين خصومها المختلفين . إن اليهود عندما فكروا في إقامة دولتهم ، وحددوا موقعها على خريطة العالم ، بل وحددوا موعد إعلان تلك الدولة ، لم يعيشوا بعدها معيشة الحالم المتمني ، بل تناسب البذل مع ضخامة المهمة ، ولا أعتقد أن وعد بلفور هو الذي أفرز الكيان وأوجده على وجه الأرض ، بل تحديد الأهداف والتخطيط السليم والتنفيذ الدقيق والمتابعة المستمرة هي التي أعطت اليهود حق الوجود ، وتأمل قوله تعالى : وأنا أهمس إلى كل المسلمين بمزايا أخرى أقامت هذه الدولة على ساق قوية ، ألا وهو تبنيها لمبادئ في الحرية والعدل وصيانة حقوق الإنسان لا يوجد في غيرها من بلدان المنطقة . وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن الله يقيم دولة العدل وإن كانت كافرة ويديل دولة الظلم وإن كانت مسلمة . معنى كلامه رحمه الله . ولا أظن دعاة الإسلام يرضون أن يواجهوا هذا المعترك العالمي والخضم الدولي بكيانات هشة ، وإمكانيات متواضعة ، فكان لزاما قبل كل شيء أن تبث عقيدة الاحتراف في صفوف الدعاة جماعة وأفرادا ، بحيث نصل إلى المستوى الذي يستنكف معه الداعية أن يؤدي عملا دون أن يعد له العدة المطلوبة ، فيكون بذلك معظما لشعائر الله صادق الغيرة على دينه .
ليست شخصية حالمة تلك التي تتطلع في بذلها للدين أن يصل مجهودها إلى المستوى العالمي . وليست من الأماني الكاذبة أن يتمادى الدعاة في تمني اليوم الذي تصبح دعوتهم الإسلامية شأنا عالميا يحسب له ألف حساب . ونحن في حديثنا عن قضية خدمة الدين نحاول أن نجمع بين الواقعية والطموح العالي ، ونجنح عن الدعة والخطط الساذجة بقدر جنوحنا عن التهور والخيال المستحيل . وفرق بين يقين النصر الذي يمثل دعامة أساسية في عقيدة الداعية ، وبين مصادمة السنن الكونية بل والشرعية بزعم أن الله سينصر عباده المؤمنين . تلك الكلمات السابقة وإن كانت صارمة فهي ضرورية قبل أن نشرع في تفصيل العنوان ، ذلكم أن من بدهيات العقول أن النتائج رهينة الإمكانيات ، والنجاح قرين البذل المتاح ، وتحقق الغاية مرتبط بتحقق الوسيلة ، وكل ذلك لا يقدح في كرامة الله لأوليائه بالنصر مع الذلة والقلة ، فحديثنا عما يجب أن يعتمل في صدر الداعية من حرص على اتخاذ الأسباب . إن عالمية الدعوة الإسلامية هاجس ينبغي أن يلح في طموح كل داعية إلى دين الله تبارك وتعالى ، ومشروع ينبغي ألا يغيب عن أذهان الغيورين على دين الإسلام . فهي حقيقة شرعية بلا امتراء ، قال الله تعالى : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) رواه مسلم . وقال صلى الله عليه وسلم : ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، عزا يعز به الإسلام ، وذلا يذل به الكفر ) . رواه أحمد والحاكم . وفوق كونها حقيقة شرعية هي ضرورة إنسانية تستنهض همة كل مشفق على حال البشر وسكان الكرة الأرضية ، فالكفر يلف أرجاء الأرض ، والفجور يستعلن على حين غفلة من القيم والمثل ، وأضحى للكفر والفجور دولة وسلطان ، وصارت ممارسات الفسقة تتحلى بغطاء الشرعية ، فالكفر يتزيا بحلة حرية الفكر ، والشذوذ الجنسي ينافح عن حقوقه تحت غطاء الحرية الشخصية ، والمرأة تريد أن تتبرأ من الحياء بزعم التحرر من القيود الجائرة ، بل إن براءة الأطفال تغتال بالخطف والاستغلال الجنسي تحت أضواء المدنية الكاذبة . كل ذلك ألا ينادي على النفوس الأبية أن تسعى لخلاص لتلك البشرية المغلولة ، أو تنافح عن القيم والمثل الضائعة في غابة الشهوات والغرائز البهيمية . لم تعد مسئولية الدعاة محصورة في نطاق المسجد الذي يخطبون فيه أو يلقون محاضراتهم ، وفي حدود قاطني الحي الذي يسكنون فيه ، إن حزام المسئولية يتمادى في الاتساع ليصل إلى كل نفس منفوسة تدب على هذه الأرض . يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء ) رواه الترمذي ، وإسناده حسن . قال العلماء في تفسير هذه الحديث أن العلماء لهم دور في الوصية بالكائنات الحية ، حتى إنهم يوصون الناس بإحسان الذبحة كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنفعم عام على كل الخلاق ، ولذلك تتذكرهم بالخير والدعاء . وإذا كان هذا حال الحيتان فما بال البشرية التي التائهة في سرداب شهواتها ، إنها أحرى بأن تحتل مساحة من اهتمامنا معاشر الدعاة . وقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك نفسه حزنا على الناس ألا يكونوا مؤمنين ، وسهر الليالي ساجدا يدعو ربه متضرعا : أمتي أمتي ! فصلى الله وسلم على ذلك النبي الشفيق الذي حمل هم توصيل الدين إلى كل البشرية . وإذا كانت هذه الهمة العالية تمثل نسيج طموح كل داعية إلى الله تعالى ، فإنه إزاء تعظيمه لشعائر الله وفرائضه يأبى أن يكون مجرد مراهق ينشغل بالأحلام والأماني الخادعة ، ويجمح وراء خيال هاو وسراب كاذب . إنه يمزج هذا الطموح بتخطيط واقعي ، ويبني آمالا صادقة على جهود مخلصة ، ثم يكل النتائج إلى الله تبارك وتعالى . هو لا ينظر إلى كراسي الحكم والسلطة بقدر ما يتمنى أن يحوز كرسيا واحدا في جنة الخلد . يحدوه الطمع في رضا الله فيبذل حق البذل ليحوز السلعة الغالية إنه قليل الكلام كثير العمل ، سريع التأثر بواقع المسلمين والاستجابة لنداء البذل ، إذا ما أقبل على عمل دعوي تسامى في العطاء له ، وإذا فكر في مشروع أعد له العدة الكاملة . يتخذ الأسباب التامة محاطة بتوكل على الله وثيق ، يحترم التخصصات ويأبى الفوضى والارتجالية ، إنه مثال الداعية الذي يحمل هما عالميا ، ويغذيه طموح عال ، ومثل هذا تفتقر إليه الدعوات العالمية ، ويعد طاقة دفاقة لكل من حوله من العاملين . إن نصف مساحة العالم الإسلامي دخلت في الإسلام صلحا ودعوة ومعاشرة لا عنوة وحربـا ، مما يثبت أن عالمية الإسلام في عالمية الداعية ، وأن السيف لم يرفع إلا على الظالمين والغاصبين لحق البشرية أن تؤمن بربها وإلهها . وإن تغلغل الإسلام في أوروبا والأمريكتين بل وفي روسيا والصين وإفريقيا وأستراليا مع قلة الدعاة وضعف الإمكانيات لدليل على أن هذا الدين الحق لو قُيض له من الحملة من يجهرون به في كل ميدان ويطوفون به في كل صقع لتغيرت خريطة العالم في سنوات معدودة . إن طرق خدمة الدين كثيرة ، وأساليب نشره بين الناس وفيرة ، وميادين النداء إليه شاسعة ، وما سطرناه في هذه الأوراق مساهمة متواضعة نحو عالمية الدعوة ، فمن أمانينا أن تتجيش كل الطاقات في خدمة الدين فنفاجيء الباطل بجندي للحق في كل شبر على وجه الأرض ، ونجابه الظلم والطغيان ، ونواجه الكفر والفجور ، ونضيق الخناق على إبليس وجنوده ، ونحكم الحصار على إغواءات الشياطين . إن عالمية الدعوة ستتحقق بجلاء ويقين يوم نرى كل مسلم يساهم بأي جهد في سبيل دينه وأمته ، يوم نرى كل مسلم يحاسب نفسه : ماذا قدم لدينه وأمته ؟ يوم نرى حديث الناس في المقاهي والطرقات والبيوتات ومجالس السمر يدور حول هم الدين وشأن المسلمين ، يوم نرى الأسرة تَدَّخِرُ من قوتها رغيفا تبذله لجائع أو محتاج ، يوم نرى الأغنياء يتبارون في أَرْيَحِيَّة صِدِّيقِيَّة نحو الإنفاق في سبيل الدين ، يوم نرى الدعاة قدوة لغيرهم في حمل أمانة الدعوة وتبليغها للناس . وفي سبيل بث هذه الروح العالية العالمية في نفوس الدعاة ، بل في نفس كل مسلم نقترح الاقتراحات الآتية : (1) ينبغي أن يعلو في خطاب الدعاة إلى الناس : الشعور بالمسئولية العالمية للإسلام ، ومسئولية الأمة بأسرها عن حمل رسالة الدين : (2) من اللازم أن تتناول الأدبيات الإسلامية هذه القضية في كل المناسبات حتى تضحي عالمية الإسلام هما مشتركا يحيى في قلوب كل الناس . ولا بد أن تتنوع تلك الأدبيات في عرض هذه الفكرة ، ما بين شعر راق ونثر بليغ وقصة هادفة ومقال مؤثر أو نشيد حماسي محفز أو نحو ذلك من الأساليب المعروفة والتي سنتناولها بالتفصيل عند الكلام عن طرق خدمة الدين . (3) يجب أن تقام المؤتمرات العالمية التي تذكر الناس بهذه القضية ( عالمية الدين ) ، ويتم اتخاذ قرارات وتوصيات تصب في هذا الصدد . (4) إرسال برقيات ورسائل نصح إلى ملوك ورؤساء الدول الإسلامية وأصحاب المناصب الرفيعة النافذة في الحكومات الإسلامية والمنظمات الإسلامية العالمية والهيئات الإسلامية الخيرية العالمية وتحميلهم أمانة هذا الدين وتوجيه النصيحة الصادقة إليهم ، ورفع كل ظلامة وتصرف يتصادم مع واجبهم في القيام بحماية حوزة الدين والذود عن حياضه . وقد يظن البعض في هذا المسلك نوعا من الحماقة والأماني الحالمة ، وأنا أؤكد أن هذه الوسيلة إن لم تكن من الواجبات الشرعية والفروض الكفائية فإنها على أقل تقدير من الوسائل الجديرة بالمحاولة والتجربة . وكم رأينا في التاريخ من حركات إصلاحية تمت بسبب خطوة خطاها أصحابها لم تكن في الحسبان . (5) تكوين رابطة حكماء من العلماء المشهورين والدعاة البارزين تكون مهمتها رأب الصدع بين الحركات الإسلامية والهيئات الدينية ، ومراقبة مسار الدعوة على المستوى العالمي ، وتوجيه النصح والاستشارة إلى كل أولئك ، مع تقديم يد العون والمساعدة لكل مجهود يبذل لخدمة الدين . ويمكن أن يبدأ عمل هذه الرابطة على مستويات دنيا لتكوين جبهة دعوية قوية من طلبة العلم والدعاة التنفيذيين ، يكون نواة لحركة ضغط وشعور شعبي موجه لإرادات الأمة وقرارات القادة . ومنذ زمان بعيد وأنا على يقين أن حركة الإصلاح التي يجب أن تحدث للصحوة الإسلامية جمعاء ينبغي أن يقوم بها طلبة العلم الصغار الذين لهم دور في إشعار القيادات الروحية للصحوة بضرورة الإصلاح وضرورة المصارحة والمكاشفة ، وهذه القضية ليس لها محل هنا ولكنني ذكرتها من باب الذكرى لعل الفرصة تواتي في تأصيلها وتنظيرها في القريب العاجل إن شاء الله تعالى . وبعد أيها القارئ الكريم .. لعلي لا أكون ممن يهرب من واقعه بالتلهي ، كمن يبني قصر الرمال لينسى أنه يسكن في كوخ من صفيح ، بل إنني على يقين أن جوانحك تحوي مثل هذه الآمال العظام ، وأنا على يقين أنك على يقين من هذه الآمال ، وأنها ليست من أحلام الكرى ، وأحتاج أنا وأنت وكل غيور أن نتواصى بالحق ونتناصح ، وأن نغذي الحزن والقلق بين الفينة والفينة بروافد الأمل الناصع ليتبدد ظلام الانهزامية عن فجر المستقبل الصادق ، وتتقشع غيوم القنوط عن شمس النصر الأكيد . إن إشكالية كثير من الناس في شأن