الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***
وَأَمَّا بَيَانُ الْحِيلَةِ في إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ حِيَلًا بَعْضُهَا يَعُمُّ الشُّفَعَاءَ كُلَّهُمْ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَمَّا الذي يَعُمُّ كُلَّ الشُّفَعَاءِ فَنَحْوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّارَ بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهَا بِأَنْ كانت قِيمَتُهَا أَلْفًا فَيَشْتَرِيهَا بِأَلْفَيْنِ وَيَنْقُدَ من الثَّمَنِ أَلْفًا إلَّا عَشَرَةً ثُمَّ يَبِيعَ الْمُشْتَرِي من الْبَائِعِ عَرَضًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ فَتَحْصُلُ الدَّارُ لِلْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ لَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ إلَّا بِأَلْفَيْنِ وَهَذِهِ الْحِيلَةُ لَيْسَتْ بِمُسْقِطَةٍ لِلشُّفْعَةِ شَرْعًا لَكِنَّهَا مَانِعَةٌ من الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِأَلْفَيْنِ وَيَلْتَزِمَ الضَّرَرَ وَأَمَّا الذي يَخُصُّ بَعْضَ الشُّفَعَاءِ دُونَ بَعْضٍ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَبِيعَ دَارًا إلَّا ذِرَاعًا منها في طُولِ الْحَدِّ الذي يَلِي دَارَ الشَّفِيعِ فَالشَّفِيعُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ إما في قَدْرِ الذِّرَاع فَلِانْعِدَامِ الشَّرْطِ وهو الْبَيْعُ وإما فِيمَا وَرَاءَ ذلك فَلِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو الْجِوَارُ وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَ الْبَائِعُ الْحَائِطَ الذي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَارِ مع أَصْلِهِ لِلْمُشْتَرِي مَقْسُومًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ أو يَهَبَ له من الْأَرْضِ قَدْرَ ذِرَاعٍ من الْجَانِبِ الذي يَلِي دَارَ الشَّفِيعِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ يَبِيعَ منه الْبَقِيَّةَ بِالثَّمَنِ فَلَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ لَا في الْمَوْهُوبِ وَلَا في الْمَبِيعِ أَمَّا في الْمَوْهُوبِ فَلِانْعِدَامِ شَرْطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ وهو الْبَيْعُ وَأَمَّا في الْمَبِيعِ فَلِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو الْجِوَارُ وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ نِصْفَيْنِ فَيَبِيعَ الْحَائِطَ بِأَصْلِهِ أَوَّلًا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ ثُمَّ يَبِيعَ بَقِيَّةَ الدَّارِ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ شَرْعًا فِيمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو الْجِوَارُ وَلَا يَأْخُذُ الْحَائِطَ عَادَةً لِكَثْرَةِ الثَّمَنِ. وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ وَالْأَرْضَ في صَفْقَتَيْنِ فَيَبِيعَ من الدَّارِ بِنَاهَا وَمِنْ الْأَرْضِ أَشْجَارَهَا أَوَّلًا بِثَمَنٍ قَلِيلٍ ثُمَّ يَبِيعُ الْأَرْضَ بِثَمَنٍ كَثِيرٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ في الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ شَرْعًا لِانْفِرَادِهِمَا بِالصَّفْقَةِ وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ عَادَةً لِيَضْمَنَ تَكْثِيرَ الثَّمَنِ وَمِنْهَا أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ نِصْفَيْنِ فَيَبِيعُ عُشْرًا منها بِثَمَنٍ كَثِيرٍ ثُمَّ يَبِيعَ الْبَقِيَّةَ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ فَلَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْعُشْرَ بِثَمَنِهِ عَادَةً لِمَا فيه من الضَّرَرِ وَلَا شُفْعَةَ له في تِسْعَةِ أَعْشَارِهَا شَرْعًا لِأَنَّهُ حين اشْتَرَى الْبَقِيَّةَ كان شَرِيكَ الْبَائِعِ بِالْعُشْرِ وَالشَّرِيكُ في الْبُقْعَةِ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ وَالْخَلِيطِ وَهَذَا النَّوْعُ من الْحِيلَةِ لَا يَصْلُحُ لِلشَّرِيكِ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إذَا كان شَرِيكًا له أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْبُقْعَةِ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ أَيْضًا وَلَوْ كانت الدَّارُ لِصَغِيرٍ فَلَا تُبَاعُ بَقِيَّةُ الدَّارِ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذْ هو بَيْعُ مَالِ الصَّغِيرِ بِأَقَلَّ من قِيمَتِهِ مِقْدَارُ ما يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ عَادَةً وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ ذلك فَالسَّبِيلُ فيه أَنْ تُبَاعَ بَقِيَّةُ الدَّارِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ وَمِنْهَا ما ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُقِرَّ الْبَائِعُ بِسَهْمٍ من الدَّارِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَبِيعَ بَقِيَّةَ الدَّارِ منه فَلَا يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ أَمَّا في الْقَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ فَلِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاسْتِحْقَاقِ وهو الْبَيْعُ وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذلك فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكَ الْبَائِعِ في ذلك السَّهْمِ وَالشَّرِيكُ في الْبُقْعَةِ مُقَدَّمٌ على الْجَارِ وَالْخَلِيطِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من كان يُفْتِي بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ في هذه الصُّورَةِ ويخطىء [ويخطئ] الْخَصَّافَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في السَّهْمِ الْمُقَرِّ بِهِ لم تَثْبُتْ إلَّا بإقراره [بإقرار] فَلَا يَظْهَرُ في حَقِّ الشَّفِيعِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ في كَرَاهَةِ الْحِيلَةِ لِلْإِسْقَاطِ وَعَدَمِهَا فَالْحِيلَةُ أما إنْ كانت بَعْدَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ وأما إنْ كانت قبل الْوُجُوبِ فَإِنْ كانت بَعْدَ الْوُجُوبِ قِيلَ إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ صَالَحْتُكَ على كَذَا كَذَا دِرْهَمًا على أَنْ تُسَلِّمَ لي شُفْعَتَكَ فَيَقْبَلَ فَتَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَا يَسْتَحِقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ أو يَقُولَ له اشْتَرِ الدَّارَ مِنِّي بِكَذَا فَيَقُولَ اشْتَرَيْتُ فَتَبْطُلَ شُفْعَتُهُ وَنَحْوُ ذلك وَإِنْ كانت قبل الْوُجُوبِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُكْرَهُ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تُكْرَهُ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن شَرْعَ الْحِيلَةِ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ باب الشُّفْعَةِ وَفِيهِ إبْطَالُ هذا الْحَقِّ أَصْلًا وَرَأْسًا وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن الْحِيلَةَ قبل الْوُجُوبِ مَنْعٌ من الْوُجُوبِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا وَهَذَا جَائِزٌ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ فإن الْمُشْتَرِيَ يَمْنَعُ حُدُوثَ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ في الْمَبِيعِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا وهو الشِّرَاءُ وَكَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَسَائِرُ التَّمْلِيكَاتِ وقد خُرِّجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا إبْطَالٌ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ إبْطَالَ الشَّيْءِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ضَرَرٌ وَالْحَقُّ هَهُنَا لم يَثْبُتْ بَعْدَ ذلك فَلَا تَكُونُ الْحِيلَةُ إبْطَالًا له بَلْ هو مَنْعٌ من الثُّبُوتِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا وَأَنَّهُ جَائِزٌ فما ذَكَرَهُ أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هو الْحُكْمُ المر [المروي] وما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتِيَاطًا وَالْأَصْلُ في شَرْعِ الْحِيلَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قِصَّةِ سَيِّدِنَا أَيُّوبَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
نَحْتَاجُ في هذا الْكتاب إلَى بَيَانِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ من الْحَيَوَانَاتِ وَإِلَى بَيَانِ الْمَكْرُوهِ منها وَإِلَى بَيَانِ شَرَائِطِ حِلِّ الْأَكْلِ في الْمَأْكُولِ وَإِلَى بَيَانِ ما يَحْرُمُ أَكْلُهُ من أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَيَوَانُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَعِيشُ في الْبَحْرِ وَنَوْعٌ يَعِيشُ في الْبَرِّ أَمَّا الذي يَعِيشُ في الْبَحْرِ فَجَمِيعُ ما في الْبَحْرِ من الْحَيَوَانِ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ إلَّا السَّمَكَ خَاصَّةً فإنه يَحِلُّ أَكْلُهُ إلَّا ما طَفَا منه وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ وقال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وابن أبي لَيْلَى رَحِمَهُمُ اللَّهُ أنه يَحِلُّ أَكْلُ ما سِوَى السَّمَكِ من الضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ وَحَيَّةِ الْمَاءِ وَكَلْبِهِ وَخِنْزِيرِهِ وَنَحْوِ ذلك لَكِنْ بِالذَّكَاةِ وهو قَوْلُ اللَّيْثِ بن سَعْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا في إنْسَانِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ جَمِيعُ ذلك من غَيْرِ ذَكَاةٍ وَأَخْذُهُ ذَكَاتَهُ وَيَحِلُّ أَكْلُ السَّمَكِ الطَّافِي أَمَّا الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَهُمْ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وَاسْمُ الصَّيْدِ يَقَعُ على ما سِوَى السَّمَكِ من حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ حَلَالًا وَبِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم حين سُئِلَ عن الْبَحْرِ فقال هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ وَصَفَ مَيْتَةَ الْبَحْرِ بِالْحِلِّ من غَيْرِ فصل بين السَّمَكِ وَغَيْرِهِ وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} من غَيْرِ فصل بين الْبَرِّيِّ وَالْبَحْرِيِّ وَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ: {وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ} وَالضُّفْدَعُ وَالسَّرَطَانُ وَالْحَيَّةُ وَنَحْوُهَا من الْخَبَائِثِ. وَرُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن ضُفْدَعٍ يُجْعَلُ شَحْمُهُ في الدَّوَاءِ فَنَهَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن قَتْلِ الضَّفَادِعِ وَذَلِكَ نهى عن أَكْلِهِ وروى أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عنه فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَبِيثَةٌ من الْخَبَائِثِ» وَلَا حُجَّةَ لهم في الْآيَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ من الصَّيْدِ الْمَذْكُورِ هو فِعْلُ الصَّيْدِ وهو الِاصْطِيَادُ لِأَنَّهُ هو الصَّيْدُ حَقِيقَةً لَا الْمِصْيَدُ لِأَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلِ الصَّيْدِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْفِعْلِ يَكُونُ مَجَازًا وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عن حَقِيقَةِ اللَّفْظِ من غَيْرِ دَلِيلٍ وَلِأَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمَا يَتَوَحَّشُ وَيَمْتَنِعُ وَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ إمَّا لِطَيَرَانِهِ أو لِعَدْوِهِ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ حَالَةَ الِاصْطِيَادِ لَا بَعْدَ الْأَخْذِ لِأَنَّهُ صَارَ لَحْمًا بَعْدَهُ ولم يَبْقَ صَيْدًا حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ مَعْنَى الصَّيْدِ وهو التَّوَحُّشُ وَالِامْتِنَاعُ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ عُطِفَ عليه قَوْلُهُ عز شَأْنُهُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا} وَالْمُرَادُ منه الِاصْطِيَادُ من الْمُحْرِمِ لَا أَكْلُ الصَّيْدِ لِأَنَّ ذلك مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ إذَا لم يَصْطَدْهُ بِنَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ في الْآيَةِ على إبَاحَةِ الْأَكْلِ بَلْ خَرَجَتْ لِلْفصل بين الِاصْطِيَادِ في الْبَحْرِ وَبَيْنَ الِاصْطِيَادِ في الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُرَادُ من قَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ السَّمَكُ خَاصَّةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ فُسِّرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ منها السَّمَكُ وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ على السَّمَكِ وَتَخْصِيصِهِ بِمَا تَلَوْنَا من الْآيَةِ وَرَوَيْنَا من الْخَبَرِ وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الطَّافِي فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ ما صِيدَ منه وما لم يُصَدْ وَالطَّافِي لم يُصَدْ فَيَتَنَاوَلُهُ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في صِفَةِ الْبَحْرِ هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ وَأَحَقُّ ما يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَيْتَةِ الطَّافِي لِأَنَّهُ الْمَيِّتُ حَقِيقَةً وَبِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ الْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ فَسَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم الْمَيْتَةَ بِالسَّمَكِ من غَيْرِ فصل بين الطَّافِي وَغَيْرِهِ. وَلَنَا ما روى عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رضي اللَّهُ عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن أَكْلِ الطَّافِي وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا تَبِيعُوا في أَسْوَاقِنَا الطَّافِيَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال ما دَسَرَهُ الْبَحْرُ فَكُلْهُ وما وَجَدْتَهُ يَطْفُو على الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ له فيها لِأَنَّ الْمُرَادَ من قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ} ما قَذَفَهُ الْبَحْرُ إلَى الشَّطِّ فَمَاتَ كَذَا قال أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَذَلِكَ حلالا [حلال] عِنْدَنَا لِأَنَّهُ ليس بِطَافٍ إنَّمَا الطَّافِي اسْمٌ لِمَا مَاتَ في الْمَاءِ من غَيْرِ آفَةٍ وَسَبَبٍ حَادِثٍ وَهَذَا مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وهو قَذْفُ الْبَحْرِ فَلَا يَكُونُ طَافِيًا وَالْمُرَادُ من الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ الطَّافِي لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ السَّمَكُ الطَّافِي الذي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ عِنْدَنَا هو الذي يَمُوتُ في الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ منه سَوَاءٌ عَلَا على وَجْهِ الْمَاءِ أو لم يَعْلُ بَعْدَ أَنْ مَاتَ في الْمَاءِ حَتْفَ أَنْفِهِ من غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا هو الذي يَمُوتُ في الْمَاءِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَيَعْلُو على وَجْهِ الْمَاءِ فَإِنْ لم يعلو [يعل] يَحِلُّ وَالصَّحِيحُ هو الْحَدُّ الْأَوَّلُ وَتَسْمِيَتُهُ طَافِيًا لِعُلُوِّهِ على وَجْهِ الْمَاءِ عَادَةً وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ في السَّمَكِ إذَا كان بَعْضُهَا في الْمَاءِ وَبَعْضُهَا على الْأَرْضِ إنْ كان رَأْسُهَا على الْأَرْضِ أُكِلَتْ وَإِنْ كان رَأْسُهَا أو أَكْثَرُهُ في الْمَاءِ لم تُؤْكَلْ لِأَنَّ رَأْسَهَا مَوْضِعُ نَفَسِهَا فإذا كان خَارِجًا من الْمَاءِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وإذا كان في الْمَاءِ أو أَكْثَرُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ في الْمَاءِ بِغَيْرِ سَبَبٍ وَقَالُوا في سَمَكَةٍ ابْتَلَعَتْ سَمَكَةً أُخْرَى أنها تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَلَوْ مَاتَ من الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَكَدَرِ الْمَاءِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَكَدَرَ الْمَاءِ ليس من أَسْباب الْمَوْتِ ظَاهِرًا فلم يُوجَدْ الْمَوْتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ يُوجِبُ الْمَوْتَ ظَاهِرًا وغالبا فَلَا يُؤْكَلُ وفي رِوَايَةٍ يُؤْكَلُ لِأَنَّ هذه أَسْباب الْمَوْتِ في الْجُمْلَةِ فَقَدْ وُجِدَ الْمَوْتُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فلم يَكُنْ طَافِيًا فَيُؤْكَلُ وَيَسْتَوِي في حِلِّ الْأَكْلِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَكِ من الْجِرِّيثِ والمار [والمارماهي] ما هي وَغَيْرِهِمَا لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ في إبَاحَةِ السَّمَكِ لَا يَفصل بين سَمَكٍ وَسَمَكٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ. وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما إبَاحَةُ الْجِرِّيثِ وَالسَّمَكِ الذَّكَرِ ولم يُنْقَلْ عن غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذلك فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَأَمَّا الذي يَعِيشُ في الْبَرِّ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ ما ليس له دَمٌ أَصْلًا وما ليس له دَمٌ سَائِلٌ وما له دَمٌ سَائِلٌ مِثْلُ الْجَرَادِ وَالزُّنْبُورِ وَالذُّباب وَالْعَنْكَبُوتِ وَالْعَضَّابَةِ وَالْخُنْفُسَاءِ وَالْبُغَاثَةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إلَّا الْجَرَادَ خَاصَّةً لِأَنَّهَا من الْخَبَائِثِ لِاسْتِبْعَادِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ إيَّاهَا وقد قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ} إلَّا أَنَّ الْجَرَادَ خُصَّ من هذه الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ فَبَقِيَ على ظَاهِرِ الْعُمُومِ وَكَذَلِكَ ما ليس له دَمٌ سَائِلٌ مِثْلُ الْحَيَّةِ وَالْوَزَغِ وَسَامِّ أَبْرَصَ وَجَمِيعِ الْحَشَرَاتِ وَهَوَامِّ الْأَرْضِ من الْفَأْرِ وَالْقُرَادِ وَالْقَنَافِذِ وَالضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ وَابْنِ عِرْسٍ وَنَحْوِهَا وَلَا خِلَافَ في حُرْمَةِ هذه الْأَشْيَاءِ إلَّا في الضَّبِّ فإنه حَلَالٌ عَنْدَ الشَّافِعِيِّ وَاحْتَجَّ بِمَا روي عن ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال: ؟ «أَكَلْت على مَائِدَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَحْمَ ضَبٍّ» ؟ وَعَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «إنَّهُ لم يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ فَلَا أكله وَلَا أُحَرِّمُهُ» وَهَذَا نَصٌّ على عَدَمِ الْحُرْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِشَارَةٌ إلَى الْكَرَاهَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثِ} وَرُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إلَيْهِ لَحْمُ ضَبٍّ فَامْتَنَعَ أَنْ يَأْكُلَهُ فَجَاءَتْ سَائِلَةٌ فَأَرَادَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها أَنْ تُطْعِمَهَا إيَّاهُ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أَتُطْعِمِينَ ما لَا تَأْكُلِينَ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُ لِمَا أَنَّ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ عَافَتْهُ لِأَنَّهُ لو كان كَذَلِكَ لَمَا مَنَعَ من التَّصَدُّقِ بِهِ كَشَاةِ الْأَنْصَارِ أنه لَمَّا امْتَنَعَ من أَكْلِهَا أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بها وَلِأَنَّ الضَّبَّ من جُمْلَةِ الْمُسُوخِ وَالْمُسُوخُ مُحَرَّمَةٌ كَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ وَالْفِيلِ فِيمَا قِيلَ. وَالدَّلِيلُ عليه ما روى أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الضَّبِّ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ في الْأَرْضِ وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هذا منها» وَهَكَذَا روى عن بَعْضِ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «كنا في بَعْضِ الْمَغَازِي فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَنَزَلْنَا في أَرْضٍ كَثِيرَةِ الضَّباب فَنَصَبْنَا الْقُدُورَ وَكَانَتْ الْقُدُورُ تَغْلِي إذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا قُلْنَا الضَّبُّ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ فَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ هذا منها فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْقُدُورِ». وما رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وما رَوَيْنَا فَهُوَ خَاطِرٌ وَالْعَمَلُ بِالْخَاطِرِ أَوْلَى وما له دَمٌ سَائِلٌ نَوْعَانِ مُسْتَأْنِسٌ وَمُسْتَوْحِشٌ أَمَّا الْمُسْتَأْنِسُ من الْبَهَائِمِ فَنَحْوُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيها دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا منها وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وَاسْمُ الْأَنْعَامِ يَقَعُ على هذه الْحَيَوَانَاتِ بِلَا خِلَافٍ بين أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا تَحِلُّ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَحُكِيَ عن بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْحِمَارِ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عز وجل: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ} ولم يذكر الْحَمِيرَ الْإِنْسِيَّةَ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنَّهُ فنى مَالِي ولم يَبْقَ لي إلَّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلْ من سَمِينِ مَالِكَ فَإِنِّي إنَّمَا كُنْت نَهَيْتُكُمْ عن جَلَّالِ الْقَرْيَةِ وَرُوِيَ عن جَوَالِّ الْقُرَى بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَرُوِيَ فَإِنَّمَا قَذِرْتُ لَكُمْ جَالَّةُ الْقَرْيَةِ وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ إن شاء الله تعالى. وَرَوَى أبو حَنِيفَةَ عن نَافِعٍ عن ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ خَيْبَرَ عن لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ». وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه قال لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وهو يُفْتِي الناس في الْمُتْعَةِ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يوم خَيْبَرَ فَرَجَعَ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن ذلك وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يوم خَيْبَرَ أُكِلَتْ الْحُمُرُ فَأَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ رضي اللَّهُ عنه يُنَادِي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْهَاكُمْ عن لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْزٌ وَرُوِيَ فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ عَرَفَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَقَبِلُوهَا وَعَمِلُوا بها وَظَهَرَ الْعَمَلُ بها. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اُخْتُصَّ منها أَشْيَاءُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فيها فَيَخْتَصُّ الْمُتَنَازَعُ فيه بِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ مع ما أَنَّ ما رَوَيْنَا من الْأَخْبَارِ مَشْهُورَةٌ وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكتاب بِالْخَبَرِ المشهور [المشهود] وَعَلَى أَنَّ في الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ سِوَى الْمَذْكُورِ فيها وَقْتَ نُزُولِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْفِعْلِ هو الْحَالُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَكُنْ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ سِوَى الْمَذْكُورِ فيها ثُمَّ حَرَّمَ ما حَرَّمَ بَعْدُ على أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْآيَةِ لَا مُحَرَّمَ سِوَى الْمَذْكُورِ فيها وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ اسْمَ الْمُحَرَّمِ على لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ إذْ الْمُحَرَّمُ الْمُطْلَقُ ما تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَأَمَّا ما كانت حُرْمَتُهُ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُسَمَّى مُحَرَّمًا على الإطلاق بَلْ نُسَمِّيهِ مَكْرُوهًا فَنَقُولُ بِوُجُوبِ الِامْتِنَاعِ عن أَكْلِهَا عَمَلًا مع التَّوَقُّفِ في اعْتِقَادِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلْ من سَمِينِ مَالِكَ أَيْ من أَثْمَانِهَا كما يُقَالُ فُلَانٌ أَكَلَ عَقَارَهُ أَيْ ثَمَنَ عَقَارِهِ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ ذلك إطْلَاقًا لِلِانْتِفَاعِ بِظُهُورِهَا بِالْإِكْرَاءِ كما يُحْمَلُ على شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان قبل التَّحْرِيمِ فَانْفَسَخَ بِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَالْعَمَلُ بِالْخَاطِرِ أَوْلَى احْتِيَاطًا. فَإِنْ قِيلَ ما رَوَيْتُمْ يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنَّهُ عله الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن أَكْلِ الْحُمُرِ يوم خَيْبَرَ لِأَنَّهَا كانت غَنِيمَةً من الْخُمُسِ أو لِقِلَّةِ الظَّهْرِ أو لِأَنَّهَا كانت جَلَّالَةً فَوَقَعَ التَّعَارُضُ وَالْجَوَابُ أَنَّ شيئا من ذلك لَا يَصْلُحُ مَحْمَلًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْجُنْدُ لَا يَخْرُجُ منه الْخُمْسُ كَالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ يوم خَيْبَرَ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذلك مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ في الظَّهْرِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَصَّ النَّهْيَ بِالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالْحُمُرِ بَلْ يُوجَدُ في غَيْرِهَا وَأَمَّا لَحْمُ الْخَيْلِ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يُكْرَهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُكْرَهُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال أَكَلْنَا لَحْمَ فَرَسٍ على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَرُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ في الْخَيْلِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قال: «أَطْعَمَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَهَانَا عن لُحُومِ الْحُمُرِ» وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال: «كنا قد جَعَلْنَا في قُدُورِنَا لَحْمَ الْخَيْلِ وَلَحْمَ الْحِمَارِ فنهان [فنهانا] النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ نَأْكُلَ لَحْمَ الْحِمَارِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَأْكُلَ لَحْمَ الْخَيْلِ». وَعَنْ سَيِّدَتِنَا أَسْمَاءَ بِنْتِ سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنهما أنها قالت نَحَرْنَا فَرَسًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الْكتاب وَالسُّنَّةُ وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكتاب الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ ما حُكِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما فإنه رُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عن لَحْمِ الْخَيْلِ فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وقال ولم يَقُلْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِتَأْكُلُوهَا فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا وَتَمَامُ هذا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْأَنْعَامَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَمَنَافِعَهَا وَبَالَغَ في ذلك بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيها دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. وَكَذَا ذَكَرَ فِيمَا بَعْدَ هذه الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مُتَّصِلًا بها مَنَافِعَ الْمَاءِ الْمُنْزَلِ من السَّمَاءِ وَالْمَنَافِعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْمَنَافِعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْبَحْرِ على سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ بَيَانَ شِفَاءٍ لَا بَيَانَ كِفَايَةٍ وَذَكَرَ في هذه الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ ذَكَرَ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ ولم يذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ فَدَلَّ أَنَّهُ ليس فيها مَنْفَعَةٌ أُخْرَى سِوَى ما ذَكَرْنَاهُ. وَلَوْ كان هُنَاكَ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى سِوَى ما ذَكَرْنَا لم يُحْتَمَلْ أَنْ لَا نَذْكُرُهَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَنَافِعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بها على سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ وَقَوْلُهُ عز وجل: {ويحل [يحل] لهم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ} وَلَحْمُ الْخَيْلِ ليس بِطَيِّبٍ بَلْ هو خَبِيثٌ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ لَا تَسْتَطِيبُهُ بَلْ تَسْتَخْبِثُهُ حتى لَا تَجِدَ أَحَدًا تُرِكَ بِطَبْعِهِ إلَّا وَيَسْتَخْبِثُهُ وَيُنَقِّي طَبْعَهُ عن أَكْلِهِ وَإِنَّمَا يَرْغَبُونَ في رُكُوبِهِ إلا يَرْغَبُ طَبْعُهُ فِيمَا كان مَجْبُولًا عليه وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا جاء بِإِحْلَالِ ما هو مُسْتَطَابٌ في الطَّبْعِ لَا بِمَا هو مُسْتَخْبَثٌ وَلِهَذَا لم يَجْعَلْ الْمُسْتَخْبَثَ في الطَّبْعِ غِذَاءَ الْيُسْرِ وَإِنَّمَا جَعَلَ ما هو مُسْتَطَابٌ بَلَغَ في الطِّيبِ غَايَتُهُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَمَّا كان يَوْمُ خَيْبَرَ أَصَابَ الناس مَجَاعَةٌ فَأَخَذُوا الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ فَذَبَحُوهَا فَحَرَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الأنسية وَلُحُومَ الْخَيْلِ َالْبِغَالِ وَكُلَّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ وَحَرَّمَ الْخِلْسَةَ وَالنُّهْبَةَ وَعَنْ خَالِدِ بن الْوَلِيدِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» وَعَنْ الْمِقْدَامِ بن مَعْدِي كَرِبَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال حُرِّمَ عَلَيْكُمْ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَخَيْلُهَا وَهَذَا نَصٌّ على التَّحْرِيمِ وَعَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ فَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ ولو صَلَحَتْ لِلْأَكْلِ لَقَالَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَيْلُ لِأَرْبَعَةٍ لِرَجُلٍ سِتْرٌ وَلِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلِ وِزْرٌ وَلِرَجُلٍ طَعَامٌ». وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّ الْبَغْلَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وهو وَلَدُ الْفَرَسِ فَلَوْ كانت أُمُّهُ حَلَالًا لَكَانَ هو حَلَالًا أَيْضًا لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ لِأَنَّهُ منها وهو كَبَعْضِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ حِمَارَ وَحْشٍ لو نزى على حِمَارَةٍ أَهْلِيَّةٍ فَوَلَدَتْ لم يُؤْكَلْ وَلَدُهَا وَلَوْ نَزَا حِمَارٌ أَهْلِيٌّ على حِمَارَةٍ وَحْشِيَّةٍ وَوَلَدَتْ يُؤْكَلُ وَلَدُهَا لِيُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ في الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ دُونَ الْفَحْلِ فلما كان لَحْمُ الْفَرَسِ حَرَامًا كان لَحْمُ الْبَغْلِ كَذَلِكَ وما رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عن جَابِرٍ وما في رِوَايَةِ سَيِّدَتِنَا أَسْمَاءَ رضي اللَّهُ عنها يُحْتَمَل أَنَّهُ كان ذلك في الْحَالِ التي كان يُؤْكَلُ فيها الْحُمُرُ لِأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّمَا نهى عن أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ يوم خَيْبَرَ وَكَانَتْ الْخَيْلُ تُؤْكَلُ في ذلك الْوَقْتِ ثُمَّ حُرِّمَتْ يَدُلُّ عليه ما رُوِيَ عن الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قال ما عَلِمْنَا الْخَيْلَ أُكِلَتْ إلَّا في حِصَارٍ. وَعَنْ الْحَسَنِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كان أَصْحَابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْخَيْلِ في مغازيم [مغازيهم] فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا في حَالِ الضَّرُورَةِ كما قال الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أو يُحْمَلُ على هذا عَمَلًا بِالدَّلِيلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ أو يَتَرَجَّحُ الْحَاظِرُ على الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا حُجَجُ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه على رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِ الْخَيْلِ وَأَمَّا على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ ولم يُطْلَقْ التَّحْرِيمُ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ في الْباب وَاخْتِلَافِ السَّلَفِ فَكُرِهَ أَكْلُ لَحْمِهِ احْتِيَاطًا لِباب الْحُرْمَةِ. وَأَمَّا الْمُتَوَحِّشُ منها نَحْوُ الظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِ الْوَحْشِ وَإِبِلِ الْوَحْشِ فَحَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} وَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ: {وَيُحِلُّ لهم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {كُلُوا من طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ} وَلُحُومُ هذه الْأَشْيَاءِ من الطَّيِّبَاتِ فَكَانَ حَلَالًا. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خَيْبَرَ عن لُحُومِ الْحُمُرِ فقال الْأَهْلِيَّةُ فَقِيلَ نعم فَدَلَّ قَوْلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على اخْتِلَافِ حُكْمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْوَحْشِيَّةِ وقد ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ في الْأَهْلِيَّةِ الْحُرْمَةُ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ فَكَانَ حُكْمُ الْوَحْشِيَّةِ الْحِلَّ ضَرُورَةً. