الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
وذلك لو سأل سائل عن عليل لم يعرف مرضه ما علته وما الموافق لبرئه منه فمر السائل أن يسمى ما شاء من الأشياء على اسم العلة المجهولة لتجعل ذلك الاسم قاعدة لك. ثم استنطق الاسم مع اسم الطالع والعناصر والسائل واليوم والساعة إن أردت التدقيق في المسئلة وإلا اقتصرت على الاسم الذي سماه السائل وفعلت به كما نبين. فأقول مثلاً: سمى السائل فرساً فأثبت الحروف الثلاثة مع أعدادها المنطقة. بيانه: أن للفاء من العدد ثمانين ولها " م ك ي ح ب " ثم الراء لها من العدد مائتان " ق ن ك ى " ثم السين لها من العدد ستون ولها " م ل ك " فالواو عدد تام له " د ج ب " والسين مثله ولها " م ل ك ". فإذا بسطت حروف الأسماء وجدت عنصرين متساويين فاحكم لأكثركما حروفاً بالغلبة على الآخر ثم احمل عدد حروف عناصر اسم المطلوب وحروفه دون بسط وكذلك اسم الطالب واحكم للأكثر والأقوى بالغلبة. وصفة قوى استخراج العناصر. فتكون الغلبة هنا للتراب وطبعه البرودة واليبوسة طبع السوداء فتحكم على المريض بالسوداء. فإذا ألفت من حروف الاستنطاق كلاماً على نسبة تقريبية خرج موضع الوجع في الحلق ويوافقه من الأدوية حقنة ومن الأشربة شراب الليمون. هذا ما خرج من قوى أعداد حروف اسم فرس وهو مثال تقريبي مختصر. وأما استخراج قوى العناصر من الأسما العلمية فهو أن تسمي مثلاً محمداً فترسم أحرفه مقطعة ثم تضع أسماء العناصر الأربعة على ترتيب الفلك يخرج لك ما في كل عنصر من الحروف والعدد. ومثاله. فتجد أقوى هذه العناصر من هذا الاسم المذكور عنصر الماء لأن عدد حروفه عشرون حرفاً فجعلت له الغلبة على بقية عناصر الاسم المذكور وهكذا يفعل بجيم الأسماء. حينئذ تضاف إلى أوتارها أو للوتر المنسوب للطالع في الزايرجة أو لوتر البيت المنسوب لمالك بن وهيب الذي جعله قاعدة لمزج الأسئلة وهو هذا: سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا وهو وتر مشهور لاستخراج المجهولات وعليه كان يعتمد ابن الرقام وأصحابه. وهو عمل تام قائم بنفسه في المثالات الوضعية. وصفة العمل بهذا الوتر المذكور أن ترسمه مقطعاً ممتزجاً بألفاظ السؤال على قانون صنعة التكسير. وعدة حروف هذا الوتر أعني البيت ثلاثة وأربعون حرفاً لأن كل حرف مشدد من حرفين. ثم تحفف ما تكرر عند المزج من الحروف ومن الأصل لكل حرف فضل من المسئلة حرف يماثله وتثبت الفضلين سطراً ممتزجاً بعضه ببعض الحروف. الأول من فضلة القطب والثاني من فضلة السؤال حتى يتم الفضلتان جميعاً فتكون ثلاثة وأربعين فتضيف إليها خمس نونات ليكون ثمانية وأربعين لتعدل بها الموازين الموسيقية ثع تضع الفضلة على ترتيبها فإن كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج يوافق العدد الأصلي قبل الحذف فالعمل صحيح ثم عمر بما مزجت جدولاً مربعاً يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني. وعلى هذا النسق حتى يعود السطر الأول بعينه وتتوالى الحروف في القطر على نسبه الحركة. ثم تخرج وتر كل حرف كما تقدم تضعه مقابلاً لحرفه ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية لتعرف قوتها الطبيعية وموازينها الروحانية وغرائزها النفسانية وأسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك. وصفة استخراج النسب العنصرية هو أن تنظر الحرف الأول من الجدول ما طبيعته وطبيعة البيت الذي حل فيه فإن اتفقت فحسن وإلا فاستخرج بين الحرفين نسبة. ويتسع هذا القانون في جميع الحروف الجدولية. وتحقيق ذلك سهل على من عرف قوانينه كما هو مقرر في دوائرها الموسيقية. ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة كما تقدم. واحذر ما يلي الأوتاد. وكذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة. وهذا الذي يخرج لك هو أول مراتب السريان. ثم تأخذ مجموع العناصر وتحط منها أسوس المولدات يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد وهي عناصر الإمداد يخرج أفق النفس الأوسط. وتطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط. وهذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة. ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى فتحمل عليه أول رتب السريان ثم تطرح من الرابع أول عناصر الإمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان. ثم تضرب مجمرع أجزاء العناصر الأربعه أبداً في رابع رتب السريان يخرج أول عالم التفصيل والثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل وكذلك الثالث والرابع فتجمع عوالم التفصيل وتحط من عالم الكل تبقى العوالم المجردة فتقسم على الأفق الأعلى يخرح الجزء الأول. ومن هنا يطرد العمل في التامة. وله مقامات في كتب ابن وحشية والبوني وغيرهما. وهذا التدبير يجري على القانون الطبيعي الحكمي في هذا الفن وغيره من فنون الحكمة الإلهية وعليه مدار وجمع الزيارج الحرفيه والصنعة الإلهية والنيرجات الفلسفية. واللة الملهم وبه المستعان وعليه التكلان وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهوعلم ينظر في المادة التي يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة ويشرح العمل الذي يوصل إلى ذلك فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها وقواها لعلهم يعثرون على المادة المستعدة لذلك حتى من الفضلات الحيوانية كالعظام والريش والبيض والعذرات فضلاً عن المعادن. ثم يشرح الأعمال التي تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية بالتصعيد والتقطير وجمد الذائب منها بالتكليس وإمهاء الصلب بالقهر والصلابة وأمثال ذلك. وفي زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلها جسم طبيعي يسمونة الإكسير وأنه يلقى منه على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة بالاستعداد القريب من الفعل مثل الرصاص والقصدير والنحاس بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهباً إبريزاً. ويكنون عن ذلك الإكسير إذا ألغزوا اصطلاحاتهم بالروح وعن الجسم الذي يلقى عليه بالجسد. فشرح هذه الاصطلاحات وصورة هذا العمل الصناعي الذي يقلب هذه الأجساد المستعدة إلى صورة الذهب والفضة هو علم الكيمياء. وما زال الناس يؤلقون فيها قديماً وحديثاً. وربما يعزى الكلام فيها إلى من ليس من أهلها. وإمام المدونين فيها جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها: علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز. وزعموا أنه لا يفتح مقفلها إلا من أحاط علماً جميع ما فيها. والطغرائي من حكماء المشرق المتأخرين له فيها دواوين ومناظرات مع أهلها وغيرهم من الحكماء. وكتب فيها مسلمة المجريطي من حكماء الأندلس كتابه الذي سماه رتبة الحكيم وجعله قريناً لكتابه الآخر في السحر والطلسمات الذي سماه غاية الحكيم. وزعم أن هاتين الصناعتين هما نتيجتان للحكمة وثمرتان للعلوم ومن لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم والحكمة أجمع. وكلامه في ذلك الكتاب وكلامهم أجمع في تآليفهم هي ألغاز يتعذر فهمها على من لم يعان اصطلاحاتهم في ذلك. ونحن نذكر سبب عدولهم إلى هذه الرموز والألغاز. ولابن المغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشعر ملغوزة كلها لغز الأحاجي والمعاياة فلا تكاد تفهم. وقد ينسبون للغزالي رحمه الله بعض التآليف فيها وليس بصحيح لأن الرجل لم تكن مداركه العالية لتقف عن خطإ ما يذهبون إليه حتى ينتحله. وربما نسبوا بعض المذاهب والأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم. ومن المعلوم البين أن خالداً من الجيل العربي والبداوة إليه أقرب فهو بعيد عن العلوم والصنائع بالجملة فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات وأمزجتها وكتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات والطب لم تظهر بعد ولم تترجم اللهم إلا أن يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصناعية تشبه باسمه فممكن. وأنا أنقل لك هنا رسالة أبي بكر بن بشرون لأبي السمح في هذه الصناعة وكلاهما من تلاميذ مسلمة فيستدل من كلامه فيها على ما ذهب إليه في شأنها إذا أعطيته حقة من التأمل. قال ابن بشرون بعد صدر من الرسالة خارج عن الغرض: والمقدمات التي لهذه الصناعة الكريمة قد ذكرها الأولون واقتص جميعها أهل الفلسفة من معرفة تكوين المعادن وتخلق الأحجار والجواهر وطباع البقاع والأماكن فمنعنا اشتهارها من ذكرها. ولكن أبين لك من هذه الصنعة ما يحتاج إليه فنبدأ بمعرفته. فقد قالوا: ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولاً ثلاث خصال: أولها هل تكون والثانية من أي تكون والثالثة من أي كيف تكون فإذا عرف هذه الثلاثة وأحكمها فقد ظفر بمطلوبه وبلغ نهايته من هذا العلم. فأما البحث عن وجودها والاستدلال عن تكونها فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير. وأما من أي شيء تكون فإنما يريدون بذلك البحث عن الحجر الذي يمكنه العمل وإن كان العمل موجوداً من كل شي بالقوة لأنها من الطبائع الأربع منها تركبت ابتداءً وإليها ترجع انتهاءً. ولكن من الأشياء ما يكون فيه بالقوة ولا يكون بالفعل وذلك أن منها ما يمكن تفصيلها ومنها ما لا يمكن تفصيلها. فالتي يمكن تفصيلها تعالج وتدبروهي التي تخرج من القوة إلى الفعل والتي لا يمكن تفصيلها لا تعالج ولا تدبر لأنها فيها بالقوة فقط وإنما لم يمكن تفصيلها لاستغراق بعض طبائعها في بعض وفضل قوة الكبير منها على الصغير. فينبغي لك - وفقك الله - أن تعرف أوفق الاحجار المنفصلة التي يمكن فيها العمل وجنسه وقوته وعمله وما يدبرمن الحل والعقد والتنقية والتكليس والتنشيف والتقليب فإن من لم يعرف هذه الاصول التي هي عماد هذه الصنعة لم ينجح ولم يظفر بخيرأبداً. وينبغي لك أن تعلم هل يمكن أن يستعان عليه بغيره أويكتفي به وحده وهل هو واحدٌ في الابتداء أو شاركه غيره فصار في التدبير واحداً فسمي حجرأ. وينبغي لك أن تعلم كيفية عمله وكمية أوزانه وأزمانه وكيف تركيب الروح فيه وإدخال النفس عليه وهل تقدر النارعلى تفصيلها منه بعد تركيبها. فإن لم تقدرفلآي علة وما السبب الموجب لذلك فإن هذا هو المطلوب فافهم. واعلم أن الفلاسفة كلها مدحت النفس وزعمت انها المدبرة للجسد والحاملة له والدافعة عنه والفاعلة فيه. وذلك أن الجسد إذا خرجت النفس منه مات وبرد فلم يقدرعلى الحركة والامتناع من غيره لأنه لا حياة فيه ولا نور. وإنما ذكرت الجسد والنفس لأن هذه الصفات شبيهة بجسد الإنسان الذي تركيبه على الغداء والعشاء وقوامه وتمامه بالنفس الحية