علاقتهم بالله تبارك وتعالى أنهم لا يعون شفافية الطاعة ، ولا يدركون أن الله تبارك وتعالى قد وضع لكل شيء في هذا الكون قانونا ونظاما ، فكما جعل النار محرقة والماء الزلال مُرْوِيَاً والهواء النقي منعشا فكذلك ما جعله الله تبارك وتعالى قربة لذاته ووسيلة لمرضاته ، فإن له قانونا لا يقل صرامة عن قوانين الكون الأخرى . والأعمق من ذلك أن الله عز وجل جعل من بعض الأشياء – على ضآلة شأنها فيما يعتقد الناس بادي الرأي – سببا لنوال الفتوح ، وحصول البركة والنماء بما لا يتفق والقوانين العادية . ومن تلك الأشياء : النية الصالحة للعمل الصالح . فغني عن القول أن عمل العبد مشروط قبوله بإخلاص النية وبمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فذانك هما النية الصالحة والعمل الصالح المقصودان بقول الله تعالى : وقضية الإخلاص بالنسبة للدعاة وحملة الدين تأخذ غورا لا تسعفه العبارات الساذجة ، أو الإيضاحات العادية ، فهو يحتاج إلى شفافية روحية توقن بكرامة الله لأوليائه وتعتقد أن القلب هو محل نظر الإله من العبد . فإذا ما توارد على الداعية المخلص شيء من كدر الحياة لجأ إلى تصفية شوائب المقاصد ليقينه أن ثمة علاقة طردية بين التوفيق الإلهي وبين سلامة النية وحسن الطوية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص : ( إنك لن تُخَلَّف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به خيرا ودرجة ورفعة ) . لاجرم أن الآيات القرآنية – مكيها ومدنيها – تواطأت على تأكيد أهمية النية وجلالة شأنها . قال تعالى : بل إن في الإخلاص من البركة العائدة على محيط الدعاة وصفاء الود ونقاء السيرة بينهم ما يدعو إلى العجب ، ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم ) . يقول ابن القيم– رحمه الله - : إي لا يبقى فيه غل ، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة بل تنفي عنه غله وتنقيه منه ، وتخرجه عنه ، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل ، وكذلك يغل على الغش ، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة ، فهذه الثلاثة تملؤه غِلا ودغلا ، ودواء هذا الدغل واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة …ثم يقول ابن القيم – في معرض كلامه عن تعريف الإخلاص - : وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص والصدق والقصد ، فقيل : هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة . وقيل : تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين ، وقيل : التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك ، والصدق : التنقي عن مطالعة النفس . فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له ، ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص ، ولا يتمان إلا بالصبر . وقيل : الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن ، والرياء أن يكون ظاهره خيرا من باطنه ، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره . وقيل : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ، ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله . ومن كلام الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . قال الجنيد : الإخلاص سر بين الله وبين العبد ، لا يعلمه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، ولا هوى فيميله . وقيل لسهل : أي شيء أشد على النفس ؟ فقال : الإخلاص ، لأنه ليس لها فيه نصيب . وقال بعضهم : الإخلاص ألا تطلب على عملك شاهدا غير الله ولا مجازيا سواه . وقال مكحول : ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه . وقال أبو سليمان الداراني : إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء . أما الهروي فجعل الإخلاص تصفية العمل من كل شوب . أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس ، إما طلب التزين في قلوب الخلق وإما طلب مدحهم والهرب من ذمهم ، أو طلب تعظيمهم ، أو طلب أموالهم ، أو خدمتهم ومحبتهم ، وقضاء حوائجه ، أو غير ذلك من العلل والشوائب ، التي عَقْدُ متفرقاتها هو إرادة ما سوى الله بعمله ، كائنا ما كان . وأول درجاته عنده : إخراج رؤية العمل عن العمل ، والخلاص من طلب العوض على العمل ، والنـزول عن الرضا بالعمل . يعرض للعامل في عمله ثلاث آفات : (1) رؤيته وملاحظته (2) وطلب العوض عليه (3) ورضاه به وسكونه إليه . ففي هذه الدرجة يتخلص من هذه البلية . فالذي يخلصه من رؤية عمله مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه له ، وأنه بالله لا بنفسه ، وأنه إنما أوجب عمله مشيئة الله لا مشيئته هو ، كما قال تعالى : وأنت ترى مما نقلته عن ابن القيم فقه رياضة النفس في : (1) تحضير الإخلاص وتقويته في القلب . (2) ودرء الشرك والرياء والسمعة والعجب ، ولا ريب أن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى أقوى الخلق قلوبا وأنقاهم أفئدة وأصفاهم سريرة ، لأنهم موصولون بالوحي المطهر في نذارتهم الخلق وتعبدهم لربهم به . وقد تيقنت من تجربتي في الدعوة أن الدعاة من أحوج الناس وأقربهم إلى الله تبارك وتعالى ، فقلوبهم مملوءة بالشفقة على المسلمين ورغبتهم ( الدعاة ) في هداية الخلق ، وقد علموا بالاضطرار أيضا أن الهداية في يد الله تعالى ، فتكامل اضطرارهم إلى الله تعالى أن يجعل الهداية متحققة بسببهم ، ولن يجدوا صعوبة – إن شاء الله – في تطهير قلوبهم من عوالق الرياء وعوائق الشرك . وحري بالدعاة أن يتعهدوا قلوبهم على الدوام مفتشين عن رواسب الهوى وبقايا الدغل الذي يتخلل ثنايا النيات القلبية ، وأخطرها الذي يتغلف بقصد سوي معتبر زيّنه له هواه فاتبعه ، فإنها والله القاصمة ، قال تعالى : { أفرأيت من اتبع إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } ، وقال : { أفمن زين به سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } . ويتعاظم دور إبليس اللعين في تزيين المقاصد الخبيثة وإلباسها خلعة الولاية وزينة الإخلاص ونزاهة الضمير ، فيحس الداعية بالطهارة والبراءة حال كونه متلبسا بأعظم زور وأشنع بهتان ، وما أتعس الذي يدعو إلى نفسه زاعما أنه يدعوا إلى الله ، يدل الخلق إلى ذاته متزلفا إليهم بصورة الداعية المخلص . إن مثل هذا النوع قليل بين الدعاة ، ووالله ليسوا من الدعاة ، ولكن داءهم لم ينج منه داع بل مسلم ، وأي نفس تلك التي لا ترجو لنفسها عزا وجاها وسلطانا ، كل نفوس الخلق تطلبه ، ولكن ما أعظم تلك النفس التي تتصدر عند البذل وتتوارى عند المغانم وتعف ، إنها النفس المخلصة التي تمحض بذلها لربها ، فلسان حالها يقول : لقد كان السلف الصالح لا يستحيون من مواجهة أنفسهم بنياتهم السيئة وما أكثر ما رأيناهم يكلمون