الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.(الشرطة): ويسمى صاحبها لهذا العمل بأفريقية الحاكم وفي دولة أهل الأندلس صاحب المدينة وفي دولة الترك الوالي وهي وظيفة مرؤوسة لصاحب السيف في الدولة وحكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان وكان أصل وضعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال اسبدادها أولا ثم الحدود بعد استيفائها فإن التهم التي تعرض في الجرائم لا نظر للشرع إلا في استيفاء حدودها وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك فكان الذي يقوم بهذا الاستبداد وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة وربما جعلوا إليه النظر في الحدود والدماء بإطلاق وأفردوها من نظر القاضي ونزهوا هذه المرتبة وقلدوها كبار القواد وعظماء الخاصة من مواليهم ولم تكن عامة التنفيذ في طبقات الناس إنما كان حكمهم على الدماء وأهل الريب والضرب على أيدي الرعاع والفجرة ثم عظمت نباهتها في دولة بني أمية بالأندلس ونوعت إلى شرقي كبرى وشرطة صغرى وجعل حكم الكبرى على الخاصة والدماء وجعل له الحكم على أهل المراتب السلطانية والضرب على أيديهم في الظلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليه من أهل الجاه وجعل صاحب الصغرى مخصوصا بالعامة ونصب لصاحب الكبرى كرسي بباب دار السلطان ورجال يتبوؤن المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة حتى كانت ترشيحا للوزارة والحجابة.وأما في دولة الموحدين بالمغرب فكان لها حظ من التنويه إن لم يجعلوها عامة وكان لا يليها إلا رجالات الموحدين وكبراؤهم ولم يكن له التحكم على أهل المراتب السلطانية ثم فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين وأما في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت مواليه وأهل اصطناعهم وفي دولة الترك بالمشرق في رجالات الترك أو أعقاب أهل الدولة قبلهم من الترك يتخيرونهم لها في النظر بما يظهر منهم من الصلابة والمضاء في الأحكام لقطع مواد الفساد وحسم أبواب الدعارة وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشرعية والسياسة كما تقتضيه رعاية المصالح العامة في المدينة والله مقلب الليل والنهار وهو العزيز الجبار والله تعالى أعلم..(قيادة الأساطيل): وهي من مراتب الدولة وخططها في ملك المغرب وأفريقية ومرؤسة لصاحب السيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال ويسمى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللام منقولا من لغة الإفرنجة فإنه اسمها في اصطلاح لغتهم وإنما اختصت هذه المرتبة بملك أفريقية والمغرب لأنهما جميعا على ضفة البحر الرومي من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبية بلاد البربر كلهم من سبتة إلى الشام وعلى عدوته الشمالية بلاد الأندلس والإفرنجة والصقالبة والروم إلى بلاد الشام أيضا ويسمى البحر الرومي والبحر الشامي نسبة إلى أهل عدوته والساكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله مالا تعانيه أمة من أمم البحار فقد كانت الروم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله ولما أسف من أسف منهم إلى تلك العدوة الجنوبية مثل الروم إلى أفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا في الأساطيل وملكوها وتغلبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة وكان صاحب قرطاجنة من قبليهم يحارب صاحب رومة ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والمدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث ولما ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن (صف لي البحر) فكتب إليه: (إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود) فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه ولم يركبه أحد من العرب إلا من افتات على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزدي سيد بجيلة لما أغزاه عمال فبلغه غزوه في البحر فأنكر عليه وعنفه أنه ركب البحر للغزو ولم يزل الشأن ذلك حتى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده والسبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه والروم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدراية بثقافته فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته واستحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشأوا السفن فيه والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشام وأفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عند الملك إلى حسان بن النعمان عامل أفريقية باتخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرة أيضا في أيامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلية أيام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات وكانت من بعد ذلك أساطيل أفريقية والأندلس في دولة العبيديين والأمويين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السواحل بالإفساد والتخريب وانتهي أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها وأسطول أفريقية كذلك مثله أو قريبا منه وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس ومرفأها للخط والإقلاع بجاية والمرية وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كل بلد تتخذ فيه السفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته ورئيس يدبر أمر جزيته بالريح أو بالمجاذيف وأمر إرسائه في مرفئه فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلهم إليه ثم يسرحهم