النورانية التي بها يفعل العظائم والأشياء المتقابلة التي لا يقدر عليها غيرها بالقوة الحية التي فيها. وإنما انفعل الإنسان لاختلاف تركيب طبائعه ولو اتفقت طبائعه لسلمت من الأعراض والتضاد ولم تقدر النفس على الخروج من بدنه ولكان خالدا باقيا. فسبحان مدبر الأشياء تعالى. واعلم أن الطبائع التي يحدث عنها هذا العمل كيفية دافعة في الابتداء فيضية محتاجة إلى الانتهاء. وليس لها إذا صارت في هذا الحد أن تستحيل إلى ما منه تركبت كما قلناه آنفا في الإنسان لأن طبائع هذا الجوهر قد لزم بعضها بعضاً وصارت شيئاً واحداً شبيها بالنفس في قوتها وفعلها وبالجسد في تركيبه ومجسته بعد أن كانت طبائع مفردة بأعيانها. فيا عجباً من أفاعيل الطبائع أن القوة للضعيف الذي يقوى على تفصيل الأشياء وتركيبها وتمامها فلذلك قلت: قويٌ وضعيف. وإنما وقع التغييروالفناء في التركيب الأول للاختلاف وعدم ذلك في الثاني للاتفاق. وقد قال بعض الأولين: التفصيل والتقطيع في هذا العمل حياة وبقاء والتركيب موتٌ وفناءٌ. وهذا الكلام دقيق المعنى لأن الحكيم أراد بقوله: حياة وبقاء خروجه من العدم إلى الوجود لآنه ما دام على تركيبه الأول فهو فان لا محالة فإذا ركب التركيب الثاني عدم الفناء. والتركيب الثاني لا يكون إلا بعد التفصيل والتقطيع. فإذا التفصيل والتقطيع في هذ العمل خاصة. فإذا بقي الجسد المحلول انبسط فيه لعدم الصورة لأنه قد صار في الجسد بمنزلة النفس التي لا صورة وقد ينبغي لك أن تعلم أن اختلاط اللطيف باللطيف أهون من اختلاط الغليظ بالغليظ وإنما أريد بذلك التشاكل في الأرواح والأجساد لأن الأشياء تتصل بأشكالها. وذكرت لك ذلك لتعلم أن العمل أوفق وأيسر من الطبائع اللطائف الروحانية منها من الغليظة الجسمانية. وقد يتصور في العقل أن الآحجار أقوى وأصبر على النار من الآرواح كما ترى أن الذهب والحديد والنحاس أصبر على النار من الكبريت والزئبق وغيرهما من الارواح. فأقول إن الأجساد قد كانت أرواحا في بدنها فلما أصابها حر الكيان قلبها أجساداً لزجة غليظة فلم تقدر النار على أكلها لإفراط غلظها وتلزجها. فإذا أفرطت النار عليها صيرتها أرواحأ كما كانت أول خلقها. وإن تلك الأرواح اللطيفة إذا اصابتها النار أبقت ولم تقدر على البقاء عليها فينبغي لك أن تعلم ما صير الأجساد في هذه الحالة وصير الآرواح في هذا الحال فهو أجل ما تعرفه. أقول إنما أبقت تلك الأرواح لاشتعالها ولطافتها. وإنما اشتعلت لكثرة رطوبتها ولآن النار إذا أحست بالرطوبة تعلقت بها لأنها هوائية تشاكل النار ولا تزال تغتذي بها إلى أن تفنى. وكذلك الآجساد إذا أحست بوصول النار إليها لقلة تلزجها وغلظها. وإنما صارت تلك الأجساد لا تشتعل لأنها مركبة من أرض وماء صابر على النار فلطيفه متحد بكثيفه لطول الطبخ اللين المازج للأشياء. وذلك أن كل متلاش إنما يتلاشى بالنار لمفارقة لطيفه من كثيفه ودخول بعضه في بعض على غير التحليل والموافقة فصار ذلك الانضمام والتداخل مجاورةً لا ممازجةً فسهل بذلك افتراقهما كالماء والدهن وما أشبههما. وإنما وصفت ذلك لتستدل به على تركيب الطبائع وتقابلها. فإذا علمت ذلك علما شافيا فقد أخذت حظك منها. وينبغي لك أن تعلم أن الأخلاط التي هي طبائع هذه الصناعة موافقة بعضها لبعض مفصلة من جوهر واحد يجمعها نظام واحد بتدبير واحد لا يدخل عليه غريب في الجزء منه ولا في الكل كما قال الفيلسوف: إنك إذا أحكمت تدبير الطبائع وتأليفها ولم تدخل عليها غريبا فقد أحكمت ما أردت إحكامه وقوامه إذ الطبيعة واحدة لا غريب فيها فمن أدخل عليها غريبأ فقد زاغ عنها ووقع في الخطإ. واعلم أن هذه الطبيعة إذا حل بها جسد من قرائنها على ما ينبغي في الحل حتى يشاكلها في الرقة واللطافة انبسطت فيه وجرت معه حيثما جرى لأن الأجساد ما دامت غليظة جافية لا تنبسط ولا تتزاوج وحل الأجساد لا يكون بغير الآرواح. فافهم هداك الله هذا القول. واعلم هداك الله ان هذا الحل في جسد الحيوان هو الحق الذي لا يضمحل ولا ينتقض وهو الذي يقلب الطبائع ويمسكها ويظهر لها ألوانأ وأزهارا عجيبة. وليس كل جسد يحل خلاف هذا هو الحل التام لأنه مخالف للحياة وإنما حله بما يوافقه ويدفع عنه حرق النار حتى يزول عن الغلظ وتنقلب الطبائع عن حالاتها إلى ما لها أن تنقلب من اللطافة والغلظ. فإذا بلغت الأجساد نهايتها من التحليل والتلطيف ظهرت لها هنالك قوة تمسك وتغوص وتقلب وتنفذ. وكل عمل لا يرى له مصداق فى أوله فلا خيرفيه. واعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء ويعقد رطوبتها والحار منها يظهر رطوبتها ويعقد يبسها وإنما أفردت الحر والبرد لآنهما فاعلان والرطوبة واليبس منفعلان وعلى انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الآجسام وتتكون وإن كان الحر أكثر فعلاً في ذلك من البرد لأن البرد ليس له نقل الآشياء ولا تحركها والحر هو علة الحركة. ومتى ضعفت علة الكون وهو الحرارة لم يتم منها شيء أبداً كما أنه إذا أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثم بردٌ أحرقته وأهلكته. فمن أجل هذه العلة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كل ضد على ضده ويدفع عنه حر النار. ولم يحذر الفلاسفة أكثر شيء إلا من النيران المحرقة. وأمرت بتطهير الطبائع والأنفاس وإخراج دنسها ورطوبتها ونفى آفاتها وأوساخها عنها وعلى ذلك استقام رأيهم وتدبيرهم فإنما عملهم إنما هو مع النار أولاً وإليها يصير آخراً فلذلك قالوا: إياكم! والنيران المحرقات وإنما أرادوا بذلك نفي الآفات التي معها فتجمع على الجسد آفتين فتكون أسرع لهلاكه. وكذلك كل شىء إنما يتلاشى ويفسد من ذاته لتضاد طبائعه واخلافه فيتوسط بين شيئين فلم يجد ما يقويه ويعينه إلا قهرته الآفة وأهلكته. واعلم أن الحكماء كلها ذكرت ترداد الأرواح على الأجساد مرارا ليكون ألزم إليها وأقوى على قتال النار إذا هي باشرتها عند الألفة أعني بذلك النار العنصرية فاعلمه. ولنقل الآن على الحجر الذي يمكن منه العمل على ما ذكرته الفلاسفة فقد اختلفوا فيه. فمنهم من زعم أنه في الحيوان ومنهم من زعم أنه في النبات ومنهم من زعم أنه في المعادن ومنهم من زعم أنه في الجميع. وهذه الدعاوى ليست بنا حاجة إلى استقصائها ومناظرة أهلها عليها لأن الكلام يطول جدا. وقد قلت فيما تقدم: إن العمل يكون في كل شيء بالقوة لأن الطبائع موجودة في كل شيء فهوكذلك فنريد أن تعلم من أي شي يكون العمل بالقوة والفعل فنقصد إلى ما قاله الحراني إن الصبغ كله احد صبغين: إما صبغ جسد كالزعفران في الثوب الأبيض حتى يحول فيه وهو مضمحل منتقض التركيب والصبغ الثاني تقليب الجوهرمن جوهر نفسه إلى جوهر غيره ولونه كتقليب الشجر بل التراب إلى نفسه وقلب الحيوان والنبات إلى نفسه حتى يصير التراب نباتأ والنبات حيوانا ولا يكون إلا بالروح الحي والكيان الفاعل الذي له توليد الأجرام وقلب الأعيان. فإذا كان هذا هكذا فنقول: إن العمل لا بد أن يكون إما في الحيوان وإما في النبات وبرهان ذلك أنهما مطبوعان على الغذاء وبه قوامهما وتمامهما. فأما النبات فليس فيه ما في الحيوان من اللطافة والقوة ولذلك قل خوض الحكماء فيه. وأما الحيوان فهو آخر الاستحالات الثلاث ونهايتها وذلك أن المعدن يستحيل نباتاً والنبات يستحيل حيواناً والحيوان لا يستحيل إلى شيء هو ألطف منه إلا أن ينعكس راجعاً إلى الغلظ وأنه أيضاً لا يوجد في العالم شيء تتعلق به الروح الحية غيره والروح ألطف ما في العالم ولم تتعلق الروح بالحيوان إلا بمشاكلته إياها. فأما الروح التي في النبات فإنها يسيرة فيها غلظ وكثافة وهي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه لغلظها وغلظ جسد النبات فلم يقدر على الحركة لغلظه وغلظ روحه. والروح المتحركة ألطف من الروح الكامنة كثيراً وذلك أن المتحركة لها قبول الغذاء والتنقل والتنفس وليس للكامنة غيرقبول الغذاء وحده. ولا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض عند الماء. كذلك النبات عند الحيوان فالعمل في الحيوان أعلى وأرفع وأهون وأيسر. فينبغي للعاقل إذا عرف ذلك أن يجرب ما كان سهلا ويترك ما يخشى فيه عسراً. واعلم أن الحيوان عند الحكماء ينقسم أقساماً من الآمهات التي هي الطبائع والحديثة التي هي المواليد وهذا معروث متيسر الفهم. فلذلك قسمت الحكماء العناصر والمواليد أقساماً حيةً وأقساماً ميتةً فجعلوا كل متحرك فاعلًا حياً وكل ساكن مفعولاً ميتاً. وقسموا ذلك في جميع الأشياء وفي الأجساد الذائبة وفي العقاقير المعدنية فسموا كل شيء يذوب في النارويطير ويشتعل حياً وما كان على خلاف ذلك سموه ميتا. فأما الحيوان والنبات فسموا كل ما انفصل منها طبائع أربعاً حياً وما لم ينفصل سموه ميتاً ثم إنهم طلبوا جميع الأقسام الحية. فلم يجدوا لوفق هذه الصناعة مما ينفصل فصولًا أربعةً ظاهرةً للعيان ولم يجدوا غير الحجر الذي في الحيوان فبحثوا عن جنسه حتى عرفوه وأخذوه ودبروه فتكيف لهم منه الذي أرادوا. وقد يتكيف مثل هذا في المعادن والنبات بعد جمع العقاقير وخلطها ثم تفصل بعد ذلك. فأما النبات فمنه ما ينفصل ببعض هذه الفصول مثل الآشنان وأما المعادن ففيها أجساد وأرواح وأنفاس إذا مزجت ودبرت كان منها ما له تأثير. وقد دبرنا كل ذلك فكان الحيوان منها أعلى وأرفع وتدبيره أسهل وأيسر. فينبغي لك أن تعلم ما هو الحجر الموجود في الحيوان وطريق وجوده. إنا بينا أن الحيوان أرفع المواليد وكذا ما تركب منه فهو ألطف منه كالنبات من الأرض. وإنما كان النبات ألطف من الآرض لأنه إنما يكون من جوهره الصافي وجسمه اللطيف فوجب له بذلك اللطافة والرقة. وكذا هذا الحجر الحيواني بمنزلة النبات في التراب. وبالجملة فإنه ليس في الحيوان شيء ينفصل طبائع أربعاً غيره. فافهم هذا القول فإنه لا يكاد يخفى إلا على جاهل بين الجهالة ومن لا عقل له. فقد أخبرتك ماهية هذا الحجر وأعلمتك وأنا أبين لك وجوه تدابيره حتى يكمل الذي شرطناه على أنفسنا من الإنصاف إن شاء الله سبحانه. التدبير على بركة الله: خذ الحجر الكريم فأودعه القرعة والإنبيق وفصل طبائعه الأربع التي هي النار والهواء والأرض والماء وهي الجسد والروح والنفس والصبغ. فإذا عزلت الماء عن التراب والهواء عن النار فارفع كل واحد في إنائه على حدة وخذ الهابط أسفل الإناء وهو الثفل فاغسله بالنار الحارة حتى تذهب النار عنه سواده ويزول غلظه وجفاؤه وبيضه تبييضاً محكماً وطير عنه فضول الرطوبات المستجنة فيه فإنه يصير عند ذلك ماء أبيض لا ظلمة فيه ولا وسخ ولا تضاد. ثم اعمد إلى تلك الطبائع الاول الصاعدة منه فطهرها أيضاً من السواد والتضاد وكرر عليها الغسل والتصعيد