ويحذرون أنفسهم من نية خبيثة تسللت على حين غرة وولجت في سانحة غفلة ، ولم يتحرجوا رحمهم الله من التصريح بهذه النية التي تسللت ليعلموا الأجيال كيف يكون الإخلاص والتجرد ، فجزاهم الله عن الأمة خيرا . ومن أهم ما يجب أن ننبه له الدعاة على كل مستوياتهم أن قضية الإخلاص على خطورتها ليس من جنس ما لا يطاق أو من قبيل ما يعسر على المكلفين إتيانه ، وإلا ما كلفهم الله به وجعله ركنا في قبول الأعمال ، إذ لا يكلف الله ولا يأمر إلا بما هو داخل في حيز استطاعة المكلفين كما معلوم في محله ، وما ورد عن بعض السلف من صعوبة الإخلاص وأنه عزيز وعسير فمحمول على استحضار الإخلاص مع وجود وَالِجَاتِ الهوى ونوازع الإرادة الخبيثة ، أو أنه محمول على التبرؤ من الإخلاص لأن ادعاءه دليل عدمه ، وإلا فإن متواتر سيرة الصحابة – وهم أقل الناس تكلفا – يثبت أنهم كانوا يعالجون قلوبهم هونا ، ولم يتجشموا معارك وهمية مع النفس والهوى ، فينصرف الهم حينئذ للتفتيش عن عدو داخلي خيالي وينسى معركته الأساسية مع الأعداء الخارجيين . وقد كان مما ذُم به الحارث المحاسبي يرحمه الله كثرة كلامه في النيات على غير طريقة السلف ففي سير أعلام النبلاء للذهبي (13/112) قال : قال سعيد بن عمرو البرذعي شهدت أبا زرعة الرازي وسئل عن المحاسبي وكتبه فقال إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر تجد غنية هل بلغكم أن مالكا والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ، ما أسرع الناس إلى البدع . أهـ ولا أستريب أن في كلام أبي زرعة شدة بيد أن المفهوم من كلامه أن السلف لم يكونوا يعالجون نياتهم على نحو ما ورد في الرعاية ونحوها من كتب المحاسبي ، ولابن القيم وابن كثير كلام مشابه لا يحضرني ذكره . وقد نبهت على هذا الأمر لأنه كثر بين شباب الصحوة من يتنصل من العمل للدين بزعم خوف الرياء والسمعة وعزة الإخلاص ونحو ذلك من المعاذير الساذجة التي يمليها عليهم شيطان مريد أو نفس عاجزة كسول . فيضيع الدين بين ورع كاذب وكسل مقنع . ولولا هذا الداء الذي استشرى وتولى كبره زمرة من الناس زعموه الدين الخالص فحذروا الشباب من التصدر دفعا للرياء ومنعوا المبتدئين من الدعوة بزعم ضرورة التحصرم قبل التزبب ، أقـول : لولا استشراء هذا الداء لما أوليت هذا الشأن اهتماما ولما ألقيت إليه بالا ، لأن الأصل اتهام النية ومحاسبة الدواخل وعدم تزكية النفس ، ولكنني رأيت الأمر أمرا منكرا ، وأبصرت طاقات هائلة من شبيبة الدين تتخاذل عن البذل وتتوارى عن المصافة في كتائب الحق ، وتنـزوي في صوامع التزكية ( زعموا ) ، وتترك مناجزة الباطل وأهله بدعوى إصلاح النية والخوف من فساد القلب بالتصدر ، حتى خلا الجو لأهل البدعة والكفر ، وصدق فيهم قول القديم : خلا لك الجو فبيضي واصفري ونـقري ما شـئت أن تنقري وبينما نرى هذا النكوص يقنن في صفوف شباب الصحوة نرى نبتة الكفر تترعرع على أكتاف شبيبة يعدون إعدادا جيدا ويتصدرون في المحافل داعين إلى كفرهم مدافعين عن باطلهم ، وأخسر بها من صفقة أن تعمر دور العبادة بالركع السجد بينما الباطل يجول جولته ويصول صولته في ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة ، وقد نادى القرآن أهل الإيمان نداء صارما وأوضح حقيقة الصفقة بين العباد وربهم ، فقال تعالى وقد نص أئمتنا على ضرورة التصدر في زمان الفتن وعند غلبة الأهواء ، وفي