لوجههم وينتظر إيابهم الفتح والغنيمة وكان المسلمون لعهده الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشي من جوانبه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرص وسائر ممالك الروم والإفرنج وكان أبو القاسم الشيعي وأبناوه يغزون أساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة فتنقلب بالظفر والغنيمة وافتتح مجاهد العامري صاحب دانية من ملوك الطوائف جزيرة سردانية في أساطيل سنة خمس وأربعمائة وارتجعها النصارى لوقتها والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على كثير من لجة هذا البحر وصارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة والعساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم كما وقع في أيام بني الحسين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجالب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها وأساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد على فريسته وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعددا واختلفت في طرقه سلما وحربا فلم تظهر للنصرانية فيه ألواح حتى إذا أدرك الدولة العبيدية والأموية الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مد النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة فملكوها ثم ألحوا على سواحل الشام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكاء واستولوا على جميع الثغور بسواحل الشام وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لمظهر دينهم وعبادتهم وغلبوا بني خزرون على طرابلس ثم على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العبيديين من يد أعقاب بلكين بن زيري وكانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو تجاوزت في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بأفريقية والمغرب فصارت مختصة بها وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة لم يتحيفه عدو ولا كانت لهم به كرة فكال قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعا ولما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف وأعظم ما عهد وكان قائد أسطولهم أحمد الصقلي أصله من صد غيار الموطنين بجزيرة جربة من سرويكش أسرة النصارى من سواحلها وربي عندهم واستخلصه صاحب صقلية واستكفاه ثم هلك وولي الجنة فأسخطه ببعض النزعات وخشي على نفسه ولحق بتونس ونزل على السند بها من بنى عبد المؤمن وأجاز مراكش فتلقاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرة والكرامة وأجزل الصلة وقلده أمر أساطيله فجلى في جهاد أمم النصرانية وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحدين وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه ولما قام صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام لعهده باسترجاع ثغور الشام من يد أمم النصرانية وتطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثغور من كل ناحية قريبة لبيت المقدس الذي كانوا قد استولوا عليه فأمدوهم بالعدد والأقوات ولم تقاومهم أساطيل الإسكندرية لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشرقي من البحرية وتعدد أساطيلهم فيه وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل فأوفد صلاح الدين على أبي يعقوب فمنصور سلطان المغرب لعهده من الموحدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من ملوك بني منقذ ملوك شيزر وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث عند الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالبا مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من أمداد النصرانية بثغور الشام وأصحبه كتابة إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيساني يقول في افتتاحه (فتح الله لسيدنا أبواب المناحج والميامن) حسبما نقله العماد الأصفهاني في كتاب الفتح القيسي فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرها في نفسه وحملهم على مناهج البر والكرامة وردهم إلى مرسلهم ولم يجبه إلى حاجته من ذلك وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنصرانية في الجانب الشرقي من هذا البحر من الاستطالة وعدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة ولما هلك أبو يعقوب المنصور واعتلت دولة الموحدين واستولت أمهم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجأوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي في من البحر الرومي قويت ريحهم في بسيط هذا البحر واشتدت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإن أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدة النصرانية وعديدهم ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع الموائد الأندلسية ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجته على أعواده وصار المسلمون فيه كالأجانب إلا قليلا من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأنصار والأعوال أو قلة من الدولة تستجيش لهم أعوانا وترضع لهم في هذا الغرض مسلكا وبقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة الغربية محفوظة والرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والركوب مهودا لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية والمسلمون يستهبون الريح على الكفر وأهله فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة وأن ذلك يكون في الأساطيل والله ولي المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
|