حتى تلطف وترق وتصفو. فإذا فعلت ذلك فقد فتح الله عليك فابدأ بالتركيب الذي عليه مدار العمل. وذلك أن التركيب لا يكون إلا بالتزويج والتعفين: فأما التزويج فهو اختلاط اللطيف بالغليظ وأما التعفين فهو التمشية والسحق حتى يختلط بعضه ويصير شيئاً واحداً لا اختلاف فيه ولا نقصان بمنزلة الامتزاج بالماء. فعند ذلك يقوى الغليظ على إمساك اللطيف وتقوى الروح على مقابلة النار وتصبر عليها وتقوى النفس على الغوص في الأجساد والدبيب فيها. وإنما وجد ذلك بعد التركيب لأن الجسد المحلول لما ازدوج بالروح مازجه بجميع أجزائه ودخل بعضها في بعض لتشاكلها فصار شيئاً واحداً ووجب من ذلك أن يعرض للروح من الصلاح والفساد والبقاء والثبوت ما يعرض وكذلك النفس إذا امتزجت بهما ودخلت فيهما بخدمة التدبير اختلطت أجزاؤها بجميع أجزاء الآخرين أعني الروح والجسد وصارت هي وهما شيئاً واحداً لا اختلاف فيه بمنزلة الجزء الكلي الذي سلمت طبائعه واتفقت أجزاؤه. فإذا لقي هذا المركب الجسد المحلول وألح عليه النار وأظهر ما فيه من الرطوبة على وجهه ذاب في الجسد المحلول. ومن شأن الرطوبة الاشتعال وتعلق النار بها فإذا أرادت النار التعلق بها منعها من الأتحاد بالنفس ممازجة الماء لها. فإن النار لا تتحد بالذهن حتى يكون خالصاً. وكذلك الماء من شأنه النفور من النار. فإذا ألحت عليه النار وأرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه فمنعه من الطيران فكان الجسد علة لإمساك الماء والماء علة لبقاء الذهن والدهن علة لثبات الصبغ والصبغ علة لظهور الدهن وإظهار الدهنية في الأشياء المظلمة التي لا نور لها ولا حياة فيها. فهذا هو الجسد المستقيم وهكذا يكون العمل. وهذه التصفية التي سألت عنها وهي التي سمتها الحكماء بيضة وإياها يعنون لا بيضة الدجاج. واعلم أن الحكماء لم تسمها بهذا الاسم لغير معنى بل اشبهتها. ولقد سألت مسلمة عن ذلك يوماً وليس عنده غيري فقلت له: أيها الحكيم الفاضل أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة أختياراً منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه فقال: بل لمعنى غامض! فقلت: ايها الحكيم وما ظهر لهم من ذلك من المنفعة والاستدلال على الصناعة حتى شبهوها وسموها بيضة فقال لشبهها وقرابتها من المركب ففكر فيه فإنه سيظهر لك معناه. فبقيت بين يديه مفكراً لا أقدر على الوصول إلى معناه. فلما رأى ما بي من المكر وأن نفسي قد مضت فيها أخذ بعضدي وهزني هزة خفيفة وقال لي: يا أبا بكر ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند امتزاج الطبائع وتأليفها. فلما قال ذلك انجلت عني الظلمة وأضاء لي نور قلبي وقوي عقلي على فهمه. فنهضت شاكراً لله عليه إلى منزلي وأقمت على ذلك شكلاً هندسياً يبرهن به على صحة ما قاله مسلمة. وأنا واضعه لك في هذا الكتاب. مثال ذلك أن المركب إذا تم وكمل كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء كنسبة ما في المركب من طبيعة النار إلى ما في البيضة من طبيعة النار وكذلك الطبيعتان الآخريان: الأرض والماء فأقول: إن كل شيئين متناسبين على هذه الصفة فهما متشابهان. ومثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزوح فإذا أردنا ذلك فإنا نأخد أقل طبائع المركب وهي طبيعة اليبوسة ونضيف إليها مثلها من طبيعة الرطوبة وندبرهما حتى تنشف طبيعة اليبوسة طبيعة الرطوبة وتقبل قوتها. وكأن في هذا الكلام رمزاً ولكنه لا يخفى عليك. ثم تحمل عليهما جميعاً مثليهما من الروح وهو الماء