أبواب القضاء من كتب الفقه تجد نصا صريحا بلزوم السعي لمنصب القضاء إذا تعين أو رأى من تعين عليه القضاء تصدر المفسدين وتطاولهم للحصول عليه ، بل تجد أن بعض الفقهاء رخص في دفع البرطيل ( الرشوة ) لنوال منصب القضاء إذا تعين ، وعللوا ذلك بأن في تسنم القضاء رجل جاهل أو مبتدع أو فاسق مفسدةً تربو على مفسدة الرشوة ، وفي حصولها لمن هو أحق بها وأهلها مصالحَ تربو على مصلحة الزهادة في هذا المنصب كما هو شأن السلف ( أعني زهادتهم في مناصب الدولة ) . ولنا في مسلك النبي يوسف عليه السلام - حين علم تأهله لعلاج الخطر المحدق بالبلاد – مدكرٌ وأسوة ، فقالها غَيْرَ وَجِلٍ : نعم : ينبغي التحرز من تصدير من عرف بطره وكبره وحبه للوجاهة والمنصب ، لأن الولايات الشرعية لا تقلد لمن طلبها كما تقرر في السياسة الشرعية ولأن المفسدة التي قد يحدثها صاحب العجب والكبر بالناس أعظم من مصلحة توليه وإن كان ذا كفاءة ودراية . ولا جناح أن نولي ونصدر من يخشى عليه العجب والكبر – ومن الذي لا يخشى عليه ذلك ؟ - إذا كان هناك منهج رشيد في تلافي ولوج تلكم الأمراض إليه ، أو كانت المصلحة في توليه تربو على مفسدة مرض نفسه . وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن حرب غداة فتح مكة شيئا لأنـه يـحب الذكر ، ولم يقل : بل نحميه من الكبر والعجب ونحو ذلك ، وولى أسامة بن زيد قبل وفاته وأنفذه إلى الشام في ركب حـوى كبـار البدريين من المهاجرين والأنصار . ولقد أذن للشافعي في الإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة ، وحدث أبو زرعة الرازي في الثانية والثلاثين ، وأُخذ عن البخاري ولما يخضر شاربه ، وأفتى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وجلس للإفادة والتدريس ولما يبلغ الخامسة والعشرين . وقد تقرر أن اليقين لا يزول بالشك ، واليقين الذي يجب وجوده لتولية المستورين أو الأغمار أو من يخشى عليهم أمراض القلوب من صغار السن أو التجربة : أن تحتدم المعركة بين أهل الإسلام وملة الكفر ، وتتعاظم الفروض والتكاليف ويقل الناصر والمعين ، وأن يكون في المولَّى من الكفاءة والأهلية والاحتياج إليه ما ينفي الغضاضة من توليه . وقد احتج القائلون بضرورة رعاية أحوال القلوب عند تولية الولايات الشرعية بعزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد رضي الله عنهما عن إمرة الجيوش الإسلامية وتولية أبي عبيدة مكانه . والجواب عن ذلك أنه لاشك أن رعاية أحوال القلوب من أجل ما يعتني به السالكـون إلى الله ، ومن أهم ما ينبغي أن يولى من الاهتمام عند الدعاة والمربين ، بيد أن عزل عمر لخالد أملته مصالح شرعية أخرى ، واقتضته مجريات الحوادث ، ونظرة عمر بن الخطاب إلى مستقبل الجيوش الإسلامية ، ومستقبل الفتوح أيضا . وقد أثبتت العسكرية الحديثة أن القيادة لابد أن تتجدد درءا للرجعية التي تفسد مشروعات التطوير ، ومنعا لاستقطاب قيادي داخل المؤسسة العسكرية ، ودفعا لأطماع القيادات في الاستحواذ بتدبير أمور الجيش ، إذ تجنح نفسية القائد العسكري للديكتاتورية وتشمئز من الشورى كما علم من تجارب الأمم . ولا شك أن كلامي لا يفهم منه قدح في عمر أو خالد ، فهما من هما ، ولكن قراءة متأنية في ملف القضية ينبيك بأن العزل اقتضته أمور جليلة ارتآها عمر ، ولا يمكن أن نستدل بالحادثة على ما نحن فيه من منع تصدر المتأهلين في مناصب الدعوة خوفا عليهم من الرياء والسمعة والعجب . ومن قبيل ما نحن فيه : دفن العبقريات ومواراة الأفذاذ خلف الكواليس بدافع الحسد والخوف على الجاه ، وكم رأينا من عناصر شابة صاعدة رزقت البركة والتوفيق في العلم والعمل ، فحيل بينها وبين التنامي لأن جلالة المناصب التي كانوا سيتأهلون لها - في نظر كبرائهم - لا تناسب أسنانهم . وقد شكا إليّ أحد طلبة العلم أن أستاذه الذي يشرف على رسالته في الماجستير يأمره بالتمهل لأن سنه – خمسة وعشرون آنذاك – صغيرة على هذه الدرجة العلمية وأنه لم ينلها أحد في كليته في هذا العمر . أعود للتأكيد أنني لا أماري في خطورة أمر النيات وأحوال القلوب وضرورة تزكيتها وحمايتها من حمأة الأمراض والآفات وفورة حب الرياسة والتصدر ، ولكننا نعالج ذات المرض فيمن يمنعون الشبيبة من خدمة الدين والبذل له حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم أن في تصدرهم خطورة على وجاهتهم . والسؤال الذي لا بد أن أسمعه ، كما لا بد أن أجيب عليه : هل تريد إذا أن نولي الأحداث وصغار السن مناصب تحتاج إلى الحنكة والخبرة وطول التجربة ؟ وهل تريد أن نترك المجال فسيحا لكل ذي هوى مغرض أن يتسنم مناصب الدعوة فيحدث من الفتنة – بما في قلبه من الفتنة – ما تُصطلم معه روح الجماعية بين الدعاة ؟ وقد علمنا كم جر أولئك الأغمار على الدعوة من ويلات بسبب فتاواهم الجريئة المتسرعة ، وخطواتهم الدعوية غير المحسوبة ، وافتقادهم لآداب العلماء وخصال الأئمة ، وبعدهم عن الروية والأناة . والجواب أن المرض يعالج ، والأضرار الدعوية نتلافها ، ولا تبتر الأعضاء النافعة بزعم الخوف عليها من التلف إذا عملت ، ولا توأد الطاقات بزعم حمايتها من فورتها ونشاطها . إن العلم النافع والعمل الصالح والدعوة المخلصة أمور كفيلة بتنقية القلوب من كل دغل ، وقد نص القرآن على أن الدعوة من أحسن القول : وقد مر معنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم ) . ولم يقل أحد من أهل العلم أن علاج الرياء وآفات العمل بترك العمل ، بل المنقول عن السلف أن ترك العمل لأجل الناس رياء ، ومثل الذي يهجر العمل أو يمنع الناس منه خشية على القلوب من آفاتها كمثل من ترك الطعام والشراب خوفا من الجراثيم الكامنة فيها ، أو كمثل من هجر الناس ولم يلامسهم خوفا من عدوى الأمراض وانتقال الحمى . ومن رام عملا خاليا من الشوائب نقيا من المعايب فقد ركب متن الشطط وأعظم على نفسه الفرية . وأنى السبيل إلى عمل خالص صاف والله تعالى يقول : وأنت ترى بجلاء أن الآية نصت على أن أولئك المؤمنين يعملون ، مع الخوف والوجل من عدم قبول العمل ، ولم يصرفهم هذا الوجل عن تجشم عناء العمل ، ومجاهدة الرياء وآفات النفس . إن المقصود من هذه الطريقة تطهير الضمير الدعوي ، وتنقية المقاصد من الخبث الذي يعتور المتنافسين على الدنيا ، وتمحيص الخطو الحركي للدعاة من عرجة الرياء وعثرة الشرك الخفي . إن مرادنا أن نحقق في دعاتنا النـزاهة المطلقة في إراداتهم ، وأن نصرف أبصارهم عن رؤية أعمالهم ، وأن يتجافى كل داعية عن بطرٍ مردٍ أو غرور مطغٍ . وليس عسيرا على كل فرد ينتمي إلى هذه الصحوة المباركة أن يبادر إلى نياته فينشأ منها ما يصلح للعرض على الله تبارك وتعالى ، أو يسارع إلى الفاسد منها فيتداركه بالإصلاح والتنقية ، ويضرع إلى الله تبارك وتعالى أن يرزقه النية الخالصة والعمل الصالح .
|