فيكون الجميع ستة أمثال ثم تحمل على الجميع بعد التدبير مثلاً من طبيعة الهواء التي هي النفس وذلك ثلاثة أجزاء فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوة. وتجعل تحت كل ضلعين من المركب الذي طبيعته محيطة بسطح المركب طبيعتين فتجعل أولاً الضلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء وطبعة الهواء وهما ضلعا " ا ح د " وسطح أبجد وكذلك الضلعان المحيطان بسطح البيضة اللذان هما الماء والهواء ضلعا هزوح فأقول: إن سطح أبجد يشبه سطح هزوح طبيعة الهواء التي تسمى نفساً وكذلك " بج " من سطح المركب. والحكماء لم تسم شيئاً باسم شيء إلا لشبهه به. والكلمات التي سألت عن شرحها الأرض المقدسة وهي المنعقدة من الطبائع العلوية والسفلية. والنحاس هو الذي أخرج سواده وقطع حتى صار هباء ثم حمر بالزاج حتى صار نحاسياً والمغنيسيا حجرهم الذي تجمد فيه الأرواح. وتخرجه الطبيعة العلوية التي تستجن فيها الأرواح لتقابل عليها النار والفرفرة لون أحمر فإن يحدثه الكيان. والرصاص حجر ثلاث قوى مختلفة الشخوض ولكنها متشاكلة ومتجانسة. فالواحدة روحانية نيرة صافية وهي الفاعلة والثانية نفسانية وهي متحركة حساسة غير أنها أغلظ من الأولى ومركزها دون مركز الأولى والثالثة قوة أرضية حاسة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها وهي الماسكة الروحانية والنفسانية جميعاً والمحيطة بهما. وأما سائر الباقية فمبتدعة ومخترعة إلباساً على الجاهل ومن عرف المقدمات استغنى عن غيرها. فهذا جميع انتهى كلام ابن بشرون وهو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطي شيخ الأندلس في علوم الكيميا والسيمياء والسحر في القرن الثالث وما بعده. وانت ترى كيف صرف ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الرمز والألغاز التي لا تكاد تبين ولا تعرف وذلك دليل على أنها ليست بصناعة طبيعية. والذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء وهو الحق الذي يعضده الواقع أنها من جنس آثار النفوس الروحانية وتصرفها في عالم الطبيعة: إما من نوع الكرامة إن كانت النفوس خيرة أو من نوع السحر إن كانت النفوس شريرة فاجرة. فأما الكرامة فظاهرة وأما السحر فلأن الساحر كما ثبت في مكان تحقيقه يقلب الأعيان المادية بقوته السحرية. ولا بد له مع ذلك عندهم من مادة يقع فعله السحري فيها كتخليق بعض الحيوانات من مادة التراب أو الشجر والنبات وبالجملة من غير مادتها المخصوصة بها كما وقع لسحرة فرعون في الحبال والعصي وكما ينقل عن سحرة السودان والهنود في قاصية الجنوب والترك في قاصية الشمال أنهم يسحرون الجو للأمطار وغير ذلك. ولما كانت هذه تخليقاً للذهب في غير مادته الخاصة به كان من قبيل السحر والمتكلمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر ومسلمة. ومن كان قبلهم من حكماء الأمم إنما نحوا هذا المنحى ولهذا كان كلامهم فيه ألغازاً حذراً عليها من إنكار الشرائع على السحر وأنواعه لا أن ذلك يرجع إلى الصنانة بها كما هو رأي من لم يذهب إلى التحقيق في ذلك. وانظر كيف سمى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم وسمى كتابه في السحر والطلسمات غاية الحكيم إشارة إلى عموم موضوع الغاية وخصوص موضوع هذه لأن الغاية أعلى من الرتبة فكان مسائل الرتبة بعض من مسائل الغاية وتشاركها في الموضوعات. ومن كلامه في الفنين يتبين ما قلناه ونحن نبين فيما بعد غلط من يزعم أن مدارك هذا الأمر بالصناعة الطبيعية. والله العليم الخبير.
|