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا من فِهْرٍ جاء إلَى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بِالرَّوْحَاءِ وَمَعَ الرَّجُلِ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقَرَهُ فقال هذه رَمْيَتِي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهِيَ لك فَقَبِلَهُ النبي صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ سَيِّدَنَا أبو [أبا] بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه فَقَسَمَهُ بين الرِّفَاقِ وَالْحَدِيثُ وَإِنْ وَرَدَ في حِمَارِ الْوَحْشِ لَكِنَّ إحْلَالَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ إحْلَالٌ لِلظَّبْيِ وَالْبَقَرِ الْوَحْشِيِّ وَالْإِبِلِ الْوَحْشِيِّ من طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ ليس من جِنْسِهِ من الْأَهْلِيِّ ما هو حَلَالٌ بَلْ هو حَرَامٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ من جِنْسِهَا من الْأَهْلِيِّ ما هو حَلَالٌ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْحِلِّ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْنِسُ من السِّبَاعِ وهو الْكَلْبُ وَالسِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ فَلَا يَحِلُّ وَكَذَلِكَ الْمُتَوَحِّشُ منها الْمُسَمَّى بِسِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وهو كُلُّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ لِمَا رُوِيَ في الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن أَكْلِ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ. وَعَنْ الزُّهْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ حَرَامٌ» فَذُو النَّابِ من سِبَاعِ الْوَحْشِ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالثَّعْلَبِ وَالسِّنَّوْرِ الْبَرِّيِّ وَالسِّنْجَابِ وَالْفَنَكِ وَالسَّمُّورِ وَالدَّلَقِ وَالدُّبِّ وَالْقِرْدِ وَالْفِيلِ وَنَحْوِهَا فَلَا خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ أنها مُحَرَّمَةٌ إلَّا الضَّبُعَ فإنه حَلَالٌ عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عَطَاءٍ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال في الضَّبُعِ كَبْشٌ فَقُلْت له أَهُوَ صَيْدٌ فقال نعم فَقُلْت يُؤْكَلُ فقال نعم فَقُلْت أَسَمِعْتَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم وَلَنَا أَنَّ الضَّبُعَ سَبُعٌ ذُو نَابٍ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الحديث الْمَشْهُورِ وما رُوِيَ ليس بِمَشْهُورٍ فَالْعَمَلُ بِالْمَشْهُورِ أَوْلَى على أَنَّ ما رَوَيْنَا مُحَرِّمٌ وما رَوَاهُ مُحَلِّلٌ وَالْمُحَرِّمُ يَقْضِي على الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْأَرْنَبِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال كنا عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَهْدَى له أَعْرَابِيٌّ أَرْنَبَةً مَشْوِيَّةً فقال لِأَصْحَابِهِ كُلُوا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بن صَفْوَانَ أو صَفْوَانَ بن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال أَصَبْت أرنبين [أرنبتين] فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةِ وَسَأَلْتُ عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَنِي بِأَكْلِهِمَا وَذُو الْمِخْلَبِ من الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالْبَاشَقِ وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ وَالنَّعَّابِ وَالنَّسْرِ وَالْعُقَابِ وما أَشْبَهَ ذلك فَيَدْخُلُ تَحْتَ نَهْيِ النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ نهى عن كل ذِي خَطْفَةٍ وَنُهْبَةٍ وَمُجَثَّمَةٍ وَعَنْ كل نَابٍ من الطَّيْرِ وَالْمُجَثَّمَةِ روى بِكَسْرِ الثَّاءِ وَفَتْحِهَا من الْجُثُومِ وهو تَلَبُّدُ الطَّائِرِ الذي من عَادَتِهِ الْجُثُومُ على غَيْرِهِ لِيَقْتُلَهُ وهو السِّبَاعُ من الطَّيْرِ فَيَكُونُ نَهْيًا على أَكْلِ كل ذير [طير] هذا عَادَتُهُ وَبِالْفَتْحِ هو الصَّيْدُ الذي يَجْثُمُ عليه طَائِرٌ فَيَقْتُلُهُ فَيَكُونُ نَهْيًا عن أَكْلِ كل طَيْرٍ قَتَلَهُ طَيْرٌ آخَرُ بِجُثُومِهِ عليه وَقِيلَ بِالْفَتْحِ هو الذي يرمي حتى يَجْثُمَ فَيَمُوتَ وما لَا مِخْلَبَ له من الطَّيْرِ فَالْمُسْتَأْنِسُ منه كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْمُتَوَحِّشُ كَالْحَمَامِ وَالْفَاخِتَةِ وَالْعَصَافِيرِ والقبج وَالْكُرْكِيِّ وَالْغُرَابِ الذي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَالزَّرْعَ وَالْعَقْعَقِ وَنَحْوِهَا حَلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ من الْحَيَوَانَاتِ فَيُكْرَهُ أَكْلُ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَهِيَ التي الْأَغْلَبُ من أَكْلِهَا النَّجَاسَةُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا كان الْغَالِبُ من أَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ يَتَغَيَّرُ لَحْمُهَا وَيَنْتُنُ فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ كَالطَّعَامِ الْمُنْتِنِ. وَرُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الْجَلَّالَةِ أَنْ تُشْرَبَ أَلْبَانُهَا لِأَنَّ لَحْمَهَا إذَا تَغَيَّرَ يَتَغَيَّرُ لَبَنُهَا وما رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن أَنْ يُحَجَّ عليها وَأَنْ يُعْتَمَرَ عليها وَأَنْ يغزي وَأَنْ يُنْتَفَعَ بها فِيمَا سِوَى ذلك فَذَلِكَ مَحْمُولٌ على أنها انتنت في نَفْسِهَا فَيَمْتَنِعُ من اسْتِعْمَالِهَا حتى لَا يَتَأَذَّى الناس بِنَتِنِهَا كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي في شرخه [شرحه] مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيَّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بها من الْعَمَلِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنْ تُحْبَسَ أَيَّامًا وَتُعْلَفَ فَحِينَئِذٍ تَحِلُّ وما ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْوَدُ لِأَنَّ النَّهْيَ ليس لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِهَا بَلْ لِعَارِضٍ جَاوَرَهَا فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بها حَلَالًا في ذَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ عنه لِغَيْرِهِ ثُمَّ ليس لِحَبْسِهَا تَقْدِيرٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال كان أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لَا يُوَقِّتُ في حَبْسِهَا وقال تُحْبَسُ حتى تَطِيبَ وهو قَوْلُهُمَا أَيْضًا. وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أنها تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وروي ابن رُسْتُمَ رَحِمَهُ اللَّهُ عن مُحَمَّدٍ في النَّاقَةِ الْجَلَّالَةِ والشاة وَالْبَقَرِ الْجَلَّالِ أنها إنَّمَا تَكُونُ جَلَّالَةً إذَا تفتت [تفتتت] وَتَغَيَّرَتْ وَوُجِدَ منها رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَهِيَ الْجَلَّالَةُ حِينَئِذٍ لَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَبَيْعُهَا وَهِبَتُهَا جَائِزٌ هذا إذَا كانت لَا تَخْلِطُ وَلَا تَأْكُلُ إلَّا الْعَذِرَةَ غَالِبًا فَإِنْ خَلَطَتْ فَلَيْسَتْ جَلَّالَةً فَلَا تُكْرَهُ لِأَنَّهَا لَا تَنْتُنُ وَلَا يُكْرَهُ أَكْلُ الدَّجَاجِ المحلى وَإِنْ كان يَتَنَاوَلُ النَّجَاسَةَ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ عليه أَكْلُ النَّجَاسَةِ بَلْ يَخْلِطُهَا بِغَيْرِهَا وهو الْحَبُّ فَيَأْكُلُ ذَا وَذَا. وَقِيلَ إنَّمَا لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْتُنُ كما يَنْتُنُ الْإِبِلُ وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّتَنِ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا في جَدْيٍ ارْتَضَعَ بِلَبَنِ خِنْزِيرٍ حتى كَبِرَ أنه لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ لِأَنَّ لَحْمَهُ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَنْتُنُ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْكَرَاهَةَ في الْجَلَّالَةِ لِمَكَانِ التَّغَيُّرِ وَالنَّتْنِ لَا لِتَنَاوُلِ النَّجَاسَةِ وَلِهَذَا إذَا خَلَطَتْ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ وُجِدَ تَنَاوُلُ النَّجَاسَةِ لِأَنَّهَا لَا تَنْتُنُ فَدَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلنَّتْنِ لَا لِتَنَاوُلِ النَّجَاسَةِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ تُحْبَسَ الدَّجَاجُ حتى يَذْهَبَ ما في بَطْنِهَا من النَّجَاسَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَحْبِسُ الدَّجَاجَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَأْكُلُهُ وَذَلِكَ على طَرِيقِ التَّنَزُّهِ وهو رِوَايَةُ أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ أنها تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى ذلك لِلْخَبَرِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ما في جَوْفِهَا من النَّجَاسَةِ يَزُولُ في هذه الْمُدَّةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ويكره الْغُرَابُ الْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ لِمَا روى عن عُرْوَةَ عن أبيه أَنَّهُ سُئِلَ عن أَكْلِ الْغُرَابِ فقال من يَأْكُلُ بَعْدَ ما سَمَّاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَاسِقًا عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَمْسٌ من الْفَوَاسِقِ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَلِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهَا الْجِيَفُ فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا كَالْجَلَّالَةِ وَلَا بَأْسَ بِغُرَابِ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَبَّ وَالزَّرْعَ وَلَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ. هَكَذَا رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عن أبي يُوسُفَ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ عن أَكْلِ الْغُرَابِ فَرَخَّصَ في غُرَابِ الزَّرْعِ وَكَرِهَ الْغُدَافَ فَسَأَلْتُهُ عن الْأَبْقَعِ فَكَرِهَ ذلك وَإِنْ كان غُرَابًا يَخْلِطُ فَيَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَأْكُلُ الْحَبَّ لَا يُكْرَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ قال وَإِنَّمَا يُكْرَهُ من الطَّيْرِ ما لَا يَأْكُلُ إلَّا الْجِيَفَ وَلَا بَأْسَ بِالْعَقْعَقِ لِأَنَّهُ ليس بِذِي مِخْلَبٍ وَلَا من الطَّيْرِ الذي لَا يَأْكُلُ إلَّا الْحَبَّ كَذَا روي أبو يُوسُفَ أَنَّهُ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في أَكْلِ الْعَقْعَقِ فقال لَا بَأْسَ بِهِ فَقُلْت إنَّهُ يَأْكُلُ الْجِيَفَ فقال إنَّهُ يَخْلِطُ فَحَصَلَ من قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ ما يَخْلِطُ من الطُّيُورِ لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ كَالدَّجَاجِ وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ غَالِبَ أَكْلِهِ الْجِيَفُ.
وَأَمَّا بَيَانُ شَرْطِ حِلِّ الْأَكْلِ في الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ فَشَرْطُ حِلِّ الْأَكْلِ في الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ الْبَرِّيِّ هو الذَّكَاةُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بِدُونِهَا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إلَى قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ: {وما أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذَّكِيَّ من الْمُحَرَّمِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ ثُمَّ الْكَلَامُ في الذَّكَاةِ في الْأَصْلِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الذَّكَاةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يُسْتَحَبُّ من الذَّكَاةِ وما يُكْرَهُ منها فَالذَّكَاةُ نَوْعَانِ نوعان اختياري [اختيارية] وَضَرُورِيَّةٌ أَمَّا الِاخْتِيَارِيَّةُ فَرُكْنُهَا الذَّبْحُ فِيمَا يُذْبَحُ من الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَنَحْوِهِمَا وَالنَّحْرُ فِيمَا يُنْحَرُ وهو الْإِبِلُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ على الذَّبْحِ وَالنَّحْرُ لَا يَحِلُّ بِدُونِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ في الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَأَنَّهُ لَا يَزُولُ إلَّا بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا وَرَدَ بأحلال الطَّيِّبَاتِ. قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُحِلُّ لهم الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عليهم الْخَبَائِثَ} وَلَا يَطِيبُ إلَّا بِخُرُوجِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَذَلِكَ بِالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ وهو الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فيها قَائِمٌ وَلِذَا لَا يَطِيبُ مع قِيَامِهِ وَلِهَذَا يَفْسُدُ في أَدْنَى مُدَّةِ ما يَفْسُدُ في مِثْلِهَا الْمَذْبُوحُ وَكَذَا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ لِمَا قُلْنَا وَالذَّبْحُ هو فرى الْأَوْدَاجِ وَمَحَلُّهُ ما بين اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم الذَّكَاةُ ما بين اللَّبَّةِ وَاللِّحْيَةِ أَيْ مَحَلُّ الذَّكَاةِ ما بين اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ وروى الذَّكَاةُ في الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ وَالنَّحْرُ فرى الْأَوْدَاجِ وَمَحَلُّهُ آخِرُ الْحَلْقِ وَلَوْ نُحِرَ ما يُذْبَحُ وَذُبِحَ ما يُنْحَرُ يَحِلُّ لِوُجُودِ فرى الْأَوْدَاجِ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ السُّنَّةَ في الْإِبِلِ النَّحْرُ وفي غَيْرِهَا الذَّبْحُ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ في الْإِبِلِ النَّحْرَ وفي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحَ فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فصل لِرَبِّك وَانْحَرْ} قِيلَ في التَّأْوِيلِ أَيْ انْحَرْ الْجَزُورَ وقال اللَّهُ عز شَأْنُهُ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وقال تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} وَالذِّبْحُ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ وهو الْكَبْشُ الذي فدى بِهِ سَيِّدُنَا إسْمَاعِيلُ أو سَيِّدُنَا إِسْحَاقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا على اخْتِلَافِ أَصْلِ الْقِصَّةِ في ذلك. وَكَذَا النبي صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الْإِبِلَ وَذَبَحَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ فَدَلَّ أَنَّ ذلك هو السُّنَّةُ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأَصْلِ وقال بَلَغَنَا أَنَّ أَصْحَابَ النبي صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْإِبِلَ قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى فَدَلَّ ذلك على أَنَّ النَّحْرَ في الْإِبِلِ هو السُّنَّةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الذَّكَاةِ إنَّمَا هو الْأَسْهَلُ على الْحَيَوَانِ وما فيه نَوْعُ رَاحَةٍ له فَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ على كل شَيْءٍ فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وإذا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أحدكم شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ وَالْأَسْهَلُ في الْإِبِلِ النَّحْرُ لِخُلُوِّ لَبَّتِهَا عن اللَّحْمِ وَاجْتِمَاعِ اللَّحْمِ فِيمَا سِوَاهُ من خَلْفِهَا وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ جَمِيعُ حَلْقِهَا لَا يَخْتَلِفُ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال نَحَرْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الْبَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ أَيْ وَنَحَرْنَا الْبَقَرَةَ عن سَبْعَةٍ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ على الْأَوَّلِ فَكَانَ خَبَرُ الْأَوَّلِ خَبَرًا لِلثَّانِي كَقَوْلِنَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَالْجَوَابُ أَنَّ الذَّبْحَ مُضْمَرٌ فيه وَمَعْنَاهُ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ على عَادَةِ الْعَرَبِ في الشَّيْءِ إذَا عُطِفَ على غَيْرِهِ وَخَبَرُ الْمَعْطُوفِ عليه لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ في الْمَعْطُوفِ أو لَا يُوجَدُ عَادَةً أَنْ يُضْمَرَ الْمُتَعَارَفُ الْمُعْتَادُ كما قال الشَّاعِرُ: وَلَقِيت زَوْجَك في الْوَغَى *** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا أَيْ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَمُعْتَقِلًا رُمْحًا وقال آخَرُ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وماءا [وماء] بَارِدًا أَيْ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَسَقَيْتُهَا ماءا [ماء] بَارِدًا لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّقَلُّدَ أو لَا يُتَقَلَّدُ عَادَةً وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ بَلْ يُسْقَى كَذَا هَهُنَا الذَّبْحُ في الْبَقَرِ هو الْمُعْتَادُ فَيُضْمَرُ فيه فَصَارَ كَأَنَّهُ قال نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاء رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا ذَبَحَ الْبَدَنَةَ لَا تَحِلُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ في الْبَدَنَةِ بِالنَّحْرِ بِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ: {فصل لِرَبِّك وَانْحَرْ} فإذا ذَبَحَ فَقَدْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَلَا يَحِلُّ. وَلَنَا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «ما أَنْهَرَ الدَّمَ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالنَّحْرِ في الْبَدَنَةِ ليس لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِنْهَارِ الدَّمِ وَإِفْرَاءِ الْأَوْدَاجِ وقد وُجِدَ ذلك وَلَا بَأْسَ في الْحَلْقِ كُلِّهِ أَسْفَلِهِ أو أَوْسَطِهِ أو أَعْلَاهُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذَّكَاةُ ما بين اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذَّكَاةُ في الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ من غَيْرِ فصل وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إخرام [إخراج] الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَتَطْيِيبُ اللَّحْمِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ في الْحَلْقِ كُلِّهِ. ثُمَّ الْأَوْدَاجُ أَرْبَعَةٌ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ فإذا فَرَى ذلك كُلَّهُ فَقَدْ أتى بِالذَّكَاةِ بِكَمَالِهَا وَسُنَنِهَا وَإِنْ فَرَى الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه إذَا قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ وهو ثَلَاثَةٌ منها أَيُّ ثَلَاثَةٍ كانت وَتَرَكَ وَاحِدًا يَحِلُّ وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ حتى يُقْطَعَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَأَحَدُ الْعِرْقَيْنِ. وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ حتى يُقْطَعَ من كل وَاحِدٍ من الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرُهُ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قُطِعَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ حُلَّ إذَا اُسْتُوْعِبَ قَطْعُهُمَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ الذَّبْحَ إزَالَةُ الْحَيَاةِ وَالْحَيَاةُ لَا تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ عَادَةً وقد تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إذْ هُمَا عِرْقَانِ كَسَائِرِ الْعُرُوقِ وَالْحَيَاةُ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ عِرْقَيْنِ من سَائِرِ الْعُرُوقِ وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من الذَّبْحِ إزَالَةُ الْمُحَرَّمِ وهو الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِقَطْعِ الْوَدَجِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ الْأَكْثَرُ من كل وَاحِدٍ من الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ وهو خُرُوجُ الدَّمِ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ ما يَخْرُجُ بِقَطْعِ الْكُلِّ وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن كُلَّ وَاحِدٍ من الْعُرُوقِ يُقْصَدُ بِقَطْعِهِ غَيْرُ ما يُقْصَدُ بِهِ الْآخَرُ لِأَنَّ الْحُلْقُومَ مَجْرَى النَّفَسِ وَالْمَرِيءَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالْوَدَجَيْنِ مجري الدَّمِ فإذا قُطِعَ أَحَدُ الْوَدَجَيْنِ حَصَلَ بِقَطْعِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا وإذا تُرِكَ الْحُلْقُومُ ولم يَحْصُلْ بِقَطْعِ ما سِوَاهُ الْمَقْصُودُ منه وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ قَطَعَ الْأَكْثَرَ من الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فِيمَا بنى على التَّوْسِعَةِ في أُصُولِ الشَّرْعِ وَالذَّكَاةُ بُنِيَتْ على التَّوْسِعَةِ حَيْثُ يكتفي فيها بِالْبَعْضِ بِلَا خِلَافٍ بين الْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الْكَيْفِيَّةِ فَيُقَامُ الْأَكْثَرُ فيها مَقَامَ الْجَمِيعِ وَلَوْ ضَرَبَ عُنُقَ جَزُورٍ أو بَقَرَةٍ أو شَاةٍ بِسَيْفِهِ وَأَبَانَهَا وَسَمَّى فَإِنْ كان ضَرَبَهَا من قِبَلِ الْحُلْقُومِ تُؤْكَلْ وقد أَسَاءَ أَمَّا حِلُّ الآكل فَلِأَنَّهُ أتى بِفِعْلِ الذَّكَاةِ وهو قَطْعُ الْعُرُوقِ وَأَمَّا الْإِسَاءَةُ فَلِأَنَّهُ زَادَ في أَلَمِهَا زِيَادَةً لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا في الذَّكَاةِ فَيُكْرَهُ ذلك وَإِنْ ضَرَبَهَا من الْقَفَا فَإِنْ مَاتَتْ قبل الْقَطْعِ بِأَنْ ضَرَبَ على التَّأَنِّي وَالتَّوَقُّفِ لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّهَا مَاتَتْ قبل الذَّكَاةِ فَكَانَتْ مَيْتَةً وَإِنْ قَطَعَ الْعُرُوقَ قبل موته [موتها] تُؤْكَلْ لِوُجُودِ فِعْلِ الذَّكَاةِ وَهِيَ حَيَّةٌ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ذلك لِأَنَّهُ زَادَ في أَلَمِهَا من غَيْرِ حَاجَةٍ وَإِنْ أَمْضَى فِعْلَهُ من غَيْرِ تَوَقُّفٍ تُؤْكَلُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْتَهَا بِالذَّكَاةِ. وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ذَبَحَ بِالْمَرْوَةِ أو بِلِيطَةِ الْقَصَبِ أو بِشِقَّةِ الْعَصَا أو غَيْرِهَا من الْآلَاتِ التي تَقْطَعُ إنه يَحِلُّ لِوُجُودِ مَعْنَى الذَّبْحِ وهو فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْآلَةَ على ضَرْبَيْنِ آلَةٌ تَقْطَعُ وَآلَةٌ تَفْسَخُ وَاَلَّتِي تَقْطَعُ نَوْعَانِ حَادَّةٌ وَكَلِيلَةٌ أَمَّا الْحَادَّةُ فَيَجُوزُ الذَّبْحُ بها حَدِيدًا كانت أو غير حَدِيدٍ وَالْأَصْلُ في جَوَازِ الذَّبْحِ بِدُونِ الْحَدِيدِ ما رُوِيَ عن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال قُلْت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ أَحَدَنَا أَصَابَ صَيْدًا وَلَيْسَ معه سِكِّينٌ أَيُذَكِّي بِمَرْوَةِ أو بِشِقَّةِ الْعَصَا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وروى أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بن مَالِكٍ رضي اللَّهُ عنه ذَبَحَتْ شَاةً بِمَرْوَةِ فَسَأَلَ كَعْبٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بِالْحَدِيدِ وَالْجَوَازُ ليس لِكَوْنِهِ من جِنْسِ الْحَدِيدِ بَلْ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَدِيدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْحَدِيدِ الذي لَا حَدَّ له فإذا وُجِدَ مَعْنَى الْحَدِّ في الْمَرْوَةِ وَاللِّيطَةِ جَازَ الذَّبْحُ بِهِمَا وَأَمَّا الْكَلِيلَةُ فَإِنْ كانت تَقْطَعُ يَجُوزُ لِحُصُولِ مَعْنَى الذَّبْحِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فيه من زِيَادَةِ إيلَامٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَلِهَذَا أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِتَحْدِيدِ الشَّفْرَةِ وَإِرَاحَةِ الذَّبِيحَةِ وَكَذَلِكَ إذَا جُرِحَ بِظُفْرٍ مَنْزُوعٍ أو سِنٍّ مَنْزُوعٍ جَازَ الذَّبْحُ بِهِمَا وَيُكْرَهُ. وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت إلَّا ما كان من سِنٍّ أو ظُفُرٍ فإن الظُّفُرَ مدي الْحَبَشَةِ وَالسِّنَّ عَظْمٌ من الْإِنْسَانِ اسْتَثْنَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الظُّفُرَ وَالسِّنَّ من الْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من الْإِبَاحَةِ يَكُونُ حَظْرًا وَعُلِّلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَوْنِ الظُّفُرِ مُدَى الْحَبَشَةِ وَكَوْنِ السِّنِّ عَظْمَ الْإِنْسَانِ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِنْكَارِ وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ الْأَوْدَاجَ فَقَدْ وَجَدَ الذَّبْحَ بِهِمَا فَيَجُوزُ كما لو ذَبَحَ بِالْمَرْوَةِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ السِّنُّ الْقَائِمُ وَالظُّفْرُ الْقَائِمُ لِأَنَّ الْحَبَشَةَ إنَّمَا كانت تَفْعَلُ ذلك لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ وَذَاكَ بِالْقَائِمِ لَا بِالْمَنْزُوعِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إلَّا ما كان قَرْضًا بِسِنٍّ أو حَزًّا بِظُفْرٍ وَالْقَرْضُ إنَّمَا يَكُونُ بِالسِّنِّ الْقَائِمِ وَأَمَّا الْآلَةُ التي تَفْسَخُ فَالظُّفْرُ الْقَائِمُ وَالسِّنُّ الْقَائِمُ وَلَا يَجُوزُ الذَّبْحُ بِهِمَا بالاجماع وَلَوْ ذَبَحَهُمَا كان مَيْتَةً لِلْخَبَرِ الذي رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الظُّفْرَ وَالسِّنَّ إذَا لم يَكُنْ مُنْفصلا فَالذَّابِحُ يَعْتَمِدُ على الذَّبِيحِ فَيُخْنَقُ وَيَنْفَسِخُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ حتى قالوا لو أَخَذَ غَيْرُهُ يَدَهُ فَأَمَرَّ يَدَهُ كما أَمَرَّ السِّكِّينَ وهو سَاكِتٌ يَجُوزُ وَيَحِلُّ أَكْلُهُ. وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْجَنِينُ إذَا خَرَجَ بَعْدَ ذَبْحِ أُمِّهِ إنْ خَرَجَ حَيًّا فذكى يَحِلُّ وَإِنْ مَاتَ قبل الذَّبْحِ لَا يُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ خَرَجَ مَيِّتًا فَإِنْ لم يَكُنْ كَامِلَ الْخَلْقِ لَا يُؤْكَلُ أَيْضًا في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمُضْغَةِ وَإِنْ كان كَامِلَ الْخَلْقِ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لَا يُؤْكَلُ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بن زِيَادٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ أُمِّهِ وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأُمِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ يُبَاعُ بِبَيْعِ الْأُمِّ وَيُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَالْحُكْمُ في التَّبَعِ يَثْبُتُ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَا يُشْتَرَطُ له عِلَّةٌ على حِدَةٍ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} وَالْجَنِينُ مَيْتَةٌ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فيه وَالْمَيْتَةُ ما لَا حَيَاةَ فيه فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ فَإِنْ قِيلَ الْمَيْتَةُ اسْمٌ لزوال [لزائل] الْحَيَاةِ فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْحَيَاةِ وَهَذَا لَا يُعْلَمُ في الْجَنِينِ فَالْجَوَابُ أَنَّ تَقَدُّمَ الْحَيَاةِ ليس بِشَرْطٍ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَيِّتِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا ذلك فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان حَيًّا فَمَاتَ بِمَوْتِ الْأُمِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَكُنْ فَيُحَرَّمُ احْتِيَاطًا وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ في الْحَيَاة فَيَكُونُ له أَصْلٌ في الذَّكَاةِ. وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ أَصْلٌ في الْحَيَاةِ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ وَلَوْ كان تَبَعًا لِلْأُمِّ في الْحَيَاةِ لَمَا تُصُوِّرَ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ زَوَالِ الْحَيَاةِ عن الْأُمِّ وإذا كان أَصْلًا في الْحَيَاةِ يَكُونُ أَصْلًا في الذَّكَاةِ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ وَلِأَنَّهُ إذَا تُصُوِّرَ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ لم يَكُنْ ذَبْحُ الْأُمِّ سَبَبًا لِخُرُوجِ الدَّمِ عنه إذْ لو كان لَمَا تُصُوِّرَ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ إذْ الْحَيَوَانُ الدَّمَوِيُّ لَا يَعِيشُ بِدُونِ الدَّمِ عَادَةً فَبَقِيَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فيه وَلِهَذَا إذَا جُرِحَ يَسِيلُ منه الدَّمُ وَأَنَّهُ حُرِّمَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَمًا مَسْفُوحًا وَقَوْلُهُ عز شَأْنُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بين لَحْمِهِ وَدَمِهِ فَيَحْرُمُ لَحْمُهُ أَيْضًا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ بِنَصْبِ الذَّكَاةِ الثَّانِيَةِ مَعْنَاهُ كَذَكَاةِ أُمِّهِ إذْ التَّشْبِيهُ قد يَكُونُ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ وقد يَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ قال اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ وقال عز شَأْنُهُ: {يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عليه من الْمَوْتِ} أَيْ كَنَظَرِ الْمَغْشِيِّ عليه وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ تَشْبِيهَ ذَكَاةِ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا في الِافْتِقَارِ إلَى الذَّكَاةِ وَرِوَايَةُ الرَّفْعِ تَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ أَيْضًا قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات [السموات] وَالْأَرْضُ} أَيْ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَوَاتِ فكيون [فيكون] حُجَّةً عَلَيْكُمْ. وَيُحْتَمَلُ الْكِنَايَةُ كما قالوا فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ مع أَنَّهُ من أَخْبَارِ الْآحَادِ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَأَنَّهُ دَلِيلُ عَدَمِ الثُّبُوتِ إذْ لو كان ثَابِتًا لَاشْتَهَرَ وإذا خَرَجَتْ من الدَّجَاجَةِ الْمَيِّتَةِ بَيْضَةٌ تُؤْكَلُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ اشْتَدَّ قِشْرُهَا أو لم يَشْتَدَّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ اشْتَدَّ قِشْرُهَا تُؤْكَلُ وَإِلَّا فَلَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إذَا لم يَشْتَدَّ قِشْرُهَا فَهِيَ من أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ فَتَحْرُمُ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وإذا اشْتَدَّ قِشْرُهَا فَقَدْ صَارَ شيئا آخَرَ وهو مُنْفصل عن الدَّجَاجَةِ فَيَحِلُّ وَلَنَا أَنَّهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ في نَفْسِهِ مُودَعٌ في الطَّيْرِ مُنْفصل عنه ليس من أَجْزَائِهِ فَتَحْرِيمُهَا لَا يَكُونُ تَحْرِيمًا له كما إذَا اشْتَدَّ قِشْرُهَا وَلَوْ مَاتَتْ شَاةٌ وَخَرَجَ من ضَرْعِهَا لَبَنٌ يُؤْكَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُؤْكَلُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جميعا إلَّا أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُؤْكَلُ لِكَوْنِهِ مَيْتَةً وَعِنْدَهُمَا لَا يُؤْكَلُ لِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ في الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهِ من بين فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ من وُجُوهٍ أحدهما [أحدها] أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَالِصًا فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَشُوبَهُ شَيْءٌ من النَّجَاسَةِ وَالثَّانِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ وَالْحَرَامُ لَا يَسُوغُ لِلْمُسْلِمِ وَالثَّالِثِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ إذْ الْآيَةُ خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْمِنَّةِ وَالْمِنَّةُ بِالْحَلَالِ لَا بِالْحَرَامِ. وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الأنفحة إذَا كانت مَائِعَةً وَإِنْ كانت صُلْبَةً فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُؤْكَلُ وَتُسْتَعْمَلُ في الْأَدْوِيَةِ كُلِّهَا وَعِنْدَهُمَا يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُؤْكَلُ أَصْلًا وَأَمَّا الِاضْطِرَارِيَّةُ فَرُكْنُهَا الْعَقْرُ وهو الْجَرْحُ في أَيِّ مَوْضِعٍ كان وَذَلِكَ في الصَّيْدِ وما هو في مَعْنَى الصَّيْدِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّبْحَ إذَا لم يَكُنْ مَقْدُورًا وَلَا بُدَّ من إخْرَاجِ الدَّمِ لِإِزَالَةِ الْمُحَرَّمِ وَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ وهو الدَّمُ الْمَسْفُوحُ على ما بَيَّنَّا فَيُقَامُ سَبَبُ الذَّبْحِ مَقَامَهُ وهو الْجَرْحُ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في الشَّرْعِ من إقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ عِنْدَ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ كما يُقَامُ السَّفَرُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ وَالنِّكَاحُ مَقَامَ الْوَطْءِ وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا أو مُتَوَرِّكًا مَقَامَ الْحَدَثِ وَنَحْوُ ذلك وَكَذَلِكَ ما نَدَّ من الأبل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عليها صَاحِبُهَا لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الصَّيْدِ وَإِنْ كان مُسْتَأْنِسًا. وقد رُوِيَ أَنَّ بعير [بعيرا] أند [ند] على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَمَاهُ رَجُلٌ فَقَتَلَهُ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لِهَذِهِ الأبل أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فإذا غَلَبَكُمْ منها شَيْءٌ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» وَسَوَاءٌ نَدَّ الْبَعِيرُ وَالْبَقَرُ في الصَّحْرَاءِ أو في الْمِصْرِ فَذَكَاتُهُمَا الْعَقْرُ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عن أَنْفُسِهِمَا فَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِمَا قال مُحَمَّدٌ وَالْبَعِيرُ الذي نَدَّ على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بِالْمَدِينَةِ فَدَلَّ أَنَّ نَدَّ الْبَعِيرِ في الصَّحْرَاءِ وَالْمِصْرِ سَوَاءٌ في هذا الْحُكْمِ وَأَمَّا الشَّاةُ فَإِنْ نَدَّتْ في الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عليها وَإِنْ نَدَّتْ في الْمِصْرِ لم يَجُزْ عَقْرُهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا إذْ هِيَ لَا تَدْفَعُ عن نَفْسِهَا فَكَانَ الذَّبْحُ مَقْدُورًا عليه فَلَا يَجُوزُ الْعَقْرُ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْرَ خَلَفٌ من الذَّبْحِ وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ كما في التُّرَابِ مع الْمَاءِ وَالْأَشْهُرِ مع الْأَقْرَاءِ وَغَيْرِ ذلك وَكَذَلِكَ ما وَقَعَ منها في قَلِيبٍ فلم يُقْدَرْ على إخْرَاجِهِ وَلَا على مَذْبَحِهِ وَلَا مَنْحَرِهِ فإن ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ الصَّيْدِ لِكَوْنِهِ في مَعْنَاهُ لِتَعَذُّرِ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ. وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى في الْبَعِيرِ إذَا صَالَ على رَجُلٍ فَقَتَلَهُ وهو يُرِيدُ الذَّكَاةَ حَلَّ أَكْلُهُ إذَا كان لَا يَقْدِرُ على أَخْذِهِ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ إذَا كان لَا يَقْدِرُ على أَخْذِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ فَجَعَلَ الصِّيَالَ منه كَنَدِّهِ لِأَنَّهُ يَعْجَزُ عن أَخْذِهِ فَيَعْجَزُ عن نَحْرِهِ فَيُقَامُ الْجَرْحُ فيه مَقَامَ النَّحْرِ كما في الصَّيْدِ ثُمَّ لَا خِلَافَ في الِاصْطِيَادِ بِالسَّهْمِ وَالرُّمْحِ وَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ وَنَحْوِهَا أَنَّهُ إذَا لم يَجْرَحْ لَا يَحِلُّ. وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا خَرَقَ فَكُلْ وأن أَصَابَهُ بِعَرَضٍ فَلَا تَأْكُلْ فإنه وَقِيذٌ وَأَمَّا الِاصْطِيَادُ بِالْجَوَارِحِ من الْحَيَوَانَاتِ إمَّا بِنَابٍ كَالْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَنَحْوِهِمَا وَإِمَّا بِالْمِخْلَبِ كَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ وَنَحْوِهِمَا فَكَذَلِكَ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ إذَا لم يَجْرَحْ لَا يَحِلُّ حق [حتى] لو خَنَقَ أو صَدَمَ ولم يَجْرَحْ ولم يَكْسِرْ عُضْوًا منه لَا يَحِلُّ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحِلُّ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْكَلْبَ يَأْخُذُ الصَّيْدَ على حَسْبِ ما يَتَّفِقُ له فَقَدْ يَتَّفِقُ له الْأَخْذُ بِالْجَرْحِ وقد يَتَّفِقُ بِالْخَنْقِ وَالصَّدْمِ وَالْحَالُ حَالُ الضَّرُورَةِ فَيُوَسَّعُ الْأَمْرُ فيه وَيُجْعَلُ الخندق [الخنق] وَالصَّدْمُ كَالْجَرْحِ كما وُسِّعَ في الذَّبْحِ. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ} وَهِيَ من الْجِرَاحَةَ فَيَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْجَرْحِ وَلِأَنَّ الرُّكْنَ هو إخْرَاجُ الدَّمِ وَذَلِكَ بِالذَّبْحِ في حَالِ الْقُدْرَةِ وفي حَالِ الْعَجْزِ أُقِيمَ الْجَرْحُ مَقَامَهُ لِكَوْنِهِ سَبَبًا في خُرُوجِ الدَّمِ وَلَا يُوجَدُ ذلك في الْخَنْقِ. وقد رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صَيْدِ الْمِعْرَاضِ إذَا خَرَقَ فَكُلْ وان أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تأكله [تأكل] فإنه وَقِيذٌ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال ما أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَهُوَ وَقِيذٌ وما أَصَبْت بِحَدِّهِ فَكُلْ أَرَادَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ على الْجَرْحِ وَعَدَمِ الْجَرْحِ وَسَمَّى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غير الْمَجْرُوحِ وَقِيذًا وأنه حَرَامٌ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} وَلِأَنَّهَا مُنْخَنِقَةٌ وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} فَإِنْ لم يَجْرَحْهُ ولم يَخْنُقْهُ وَلَكِنَّهُ كَسَرَ عُضْوًا منه فَمَاتَ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لم يُحْكَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فيه شَيْءٌ مُصَرِّحٌ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ وَأَطْلَقَ أَنَّهُ إذَا لم يُجْرَحْ لم يُؤْكَلْ وَهَذَا الإطلاق يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ وقال أبو يُوسُفَ إذَا جَرَحَ بِنَابٍ أو مِخْلَبٍ أو كَسَرَ عُضْوًا فَقَتَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ فَقَدْ جَعَلَ الْكَسْرَ جِرَاحَةَ باطنة فَيُلْحَقُ بِالْجِرَاحَةِ لِظَاهِرِهِ في حُكْمٍ بُنِيَ على الضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ الْأَصْلَ هو الذَّبْحُ وَإِنَّمَا أُقِيمَ الْجَرْحُ مَقَامَهُ في كَوْنِهِ سَبَبًا لِخُرُوجِ الدَّمِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ في الْكَسْرِ فَلَا يُقَامُ مَقَامَهُ وَلِهَذَا لم يَقُمْ الْخَنْقُ مَقَامَهُ وقد قالوا إذَا أَصَابَ السَّهْمُ ظِلْفَ الصَّيْدِ فَإِنْ وَصَلَ إلَى اللَّحْمِ فَأَدْمَاهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا تَفْرِيعٌ على رِوَايَةِ اعْتِبَارِ الْجَرْحِ وَلَوْ ذَبَحَ شَاةً ولم يَسِلْ منها دَمٌ قِيلَ وَهَذَا قد يَكُونُ في شَاةٍ اعْتَلَفَتْ الْعُنَّابَ. اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال أبو الْقَاسِم الصَّفَّارُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تأكل [تؤكل] لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما فَرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ فَكُلْ يُؤْكَلُ بِشَرْطِ إنْهَارِ الدَّمِ ولم يُوجَدْ وَلِأَنَّ الذَّبْحَ لم يُشْرَطْ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِخْرَاجِ الدَّمِ الْمُحَرَّمِ وَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَحِلُّ وقال أبو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ وَالْفَقِيهُ أبو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُؤْكَلُ لِوُجُودِ الذَّبْحِ وهو فرى الْأَوْدَاجِ وأنه سَبَبٌ لِخُرُوجِ الدَّمِ عَادَةً لَكِنَّهُ امْتَنَعَ لِعَارِضٍ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَصَارَ كَالدَّمِ الذي اُحْتُبِسَ في بَعْضِ الْعُرُوقِ عن الْخُرُوجِ بَعْدَ الذَّبْحِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْحِلَّ كَذَا هذا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قَطَعَ من إلية الشَّاةِ قِطْعَةً أو من فَخِذِهَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْمُبَانُ وَإِنْ ذُبِحَتْ الشَّاةُ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ حُكْمَ الذَّكَاةِ لم يَثْبُتْ في الْجُزْءِ الْمُبَانِ وَقْتَ الْإِبَانَةِ لِانْعِدَامِ ذَكَاةِ الشَّاةِ لِكَوْنِهَا حَيَّةً وَقْتَ الْإِبَانَةِ وَحَالَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ كان الْجُزْءُ مُنْفصلا وَحُكْمُ الذَّكَاةِ لَا يَظْهَرُ في الْجُزْءِ الْمُنْفصل. وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقْطَعُونَ قِطْعَةً من إلية الشَّاةِ وَمِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ فَيَأْكُلُونَهَا فلما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم الْمُكَرَّمُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَاهُمْ عن ذلك فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما أُبِينَ من الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ وَالْجُزْءُ الْمَقْطُوعُ مُبَانٌ من حَيٍّ وَبَائِنٌ منه فَيَكُونُ مَيِّتًا وَكَذَلِكَ إذَا قُطِعَ ذلك من صَيْدٍ لم يُؤْكَلْ الْمَقْطُوعُ وَإِنْ مَاتَ الصَّيْدُ بَعْدَ ذلك لِمَا قُلْنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤْكَلُ إذَا مَاتَ الصَّيْدُ بِذَلِكَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إن شاء الله تعالى. وَإِنْ قُطِعَ فَتَعَلَّقَ الْعُضْوُ بِجِلْدِهِ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ من التَّعَلُّقِ لَا يُعْتَبَرُ. فَكَانَ وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كان مُتَعَلِّقًا بِاللَّحْمِ يُؤْكَلُ الْكُلُّ لِأَنَّ الْعُضْوَ الْمُتَعَلِّقَ بِاللَّحْمِ من جُمْلَةِ الْحَيَوَانِ وَذَكَاةُ الْحَيَوَانِ تَكُونُ لِمَا اتَّصَلَ بِهِ وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا بِسَيْفٍ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ يُؤْكَلُ النِّصْفَانِ عِنْدَنَا جميعا وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ لِأَنَّهُ وَجَدَ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ لِكَوْنِهَا مُتَّصِلَةً من الْقَلْبِ بِالدِّمَاغِ فَأَشْبَهَ الذَّبْحَ فَيُؤْكَلُ الْكُلُّ وَإِنْ قَطَعَ أَقَلَّ من النِّصْفِ فَمَاتَ فَإِنْ كان مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَا يُؤْكَلُ الْمُبَانُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يُؤْكَلُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْجَرْحَ في الصَّيْدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَهُوَ ذَكَاةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ وَإِنَّهَا سَبَبُ الْحِلِّ كَالذَّبْحِ. وَلَنَا قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أُبِينَ من الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» وَالْمَقْطُوعُ مُبَانٌ من الْحَيِّ فَيَكُونُ مَيِّتًا وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الْجَرْحَ الذي اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ ذَكَاةٌ في الصَّيْدِ فَنَعَمْ لَكِنَّ حَالَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ عن الْمَحَلِّ وَعِنْدَ الْإِبَانَةِ الْمَحَلُّ كان حَيًّا فلم يَقَعْ الْفِعْلُ ذَكَاةً له وَعِنْدَمَا صَارَ ذَكَاةً كان الْجُزْءُ مُنْفصلا وَحُكْمُ الذَّكَاةِ لَا يَلْحَقُ الْجُزْءَ الْمُنْفصل وَإِنْ كان مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ يُؤْكَلُ الْكُلُّ لِوُجُودِ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ فَكَانَ الْفِعْلُ حَالَ وُجُودِهِ ذَكَاةً حَقِيقَةً فَيَحِلُّ بِهِ الْكُلُّ وَإِنْ ضَرَبَ رَأْسَ صَيْدٍ فَأَبَانَهُ نِصْفَيْنِ طُولًا أو عَرْضًا يوكل كُلُّهُ في قَوْلِ أبي حينفة [حنيفة] وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا يوكل النِّصْفُ الْبَائِنُ ويوكل ما بَقِيَ من الصَّيْدِ. وَالْأَصْلُ فيه ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوْدَاجَ مُتَّصِلَةٌ بِالدِّمَاغِ فَتَصِيرُ مَقْطُوعَةً بِقَطْعِ الرَّأْسِ وكان أبو يُوسُفَ على هذا ثُمَّ ظَنَّ أنها لَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا يَلِي الْبَدَنَ من الرَّأْسِ وَإِنْ كان الْمُبَانُ أَكْثَرَ من النِّصْفِ فَكَذَلِكَ يوكل الْكُلُّ لِأَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْعُرُوقَ فلم يَكُنْ ذلك ذَبْحًا بَلْ كان جَرْحًا وَأَنَّهُ لَا يُبِيحُ الْمُبَانَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا شَرَائِطُ رُكْنِ الذَّكَاةِ فَأَنْوَاعُ بَعْضُهَا يَعُمُّ نَوْعَيْ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالِاضْطِرَارِيَّة وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ أَمَّا الذي يَعُمُّهُمَا فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ وَالسَّكْرَانُ الذي لَا يَعْقِلُ لِمَا نَذْكُرُ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنْ كان الصَّبِيُّ يَعْقِلُ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُ عليه تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَكَذَا السَّكْرَانُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أو كتابيًّا فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ. أَمَّا ذَبِيحَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وما أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ} وَقَوْلِهِ عز وجل: {وما ذُبِحَ على النُّصُبِ} أَيْ لِلنُّصُبِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ التي يَعْبُدُونَهَا وَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِ فَلِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكتاب غير نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى على الذَّبِيحَةِ من شَرَائِطِ الْحِلِّ عِنْدَنَا لِمَا نَذْكُرُ ولم يُوجَدْ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ على الدِّينِ الذي انْتَقَلَ إلَيْهِ فَكَانَ كَالْوَثَنِيِّ الذي لَا يُقَرُّ على دِينِهِ وَلَوْ كان الْمُرْتَدُّ غُلَامًا مُرَاهِقًا لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ أبي حينفة [حنيفة] وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُؤْكَلُ بِنَاءً على أَنَّ رِدَّتَهُ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَصِحُّ وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الْكتاب لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكتاب حِلٌّ لَكُمْ} وَالْمُرَادُ منه ذَبَائِحُهُمْ إذْ لو لم يَكُنِ الْمُرَادُ ذلك لم يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ بِأَهْلِ الْكتاب مَعْنًى لِأَنَّ غير الذَّبَائِحِ من أَطْعِمَةِ الْكَفَرَةِ مَأْكُولٌ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الطَّعَامِ يَقَعُ على الذَّبَائِحِ كما يَقَعُ على غَيْرِهَا لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَطَعَّمُ وَالذَّبَائِحُ مِمَّا يُتَطَعَّمُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ اطلاق اسْمِ الطَّعَامِ فَيَحِلُّ لنا أَكْلُهَا وَيَسْتَوِي فيه أَهْلُ الْحَرْبِ منهم وَغَيْرُهُمْ لِعُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَكَذَا يَسْتَوِي فيه نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ إلى دِينِ النَّصَارَى إلَّا أَنَّهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ عُمُومُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ. وقال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ الْكتاب وَقَرَأَ قَوْلَهُ عز شَأْنُهُ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكتاب إلَّا أَمَانِيَّ} وقال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما تُؤْكَلُ وَقَرَأَ قَوْلَهُ عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإنه منهم} وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ التي تَلَاهَا سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه دَلِيلٌ على أَنَّهُمْ من أَهْلِ الْكتاب لِأَنَّهُ قال عز وجل: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكتاب} أَيْ من أَهْلِ الْكتاب وَكَلِمَةُ من لِلتَّبْعِيضِ إلَّا أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ من النَّصَارَى في بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ وَذَا يُخْرِجُهُمْ عن كَوْنِهِمْ نَصَارَى كَسَائِرِ النَّصَارَى فَإِنْ انْتَقَلَ الْكتابيُّ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكتاب من الْكَفَرَةِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لو انْتَقَلَ إلَى ذلك الدِّينِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ فَالْكتابيُّ أَوْلَى وَلَوْ انْتَقَلَ غَيْرُ الْكتابيِّ من الْكَفَرَةِ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكتاب تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ. وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِ وَدِينِهِ فيه أنه ينظر إلى حاله ودينه وَقْتِ ذَبِيحَتِهِ دُونَ ما سِوَاهُ وَهَذَا أَصْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ من انْتَقَلَ من مِلَّةِ يُقَرُّ عليها يُجْعَلُ كَأَنَّهُ من أَهْلِ تِلْكَ الْمِلَّةِ من الْأَصْلِ على ما ذَكَرْنَا في كتاب النِّكَاحِ وَالْمَوْلُودُ بين كتابيٍّ وَغَيْرِ كتابيٍّ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ أَيُّهُمَا كان الْكتابيُّ الْأَبُ أو الْأُمُّ عِنْدَنَا قال مَالِكٌ يُعْتَبَرُ الْأَبُ فَإِنْ كان كتابيًّا تُؤْكَلُ وَإِلَّا فَلَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ رَأْسًا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ جَعْلَ الْوَلَدِ تَبَعًا لِلْكتابيِّ مِنْهُمَا أَوْلَى لِأَنَّهُ خَيْرُهُمَا دِينًا بِالنِّسْبَةِ فَكَانَ بِاتِّبَاعِهِ اياه أَوْلَى وَأَمَّا الصَّابِئُونَ فَتُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا تُؤْكَلُ وَاخْتِلَافُ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ في الصَّابِئِينَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ هُمْ وقد ذَكَرْنَا ذلك في كتاب النِّكَاحِ ثُمَّ إنَّمَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْكتابيِّ إذَا لم يُشْهَدْ ذَبْحُهُ ولم يُسْمَعْ منه شَيْءٌ أو سُمِعَ وَشُهِدَ منه تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَسْمَعْ شيئا يُحْمَلُ على أَنَّهُ قد سَمَّى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجَرَّدَ التَّسْمِيَةَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ كما بِالْمُسْلِمِ. وَلَوْ سُمِعَ منه ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ عَنَى بِاَللَّهِ عز وجل الْمَسِيحَ عليه السلام قالوا تُؤْكَلُ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ تَسْمِيَةً هِيَ تَسْمِيَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا إذَا نَصَّ فقال بِسْمِ اللَّهِ الذي هو ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَلَا تَحِلُّ وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكتاب وَهُمْ يَقُولُونَ ما يَقُولُونَ فقال رضي اللَّهُ عنه قد أَحَلَّ اللَّهُ ذَبَائِحَهُمْ وهو يَعْلَمُ ما يَقُولُونَ فَأَمَّا إذَا سُمِعَ منه أَنَّهُ سَمَّى الْمَسِيحَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحْدَهُ أو سَمَّى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسَمَّى الْمَسِيحَ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ كَذَا رَوَى سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه ولم يُرْوَ عنه غَيْرِهِ خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِقَوْلِهِ عز وجل: {وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} وَهَذَا أُهِلّ لِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل بِهِ فَلَا يُؤْكَلُ وَمَنْ أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أُكِلَ صَيْدُهُ الذي صَادَهُ بِالسَّهْمِ أو بِالْجَوَارِحِ وَمَنْ لَا فَلَا ولأن أَهْلِيَّةَ الْمُذَكِّي شَرْطٌ في نَوْعَيْ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالِاضْطِرَارِيَّةِ جميعا وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ حَالَةَ الذِّكْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَصْلًا وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ انها شَرْطٌ حَالَةَ الذِّكْرِ وَالسَّهْوِ حتى لَا يُحِلَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا عِنْدَهُ. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَمَّا الْكَلَام مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ} أَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ انه لَا يَجِدُ فِيمَا أوحى إلَيْهِ مُحَرَّمًا سِوَى الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ لم يَدْخُلْ فيها فَلَا يَكُونُ مُحَرَّمًا وَلَا يُقَالُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لم يَكُنْ الْمُحَرَّمُ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سِوَى الْمَذْكُورِ فيها ثُمَّ حُرِّمَ بَعْدَ ذلك مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه} لِأَنَّهُ قِيلَ إنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَلَوْ كان مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ مُحَرَّمًا لَكَانَ وَاجِدًا له فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ كما اسْتَثْنَى الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّى أكل [كل] ما لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه فِسْقًا بِقَوْلِهِ عز وجل: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَلَا فِسْقَ إلَّا بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَلَا تُحْمَلُ إلَّا على الْمَيْتَةِ وَذَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ في سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأَنَّ الْعَامَّ لَا يُخَصُّ بِالسَّبَبِ عِنْدَنَا بَلْ يَعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لِمَا عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ مع ما أَنَّ الْحَمْلَ على ذلك حَمْلٌ على التَّكْرَارِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ وَذَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ ثَبَتَتْ بِنُصُوصٍ أُخَرَ وَهِيَ قَوْلُهُ عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} وَقَوْلُهُ عز وجل: {وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. وَقَوْلُهُ عز وجل: {وما ذُبِحَ على النُّصُبِ} فَالْحَمْلُ على ما قَالَهُ يَكُونُ حَمْلًا على ما قُلْنَا وَيَكُونُ حَمْلًا على فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ فَكَانَ أَوْلَى وَقَوْلُهُ عز وجل: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عليها صَوَافَّ} وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ في حَقِّ الْعَمَلِ وَلَوْ لم يَكُنْ شَرْطًا لَمَا وَجَبَ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ رضي اللَّهُ عنهما قال سَأَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صَيْدِ الْكَلْبِ فقال ما أَمْسَكَ عَلَيْكَ ولم يَأْكُلْ منه فَكُلْهُ فإن أَخْذَهُ ذَكَاتُهُ فَإِنْ وَجَدْتَ عِنْدَ كَلْبِكَ غَيْرَهُ فَحَسِبْتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ معه وقد قَتَلَهُ فَلَا تَأْكُلْ لِأَنَّكَ إنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى على كَلْبِكَ ولم تَذْكُرْهُ على كَلْبِ غَيْرِك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الْأَكْلِ وَعَلَّلَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ فَدَلَّ أنها شَرْطٌ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَفِيهَا أَنَّهُ كان يَجِدُ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مُحَرَّمًا سِوَى الْمَذْكُورِ فيها فَاحْتُمِلَ أَنَّهُ كان كَذَلِكَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وُجِدَ تَحْرِيمُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ بَعْدَ ذلك لِمَا تَلَوْنَا كما كان لَا يَجِدُ تَحْرِيمَ كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ وَتَحْرِيمَ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ عِنْدَ نُزُولِهَا ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ ذلك بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ أو غَيْرِ مَتْلُوٍّ على ما ذَكَرْنَا وَأَمَّا ما يُرْوَى أَنَّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ نَزَلَتْ كُلُّهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فمروى على طَرِيقِ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ في إبْطَال حُرْمَةٍ ثَبَتَتْ بِالْكتاب على أَنَّ الْمَذْكُورَ فيها من جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى الْمَيْتَةُ فما الدَّلِيلُ على أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ليس بِمَيْتَةٍ بَلْ هو مَيْتَةٌ عِنْدَنَا مع أَنَّهُ لَا يَجِدُ فِيمَا أوحى إلَيْهِ مُحَرَّمًا سِوَى الْمَذْكُورِ وَنَحْنُ لَا نُطْلِقُ اسْمَ الْمُحَرَّمِ على مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إذْ الْمُحَرَّمُ الْمُطْلَقُ ما ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ولم يُوجَدْ ذلك في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ إذَا كان الِاخْتِلَافُ بين أَهْلِ الدِّيَانَةِ وَإِنَّمَا نُسَمِّيهِ مَكْرُوهًا أو مُحَرَّمًا في حَقِّ الِاعْتِقَادِ قَطْعًا على طَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ على الْإِبْهَامِ أَنَّ ما أَرَادَ اللَّهُ عز وجل من هذا النَّهْيِ فَهُوَ حَقٌّ لَكِنَّا نَمْتَنِعُ عن أَكْلِهِ احْتِيَاطًا وهو تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ في حَقِّ الْعَمَلِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مع مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ احْتَجَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه} من غَيْرِ فصل بين الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمَّا كانت وَاجِبَةً حَالَةَ الْعَمْدِ فَكَذَا حَالَةَ النِّسْيَانِ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَالْحَظْرَ كَالْخَطَأِ حتى كان النَّاسِي والخاطىء [والخاطئ] جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَقْلًا وَلِهَذَا اسْتَوَى الْعَمْدُ وَالسَّهْوُ في تَرْكِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا من الشَّرَائِطِ وَالْكَلَامُ في الصَّلَاةِ عَمْدًا أو سَهْوًا عِنْدَكُمْ كَذَا هَهُنَا. وَلَنَا ما رُوِيَ عن رَاشِدِ بن سعيد [سعد] عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ سمي أو لم يُسَمِّ ما لم يَتَعَمَّدْ وَهَذَا نَصٌّ في الْباب وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا تَتَنَاوَلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أَيْ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ فِسْقٌ وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا لَا يَكُونُ فِسْقًا وَكَذَا كُلُّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا لَا يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْفِسْقِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَفِيهَا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ من الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا سَهْوًا. وَالثَّانِي أَنَّ النَّاسِيَ لم يَتْرُكْ التَّسْمِيَةَ بَلْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عز وجل وَالذِّكْرُ قد يَكُونُ بِاللِّسَانِ وقد يَكُونُ بِالْقَلْبِ قال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ من أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عن ذِكْرِنَا} وَالنَّاسِي ذَاكِرٌ بِقَلْبِهِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عن رَجُلٍ ذَبَحَ وَنَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عليه فقال رضي اللَّهُ عنه اسْمُ اللَّهِ عز وجل في قَلْبِ كل مُسْلِمٍ فَلْيَأْكُلْ وَعَنْهُ رِوَايَةٍ أُخْرَى قال إنَّ الْمُسْلِمَ ذَكَرَ اللَّهَ في قَلْبِهِ وقال كما لَا يَنْفَعُ الإسم في الشِّرْكِ لَا يَضُرُّ النِّسْيَانُ في الْإِسْلَامِ وَعَنْهُ رضي اللَّهُ عنه في رِوَايَةٍ أُخْرَى قال في الْمُسْلِمِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فإذا ذَبَحَ وَنَسِيَ أَنْ يسمى فَكُلْ وإذا ذَبَحَ الْمَجُوسِيُّ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَطْعَمْهُ. وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه سُئِلَ عن هذا فقال إنَّمَا هِيَ عِلَّةُ الْمَسْأَلَةِ فَثَبَتَ أَنَّ النَّاسِيَ ذَاكِرٌ فَكَانَتْ ذَبِيحَتُهُ مَذْكُورَ التَّسْمِيَةِ فَلَا تَتَنَاوَلُهَا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ النِّسْيَانَ لَا يَدْفَعُ التَّكْلِيفَ وَلَا يَدْفَعُ الْحَظْرَ حتى لم يُجْعَلْ عُذْرًا في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ على ما ضُرِبَ من الْأَمْثِلَةِ فَنَقُولُ النِّسْيَانُ جُعِلَ عُذْرًا مَانِعًا من التَّكْلِيفِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ ولم يُجْعَلْ عُذْرًا فِيمَا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لِأَنَّهُ لو لم يُجْعَلْ عُذْرًا فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَالْأَصْلُ فيه إن من لم يُعَوِّدْ نَفْسَهُ فِعْلًا يُعْذَرُ في تَرْكِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ سَهْوًا لِأَنَّ حِفْظَ النَّفْسِ عن الْعَادَةِ التي هِيَ طَبِيعَةٌ خَامِسَةٌ خَطْبٌ صَعْبٌ وَأَمْرٌ أَمَرُّ فَيَكُونُ النِّسْيَانُ فيه غَالِبَ الْوُجُودِ فَلَوْ لم يُعْذَرْ لَلَحِقَهُ الْحَرَجُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا لم يُعَوِّدْ نَفْسَهُ مِثَالُهُ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ من الصَّائِمِ سَهْوًا جُعِلَ عُذْرًا في الشَّرْعِ حتى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ عَوَّدَ نَفْسَهُ ذلك ولم يُعَوِّدْهَا ضِدَّهُ وهو الْكَفُّ عن الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ولم يُجْعَلْ ذلك عُذْرًا في المصلى لِأَنَّهُ لم يُعَوِّدْ نَفْسَهُ ذلك في كل زَمَانٍ بَلْ في وَقْتٍ مَعْهُودٍ وهو الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ خُصُوصًا في حَالِ الصَّلَاةِ التي تُخَالِفُ أَوْقَاتَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَكَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فيها في غَايَةِ النُّدْرَةِ فلم يُجْعَلْ عُذْرًا. وَالْكَلَامُ في الصَّلَاةِ من هذا الْقَبِيلِ لِأَنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ تَمْنَعُ من ذلك عَادَةً فَكَانَ النِّسْيَانُ فيها نَادِرًا فلم يُجْعَلْ عُذْرًا وَكَذَلِكَ تَرْكُ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ سَهْوًا لِأَنَّ الشُّرُوعَ في الصَّلَاةِ يَكُونُ بها وَتَرْكُهَا سَهْوًا عِنْدَ تَصْمِيمِ الْعَزْمِ على الشُّرُوعِ فيها مِمَّا يَنْدُرُ فلم يُعْذَرْ وَكَذَا تَرْكُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ حُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ سَهْوًا لِأَنَّ الْمُسْلِمَ على اسْتِعْدَادِ الصَّلَاةِ عِنْدَ هُجُومِ وَقْتِهَا عَادَةً فَالشُّرُوعُ في الصَّلَاةِ من غَيْرِ طَهَارَةٍ سَهْوًا يَكُونُ نَادِرًا فَلَا يُعْذَرُ وَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ فَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمْرٌ لم يُعَوِّدْهُ الذَّابِحُ نَفْسَهُ لِأَنَّ الذَّبْحَ على مَجْرَى الْعَادَةِ يَكُونُ من الْقَصَّابِينَ وَمِنْ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ لم يُعَوِّدُوا أَنْفُسَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ عز وجل فَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ منهم سَهْوًا لَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ بَلْ يَغْلِبُ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الْمُوَفِّقُ. وإذا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ حَالَةَ الذِّكْرِ من شَرَائِطِ الْحِلِّ عِنْدَنَا فَبَعْدَ ذلك يَقَعُ الْكَلَامُ في بَيَانِ رُكْنِ التَّسْمِيَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ وَقْتِ التَّسْمِيَةِ أَمَّا رُكْنُهَا فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عز وجل أَيِّ اسْمٍ كان لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عليه إنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} من غَيْرِ فصل بين اسْمٍ وَاسْمٍ وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه} لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ اسْمًا من أَسْمَاءِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يَكُنْ الْمَأْكُولُ مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه فلم يَكُنْ مُحَرَّمًا وَسَوَاءٌ قَرَنَ بِالِاسْمِ الصِّفَةَ بِأَنْ قال اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَجَلُّ اللَّهَ أَعْظَمُ اللَّهَ الرَّحْمَنَ اللَّهَ الرَّحِيمَ وَنَحْوُ ذلك أو لم يَقْرِنْ بِأَنْ قال اللَّهَ أو الرَّحْمَنَ أو الرَّحِيمَ أو غير ذلك لِأَنَّهُ الْمَشْرُوطُ بِالْآيَةِ عز شَأْنُهُ وقد وُجِدَ وَكَذَا في حديث عَدِيِّ بن حَاتِمٍ رضي اللَّهُ عنهما إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عليه فَكُلْ من غَيْرِ فصل بين اسْمٍ وَاسْمٍ. وَكَذَا التَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّسْبِيحُ سَوَاءٌ كان جَاهِلًا بِالتَّسْمِيَةِ الْمَعْهُودَةِ أو عَالِمًا بها لِمَا قُلْنَا وَهَذَا ظَاهِرٌ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رضي اللَّهُ عنهما في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا في الصَّلَاةِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أو الْحَمْدِ لِلَّهِ أو سُبْحَانَ اللَّهِ فَهَهُنَا أَوْلَى وَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَتَصِحُّ بها عِنْدَهُ فَيَحْتَاجُ هو إلَى الْفَرْقِ. وَالْفَرْقُ له أَنَّ الشَّرْعَ ما وَرَدَ هُنَاكَ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَهَهُنَا وَرَدَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَوَاءٌ كانت التَّسْمِيَةُ بِالْعَرَبِيَّةِ أو بِالْفَارِسِيَّةِ أو أَيِّ لِسَانٍ كان وهو لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أو يُحْسِنُهَا كَذَا روي بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لو أَنَّ رَجُلًا سَمَّى على الذَّبِيحَةِ بِالرُّومِيَّةِ أو بِالْفَارِسِيَّةِ وهو يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أو لَا يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ ذلك عن التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ الشَّرْطَ في الْكتاب الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا عن الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في اعْتِبَارِهِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ في تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَيَسْتَوِي في الذَّبْحِ التَّكْبِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ وَالْعَجَمِيَّةُ من طَرِيقِ الْأَوْلَى فَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَهُمَا يَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ بين التَّكْبِيرِ وَالتَّسْمِيَةِ حَيْثُ قَالَا في التَّسْمِيَةِ أنها جَائِزَةٌ بِالْعَجَمِيَّةِ سَوَاءٌ كان يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أو لَا يُحْسِنُ وفي التَّكْبِيرِ لَا يَجُوزُ بِالْعَجَمِيَّةِ إلَّا إذَا كان لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هَهُنَا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يُوجَدُ بِكُلِّ لِسَانٍ وَالشَّرْطُ هُنَاكَ لَفْظَةُ التَّكْبِيرِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ امرىء حتى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ نَفَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَبُولَ بِدُونِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ وَلَا يُوجَدُ ذلك بِغَيْرِ لَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ. وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ من الذَّابِحِ حتى لو سَمَّى غَيْرُهُ وَالذَّابِحُ سَاكِتٌ وهو ذَاكِرٌ غَيْرُ نَاسٍ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الْمُرَادَ من قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه} أَيْ لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه من الذَّابِحِ فَكَانَتْ مَشْرُوطَةً فيه وَمِنْهَا أَنْ يُرِيدَ بها التَّسْمِيَةَ على الذَّبِيحَةِ فإن من أَرَادَ بها التَّسْمِيَةَ لِافْتِتَاحِ الْعَمَلِ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عليه في الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَلَا يَكُونُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عليه إلَّا وَأَنْ يُرَادَ بها التَّسْمِيَةُ على الذَّبِيحَةِ وَعَلَى هذا إذَا قال الْحَمْدُ لِلَّهِ ولم يُرِدْ بِهِ الْحَمْدَ على سَبِيلِ الشُّكْرِ لَا يَحِلُّ وَكَذَا لو سَبَّحَ أو هَلَّلَ أو كَبَّرَ ولم يُرِدْ بِهِ التَّسْمِيَةَ على الذَّبِيحَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَصْفَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنَزُّهِ عن صِفَاتِ الْحُدُوثِ لَا غَيْرُ لَا يَحِلُّ لِمَا قُلْنَا وَمِنْهَا تَجْرِيدُ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن اسْمِ غَيْرِهِ وَإِنْ كان اسْمَ النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو قال بِسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ الرَّسُولِ لَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. وَقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَوْطِنَانِ لَا أُذْكَرُ فِيهِمَا عِنْدَ الْعُطَاسِ وَعِنْدَ الذَّبْحِ» وَقَوْلِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَذْكُرُونَ مع اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرَهُ فَتَجِبُ مُخَالَفَتُهُمْ بِالتَّجْرِيدِ وَلَوْ قال بِسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَإِنْ قال وَمُحَمَّدٍ بِالْجَرِّ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ في اسْمِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ اسْمَ غَيْرِهِ وَإِنْ قال مُحَمَّدٌ بِالرَّفْعِ يَحِلُّ لِأَنَّهُ لم يَعْطِفْهُ بَلْ اسْتَأْنَفَ فلم يُوجَدْ الْإِشْرَاكُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِوُجُودِ الْوَصْلِ من حَيْثُ الصُّورَةُ فَيُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْحَرَامِ فَيُكْرَهُ. وَإِنْ قال وَمُحَمَّدًا بِالنَّصْبِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَحِلُّ لِأَنَّهُ ما عَطَفَ بَلْ اسْتَأْنَفَ إلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ في الْإِعْرَابِ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ انْتِصَابَهُ بِنَزْعِ الْحَرْفِ الْخَافِضِ كَأَنَّهُ قال وَمُحَمَّدٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِشْرَاكِ فَلَا يَحِلُّ هذا إذَا ذَكَرَ الْوَاوَ فَإِنْ لم يذكر بِأَنْ قال بِسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يَحِلُّ كَيْفَمَا كان لِعَدَمِ الشركة [شركه] وَمِنْهَا أَنْ يَقْصِدَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمَهُ على الْخُلُوصِ وَلَا يَشُوبُهُ مَعْنَى الدُّعَاءِ حتى لو قال اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي لم يَكُنْ ذلك تَسْمِيَةً لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَالدُّعَاءُ لَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ الْمَحْضُ فَلَا يَكُونُ تَسْمِيَةً كما لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا وفي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ كما في التَّكْبِيرِ. أَمَّا وَقْتُ التَّسْمِيَةِ فَوَقْتُهَا في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَقْتُ الذَّبْحِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عليه إلَّا بِزَمَانٍ قَلِيلٍ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عليه} وَالذَّبْحُ مُضْمَرٌ فيه مَعْنَاهُ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عليه من الذَّبَائِحِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى على الذَّبِيحَةِ إلَّا وَقْتَ الذَّبْحِ وَكَذَا قِيلَ في تَأْوِيلِ الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ أن الذَّبْحَ مُضْمَرٌ فِيهِمَا أَيْ فَكُلُوا مِمَّا ذُبِحَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عليه وما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُبِحَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عليه فَكَانَ وَقْتُ التَّسْمِيَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَقْتَ الذَّبْحِ. وَأَمَّا الذَّكَاةُ الِاضْطِرَارِيَّةُ فَوَقْتُهَا وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ لَا وَقْتُ الْإِصَابَةِ لِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بن حَاتِمٍ رضي اللَّهُ عنه حين سَأَلَهُ عن صَيْدِ الْمِعْرَاضِ وَالْكَلْبِ إذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عليه فَكُلْ وَإِنْ أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عليه فَكُلْ وَقَوْلُهُ عليه أَيْ على الْمِعْرَاضِ وَالْكَلْبِ وَلَا تَقَعُ التَّسْمِيَةُ على السَّهْمِ وَالْكَلْبِ إلَّا عِنْدَ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ فَكَانَ وَقْتُ التَّسْمِيَةِ فيها هو وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ وَالْمَعْنَى هَكَذَا يَقْتَضِي وهو أَنَّ التَّسْمِيَةَ شَرْطٌ وَالشَّرَائِطُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا حَالَ وُجُودِ الرُّكْنِ لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِهَا يَصِيرُ الرُّكْنُ عِلَّةً كما في سَائِرِ الْأَرْكَانِ مع شَرَائِطِهَا هو الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَالرُّكْنُ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ هو الذَّبْحُ وفي الِاضْطِرَارِيَّةِ هو الْجَرْحُ وَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى الرَّامِي وَالْمُرْسِلِ وَإِنَّمَا السَّهْمُ وَالْكَلْبُ آلَةُ الْجَرْحِ وَالْفِعْلُ يُضَافُ إلَى مُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لِذَلِكَ اُعْتُبِرَ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ وَقْتَ الذَّبْحِ وَالْجَرْحِ وهو وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ في الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ لَيْسَتْ من صُنْعِ الْعَبْدِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا سَبَبًا بَلْ مَحْضُ صُنْعِ اللَّهِ عز وجل يَعْنِي بِهِ مَصْنُوعَهُ هو مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمُتَوَلِّدَاتِ وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الْعَبْدِ وَمَقْدُورُ الْعَبْدِ ما يَقُومُ بِمَحَلِّ قُدْرَتِهِ وهو نَفْسُهُ وَذَلِكَ هو الرَّمْيُ السَّابِقُ وَالْإِرْسَالُ السَّابِقُ فَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُمَا على أَنَّ الْإِصَابَةَ قد تَكُونُ وقد لَا تَكُونُ فَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ التَّسْمِيَةِ عليها. وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما روي بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قال لو أَنَّ رَجُلًا اضجع شَاةً لِيَذْبَحَهَا وَسَمَّى ثُمَّ بَدَا له فَأَرْسَلَهَا وَأَضْجَعَ أُخْرَى فَذَبَحَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لم يُجْزِهِ ذلك وَلَا تُؤْكَلُ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ على الذَّبِيحَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَسَمَّى فَأَخْطَأَ وَأَصَابَ آخَرَ فَقَتَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَ كَلْبًا على صَيْدٍ فَأَخْطَأَ فَأَخَذَ غير الذي أَرْسَلَهُ عليه فَقَتَلَهُ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ على السَّهْمِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ. وَذُكِرَ في الْأَصْلِ أَرَأَيْتَ الذَّابِحَ يَذْبَحُ الشَّاتَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فيسمى على الْأُولَى وَيَدَعُ التَّسْمِيَةَ على غَيْرِ ذلك عَمْدًا قال يَأْكُلُ الشَّاةَ التي سَمَّى عليها وَلَا يَأْكُلُ ما سِوَى ذلك لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا وَسَمَّى عليها ثُمَّ أَلْقَى السِّكِّينَ وَأَخَذَ سِكِّينًا آخَرَ فَذَبَحَ بِهِ يُؤْكَلُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ تَقَعُ على الْمَذْبُوحِ لَا على الْآلَةِ وَالْمَذْبُوحُ وَاحِدٌ فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ الْآلَةِ بِخِلَافِ ما إذَا سَمَّى على سَهْمٍ ثُمَّ رَمَى بِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ في الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ تَقَعُ على السَّهْمِ لَا على المرمى إلَيْهِ. وقد اخْتَلَفَ السَّهْمُ فَالتَّسْمِيَةُ على أَحَدِهِمَا لَا تَكُونُ تَسْمِيَةً على الْآخَرِ وَلَوْ أَضْجَعَ شَاةً لِيَذْبَحَهَا وَسَمَّى عليها فَكَلَّمَهُ إنْسَانٌ فَأَجَابَهُ أو اسْتَسْقَى مَاءً فَشَرِبَ أو أَخَذَ السكن [السكين] فَإِنْ كان قَلِيلًا ولم يَكْثُرْ ذلك منه ثُمَّ ذَبَحَ على تِلْكَ التَّسْمِيَةِ تُؤْكَلُ وَإِنْ تَحَدَّثَ وَأَطَالَ الحديث أو أَخَذَ في عَمَلٍ آخَرَ أو حَدَّ شَفْرَتَهُ أو كانت الشَّاةُ قَائِمَةً فَصَرَعَهَا ثُمَّ ذَبَحَ لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ زَمَانَ ما بين التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ إذَا كان يَسِيرًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ سَمَّى مع الذَّبْحِ وإذا كان طَوِيلًا يَقَعُ فَاصِلًا بين التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَمَّى في يَوْمٍ وَذَبَحَ في يَوْمٍ آخَرَ فلم تُوجَدْ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ مُتَّصِلَةً بِهِ وَلَوْ سَمَّى ثُمَّ انْقَلَبَتْ الشَّاةُ وَقَامَتْ من مَضْجَعِهَا ثُمَّ أَعَادَهَا إلَى مَضْجَعِهَا فَقَدْ انْقَطَعَتْ التَّسْمِيَةُ. وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا رَمَى صَيْدًا ولم يُسَمِّ مُتَعَمِّدًا ثُمَّ سَمَّى بَعْدَ ذلك أو أَرْسَلَ كَلْبًا وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ مُتَعَمِّدًا فلما مَضَى الْكَلْبُ في تَبَعِ الصَّيْدِ سَمَّى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لم تُوجَدْ وَقْتَ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ وَكَذَا لو مَضَى الْكَلْبُ إلَى الصَّيْدِ فَزَجَرَهُ وَسَمَّى وَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ أنه لَا يُؤْكَلُ أَيْضًا وَفَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا تبع [اتبع] الْكَلْبُ الصَّيْدَ بِنَفْسِهِ من غَيْرِ أَنْ يُرْسِلَهُ أَحَدٌ ثُمَّ زَجَرَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ إنْ انْزَجَرَ بِزَجْرِهِ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ يُؤْكَلُ وَإِنْ لم يَنْزَجِرْ لَا يُؤْكَلُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هذا إن شاء الله تعالى. وَلَوْ رَمَى أو أَرْسَلَ وهو مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ أو كان حَلَالًا فَأَحْرَمَ قبل الْإِصَابَةِ وَأَخَذَ الصَّيْدَ يَحِلُّ وَلَوْ كان مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ وَسَمَّى لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ كما بَيَّنَّا فتراعي الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَ ذلك وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَنْبَنِي شَرْطُ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ بِالتَّسْمِيَةِ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وهو بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي من الشَّرَائِطِ التي تَخُصُّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُذَكِّي وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الذَّكَاةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الذَّكَاةِ. أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُذَكِّي فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا وَهَذَا في الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ دُونَ الِاخْتِيَارِيَّةِ حتى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدَ الْبَرِّ وَسَمَّى لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عن قَتْلِ الصَّيْدِ لِحَقِّ الْإِحْرَامِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أَيْ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ وَقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ غير مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَالصَّيْدُ إلَّا ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ من الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ إلَى آخِرِهِ: {غير مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصَّيْدَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {غير مُحِلِّي الصَّيْدِ} وَإِنَّمَا يستثني الشَّيْءُ من الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَجُعِلَ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من الْإِبَاحَةِ تَحْرِيمٌ فَكَانَ اصْطِيَادُ الْمُحْرِمِ مُحَرَّمًا فَكَانَ صَيْدُهُ مَيْتَةً كَصَيْدِ الْمَجُوسِيِّ سَوَاءٌ اصْطَادَ بِنَفْسِهِ أو أصطيد له بِأَمْرِهِ لِأَنَّ ما صِيدَ له بِأَمْرِهِ فَهُوَ صَيْدُهُ مَعْنًى وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمُسْتَأْنَسِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ خُصَّ بِالصَّيْدِ فَبَقِيَ غَيْرُهُ على عُمُومِ الْإِبَاحَةِ وَيَحِلُّ له صَيْدُ الْبَحْرِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} وقد مَرَّ ذلك. وَأَمَّا الذي يَرْجِعْ إلَى مَحَلِّ الذَّكَاةِ فَمِنْهَا تَعْيِينُ الْمَحَلِّ بِالتَّسْمِيَةِ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَلَا يُشْتَرَطُ ذلك في الذَّكَاةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ إلَى الصَّيْدِ لِأَنَّ الشَّرْطَ في الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى على الذَّبِيحِ لِمَا تَلَوْنَا من الْآيَاتِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِتَعْيِينِ الذَّبِيحِ بِالتَّسْمِيَةِ وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا كان وَاجِبًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَالتَّعْيِينُ في الصَّيْدِ ليس بِمَقْدُورٍ لِأَنَّ الصَّائِدَ قد يَرْمِي وَيُرْسِلُ على قَطِيعٍ من الصَّيْدِ وقد يَرْمِي وَيُرْسِلُ على حِسِّ الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ التَّعْيِينُ وَاجِبًا وَالْمُسْتَأْمَنُ مَقْدُورٌ فَيَكُونُ وَاجِبًا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ذَبَحَ شَاةً وَسَمَّى ثُمَّ ذَبَحَ شَاةً أُخْرَى يَظُنُّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى تُجْزِي عنهما لم تُؤْكَلْ وَلَا بُدَّ من أَنْ يُجَدِّدَ لِكُلِّ ذَبِيحَةٍ تَسْمِيَةً على حِدَةٍ وَلَوْ رَمَى سَهْمًا فَقَتَلَ بِهِ من الصَّيْدِ اثْنَيْنِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لو أَرْسَلَ كَلْبًا أو بَازِيًا وسمي فَقَتَلَ من الصَّيْدِ اثْنَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَجِبُ عِنْدَ الْفِعْلِ وهو الذَّبْحُ فإذا تَجَدَّدَ الْفِعْلُ تُجَدَّدُ التَّسْمِيَةُ فَأَمَّا الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ فَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كان يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ فَتُجْزِي فيه تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَوِزَانُ الصَّيْدِ من الْمُسْتَأْنَسِ ما لو أَضْجَعَ شَاتَيْنِ وَأَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَيْهِمَا مَعًا أَنَّهُ تجزىء في ذلك تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ كما في الصَّيْدِ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا جَعَلَ ظَنَّهُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ على الشَّاةِ الْأُولَى تجزىء عن الثَّانِيَةِ عُذْرًا كَنِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا ليس من باب النِّسْيَانِ بَلْ من الْجَهْلِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْجَهْلُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ ليس بِعُذْرٍ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ من ظَنَّ أَنَّ الْأَكْلَ لَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ فَأَكَلَ بَطَلَ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا لَا يَبْطُلُ فَإِنْ نَظَرَ إلَى جَمَاعَةٍ من الصَّيْدِ فَرَمَى بِسَهْمٍ وَسَمَّى وَتَعَمَّدَهَا ولم يَتَعَمَّدْ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَأَصَابَ منها صَيْدًا فَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ وَالْبَازِي وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَظَرَ إلَى غَنَمِهِ فقال بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ أَخَذَ وَاحِدَةً فَأَضْجَعَهَا وَذَبَحَهَا وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا وَظَنَّ أَنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ تُجْزِيهِ لَا توكل لِأَنَّهُ لم يُسَمِّ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالشَّرْطُ هو التَّسْمِيَةُ على الذَّبِيحَةِ وَذَلِكَ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ نَفْسِهِ لَا عِنْدَ النَّظَرِ وَتَعْيِينُ الذَّبِيحَةِ مَقْدُورٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا وَتَعْيِينُ الصَّيْدِ بِالرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ مُتَعَذَّرٌ لِمَا بَيَّنَّا فلم يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا. وَلَوْ رَمَى صَيْدًا بِعَيْنِهِ أو أَرْسَلَ الْكَلْبَ أو الْبَازِيَ على صَيْدٍ بِعَيْنِهِ فَأَخْطَأَ فَأَصَابَ غَيْرَهُ يوكل وَكَذَا لو رَمَى ظَبْيًا فَأَصَابَ طَيْرًا أو أَرْسَلَ على ظَبْيٍ فَأَخَذَ طَيْرًا لِأَنَّ التَّعْيِينَ في الصَّيْدِ ليس بِشَرْطٍ وَمِنْهَا قِيَامُ أَصْلِ الْحَيَاةِ في الْمُسْتَأْمَنِ وَقْتَ الذَّبْحِ قَلَّتْ أو كَثُرَتْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يكتفي بِقِيَامِ أَصْلِ الْحَيَاةِ بَلْ تُعْتَبَرُ حَيَاةً مَقْدُورَةً كَالشَّاةِ الْمَرِيضَةِ وَالْوَقِيذَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَجَرِيحَةِ السَّبُعِ إذَا لم يَبْقَ فيها إلَّا حَيَاةٌ قَلِيلَةٌ عُرِفَ ذلك بِالصِّيَاحِ أو بِتَحْرِيكِ الذَّنَبِ أو طَرْفِ الْعَيْنِ أو التَّنَفُّسِ. وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ فَلَا يَدُلُّ على الْحَيَاةِ إلَّا إذَا كان يَخْرُجُ كما يَخْرُجُ من الْحَيِّ الْمُطْلَقِ فإذا ذَبَحَهَا وَفِيهَا قَلِيلُ حَيَاةٍ على الْوَجْهِ الذي ذَكَرْنَا توكل عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنه أَنَّهُ أن كان يَعْلَمُ أنها لَا تَعِيشُ مع ذلك فَذَبَحَهَا لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ كان يَعْلَمُ أنها تَعِيشُ مع ذلك فَذَبَحَهَا تُؤْكَلُ وفي رِوَايَةٍ قال إنْ كان لها من الْحَيَاةِ مِقْدَارُ ما تَعِيشُ بِهِ أَكْثَرَ من نِصْفِ يَوْمٍ فَذَبَحَهَا تُؤْكَلُ وَإِلَّا فَلَا. وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان لم يَبْقَ من حَيَاتِهَا إلَّا قَدْرُ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ بَعْدَ الذَّبْحِ أو أَقَلُّ فَذَبَحَهَا لَا تُؤْكَلُ وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ذلك تُؤْكَلُ وَذَكَر الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مُفَسَّرًا فقال أن على قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ لم يَبْقَ مَعَهَا إلَّا الِاضْطِرَابَ لِلْمَوْتِ فَذَبَحَهَا فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ وَإِنْ كانت تَعِيشُ مُدَّةً كَالْيَوْمِ أو كَنِصْفِهِ حَلَّتْ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أنه إذَا لم يَكُنْ لها حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ على الْوَجْهِ الذي ذَكَرْنَا كانت مَيْتَةً مَعْنًى فَلَا تَلْحَقُهَا الذَّكَاةُ كَالْمَيْتَةِ حَقِيقَةً وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وما أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المذكي من الْجُمْلَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ من التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ وَهَذِهِ مُذَكَّاةٌ لِوُجُودِ فرى الْأَوْدَاجِ مع قِيَامِ الْحَيَاةِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ. وَأَمَّا الصَّيْدُ إذَا جَرَحَهُ السَّهْمُ أو الْكَلْبُ فَأَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ حَيًّا فَإِنْ ذَكَّاهُ يُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا كَيْفَ ما كان سَوَاءٌ كانت فيه حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ أو لم تَكُنْ وَخَرَجَ الْجُرْحُ من أَنْ يَكُونَ ذَكَاةً في حَقِّهِ وَصَارَ ذَكَاتُهُ الذَّبْحَ في الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ ذَكَاةً مُطْلَقَةً فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ وَإِنْ لم يَكُنْ فيه حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَاتُهُ الذَّبْحُ وقد وُجِدَ لِوُجُودِ أَصْلِ الْحَيَاةِ فَصَارَ مذكي وَعَلَى أَصْلِهِمَا لَا حَاجَةَ إلَى الذَّبْحِ لِأَنَّهُ صَارَ مذكي بِالْجُرْحِ فَالذَّبْحُ بَعْدَ ذلك لَا يَضُرُّ إنْ كان لَا يَنْفَعُ وَإِنْ لم يُذَكِّهِ وهو قَادِرٌ على ذَبْحِهِ فَتَرَكَهُ حتى مَاتَ فَإِنْ كانت فيه حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ ذَكَاتَهُ تَحَوَّلَتْ من الْجُرْحِ إلَى الذَّبْحِ فإذا لم يُذْبَحْ كان مَيْتَةً وَإِنْ كانت حَيَاتُهُ غير مُسْتَقِرَّةٍ يُؤْكَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَإِنْ قَلَّتْ من غَيْرِ ذَكَاةٍ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْنَسِ عِنْدَهُ. وَالْفَرْقُ له أَنَّ الرَّمْيَ وَالْإِرْسَالَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْجُرْحُ كان ذَكَاةً في الصَّيْدِ فَلَا تُعْتَبَرُ هذه الْحَيَاةُ بَعْدَ وُجُودِ الذَّكَاةِ ولم تَتَقَوَّمْ ذَكَاةٌ في المستأمن [المستأنس] فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ هذا الْقَدْرِ من الْحَيَاةِ لِتَحَقُّقِ الذَّكَاةِ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَكَذَلِكَ لَكِنْ على اخْتِلَافِ تَفْسِيرِهِمَا لِلْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ وَغَيْرِ الْمُسْتَقِرَّةِ على ما ذَكَرْنَا في الْمُسْتَأْمَنِ هَكَذَا ذَكَرَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الصَّيْدِ مِثْلَ قَوْلِهِ في الْمُسْتَأْنَسِ على أَنَّ قَوْلَهُ يَجِبُ الذَّبْحُ في جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا يَحِلُّ بِدُونِهِ سَوَاءٌ كانت الْحَيَاةُ مُسْتَقِرَّةً أو غير مُسْتَقِرَّةٍ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ له على قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَإِنْ مَاتَ قبل أَنْ يَقْدِرَ على ذَبْحِهِ لِضِيقِ الْوَقْتِ أو لِعَدَمِ آلَةِ الذَّكَاةِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بن شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ وَمُحَمَّدِ بن مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُؤْكَلُ اسْتِحْسَانًا أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْحُرْمَةِ قِيَاسٌ وَمِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ من جَعَلَ جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ مَذْهَبَنَا أَيْضًا وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ يَدُهُ عليه فَقَدْ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ صيد [صيدا] الزوال [لزوال] مَعْنَى الصَّيْدِ وهو التَّوَحُّشُ وَالِامْتِنَاعُ فَيَزُولُ الْحُكْمُ الْمُخْتَصُّ بِالصَّيْدِ وهو اعْتِبَارُ الْجُرْحِ ذَكَاةً وَصَارَ كَالشَّاةِ إذَا مَرِضَتْ وَمَاتَتْ في وَقْتٍ لَا يَتَّسِعُ لِذَبْحِهَا أنها لَا تُؤْكَلُ كَذَا هذا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الذَّبْحَ هو الْأَصْلُ في الذَّكَاةِ وَإِنَّمَا يُقَامُ الْجُرْحُ مَقَامَهُ خَلَفًا عنه وقد وُجِدَ شَرْطٌ بِخِلَافِهِ وهو الْعَجْزُ عن الْأَصْلِ فَيُقَامُ الْخَلَفُ مَقَامَهُ كما في سَائِرِ الْأَخْلَافِ مع أُصُولِهَا. وقال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لو جَرَحَهُ السَّهْمُ أو الْكَلْبُ فَأَدْرَكَهُ لَكِنْ لم يَأْخُذْهُ حتى مَاتَ فَإِنْ كان في وَقْتٍ لو أَخَذَهُ يُمْكِنُهُ ذَبْحُهُ فلم يَأْخُذْهُ حتى مَاتَ لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ الذَّبْحَ صَارَ مَقْدُورًا عليه فَخَرَجَ الْجُرْحُ من أَنْ يَكُونَ ذَكَاةً وَإِنْ كان لَا يُمْكِنُهُ ذَبْحُهُ أَكَلَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَأْخُذْهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ من ذَبْحِهِ لو أَخَذَهُ بَقِيَ ذَكَاتُهُ الْجُرْحُ السَّابِقُ وَدَلَّتْ هذه الْمَسْأَلَةُ على أَنَّ جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا جميعا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ سِوَى أَنَّ هُنَاكَ أَخَذَ وَهَهُنَا لم يَأْخُذْ وما يَصْنَعُ بِالْأَخْذِ إذَا لم يَقْدِرْ على ذَكَاتِهِ. وَجَوَابُ الْقِيَاسِ عن هذا أَنَّ حَقِيقَةَ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَكُّنِ لَا عِبْرَةَ بها لِأَنَّ الناس مُخْتَلِفُونَ في ذلك فإن منهم من يَتَمَكَّنُ من الذَّبْحِ في زَمَانٍ قَلِيلٍ لِهِدَايَتِهِ في ذلك وَمِنْهُمْ من لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا في زَمَانٍ طَوِيلٍ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ فيه فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْحُكْمِ على حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ وَالتَّمَكُّنِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وهو ثُبُوتُ الْيَدِ مَقَامَهَا كما في السَّفَرِ مع الْمَشَقَّةِ وَغَيْرِ ذلك وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عن أبي يُوسُفَ لو أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ شَاةً نِصْفَيْنِ ثُمَّ أن رَجُلًا فَرَى أَوْدَاجَهَا وَالرَّأْسُ يَتَحَرَّكُ أو شَقَّ بَطْنَهَا فَأَخْرَجَ ما في جَوْفِهَا وَفَرَى رَجُلٌ آخَرُ الْأَوْدَاجَ فإن هذا لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَاتِلٌ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا على وَجْهَيْنِ إنْ كانت الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لم تُؤْكَلْ الشَّاةُ وَإِنْ كانت مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أُكِلَتْ لِأَنَّ الْعُرُوقَ الْمَشْرُوطَةَ في الذَّبْحِ مُتَّصِلَةٌ من الْقَلْبِ إلَى الدِّمَاغِ فإذا كانت الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ قَطَعَهَا فَحَلَّتْ وَإِنْ كانت مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ فلم يَقْطَعْهَا فلم تَحِلَّ. وَأَمَّا خُرُوجُ الدَّمِ بَعْدَ الذَّبْحِ فِيمَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّبْحِ فَهَلْ هو من شَرَائِطِ الْحِلِّ فَلَا رِوَايَةَ فيه وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا التَّحَرُّكُ بَعْدَ الذَّبْحِ هل هو شَرْطُ ثُبُوتِ الْحِلِّ فَلَا رِوَايَةَ فيه أَيْضًا عن أَصْحَابِنَا وَذُكِرَ في بَعْضِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ لَا بُدَّ من أَحَدِ شَيْئَيْنِ إمَّا التَّحَرُّكُ وَإِمَّا خُرُوجُ الدَّمِ فَإِنْ لم يُوجَدْ لَا يَحِلُّ كَأَنَّهُ جَعَلَ وُجُودَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الذَّبْحِ عَلَامَةَ الْحَيَاةِ وَقْتَ الذَّبْحِ فإذا لم يُوجَدْ لم تُعْلَمْ حَيَاتُهُ وَقْتَ الذَّبْحِ فَلَا يَحِلُّ وقال بَعْضُهُمْ أن عُلِمَ حَيَّاتُهُ وَقْتَ الذَّبْحِ بِغَيْرِ التَّحَرُّكِ يَحِلُّ وَإِنْ لم يَتَحَرَّكْ بَعْدَ الذَّبْحِ وَلَا خَرَجَ منه الدَّمُ وَالله أعلم. وَمِنْهَا ما يَخُصُّ الذَّكَاةَ الإضطرارية وهو أَنْ لَا يَكُونَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنْ كان لَا يوكل وَيَكُونُ مَيْتَةً سَوَاءٌ كان الْمُذَكِّي مُحْرِمًا أو حَلَالًا لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لِصَيْدِ الْحَرَمِ بِالْقَتْلِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ مُحَرَّمٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى قال اللَّهُ تَعَالَى: {أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ الناس من حَوْلِهِمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم في صِفَةِ الْحَرَمِ: «وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» وَالْفِعْلُ في الْمُحَرَّمِ شَرْعًا لَا يَكُونُ ذَكَاةً وَسَوَاءٌ كان مَوْلِدُهُ الْحَرَمَ أو دخل من الْحِلِّ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَى الْحَرَمِ في الْحَالَيْنِ فَيَكُونُ صَيْدَ الْحَرَمِ. وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى آلَةِ الذَّكَاةِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ ما يُصْطَادُ بِهِ من الْجَوَارِحِ من الْحَيَوَانَاتِ من ذِي النَّابِ من الباع [السباع] وَذِي الْمِخْلَبِ من الطَّيْرِ مُعَلَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ} مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ أَيْ الِاصْطِيَادُ بِمَا عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا النبي صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَحِلُّ لهم الِاصْطِيَادُ بِهِ من الْجَوَارِحِ أَيْضًا مع ما ذَكَرَ في بَعْضِ الْقِصَّةِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ أَتَاهُ نَاسٌ فَقَالُوا مَاذَا يَحِلُّ لنا من هذه الْأُمَّةِ التي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ} الْآيَةَ فَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ اعْتِبَارُ الشَّرْطَيْنِ وَهُمَا الْجُرْحُ وَالتَّعْلِيمُ حَيْثُ قال عز شَأْنُهُ: {وما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ} لِأَنَّ الْجَوَارِحَ هِيَ التي تَجْرَحُ مَأْخُوذٌ من الْجُرْحِ. وَقِيلَ الْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ: {وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} أَيْ كَسَبْتُمْ وَالْحَمْلُ على الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَنَّهُ حَمْلٌ على الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّهَا بِالْجِرَاحَةِ تَكْسِبُ وقَوْله تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ} قرىء [قرئ] بِالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ وَقِيلَ بِالْخَفْضِ صَاحِبُ الْكَلْبِ يُقَالُ كَلَّابٌ وَمُكَلِّبٌ وَبِالنَّصْبِ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ وَقِيلَ الْمُكَلِّبَيْنِ بِالْخَفْضِ الْكِلَابُ التي يُكَالِبْنَ الصَّيْدَ أَيْ يَأْخُذْنَهُ عن شِدَّةٍ فَالْكَلْبُ هو الأخذ عن شِدَّةٍ وَمِنْهُ الْكَلُّوبُ لِلْآلَةِ التي يُؤْخَذُ بها الْحَدِيدُ. وَقَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} أَيْ تُعَلِّمُونَهُنَّ لَيُمْسِكْنَ الصَّيْدَ لَكُمْ وَلَا يَأْكُلْنَ منه وَهَذَا حَدُّ التَّعْلِيمِ في الْكَلْبِ عِنْدَنَا على ما نَذْكُرُهُ إن شاء الله تعالى. فَدَلَّتْ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ على أَنَّ كَوْنَ الْكَلْبِ مُعَلَّمًا شَرْطٌ لِإِبَاحَةِ أَكْلِ صَيْدِهِ فَلَا يُبَاحُ أَكْلُ صَيْدِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ وإذا ثَبَتَ هذا الشَّرْطُ في الْكَلْبِ بِالنَّصِّ ثَبَتَ في كل ما هو في مَعْنَاهُ من كل ذِي نَابٍ من السِّبَاعِ كَالْفَهْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعَلُّمَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْمُرْسِلِ بِالتَّعْلِيمِ إذْ الْمُعَلَّمُ هو الذي يَعْمَلُ لِصَاحِبِهِ فَيَأْخُذُ لِصَاحِبِهِ وَيُمْسِكُ على صَاحِبِهِ فَكَانَ فِعْلُهُ مُضَافًا إلَى صَاحِبِهِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ فَكَانَ فِعْلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا إلَى الْمُرْسِلِ لِذَلِكَ شُرِطَ كَوْنُهُ مُعَلَّمًا ثُمَّ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ حَدِّ التَّعْلِيمِ في الْجَوَارِحِ من ذِي النَّابِ كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ وَذِي الْمِخْلَبِ كَالْبَازِي وَنَحْوِهِ. أَمَّا تَعْلِيمُ الْكَلْبِ فَهُوَ أَنَّهُ إذَا أُرْسِلَ اتَّبَعَ الصَّيْدَ وإذا أَخَذَهُ أَمْسَكَهُ على صَاحِبِهِ وَلَا يَأْكُلُ منه شيئا وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعْلِيمُهُ أَنْ يَتْبَعَ الصَّيْدَ إذَا أُرْسِلَ وَيُجِيبَ إذَا دعى وهو أَحَدُ قول [قولي] الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حتى لو أَخَذَ صَيْدًا فَأَكَلَ منه لَا يُؤْكَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُؤْكَلُ وَجْهُ قَوْلِهِ أن كَوْنَهُ مُعَلَّمًا إنَّمَا شُرِطَ لِلِاصْطِيَادِ فَيُعْتَبَرُ حَالَةَ الِاصْطِيَادِ وَهِيَ حَالَةُ الِاتِّبَاعِ فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ على صَاحِبِهِ وَتَرْكُ الْأَكْلِ يَكُونُ بَعْدَ الْفَرَاغِ عن الِاصْطِيَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ في الْحَدِّ. وَلَنَا الْكتاب وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكتاب فَقَوْلُهُ عز وجل: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ حَدَّ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ وما هو في مَعْنَاهُ ما قُلْنَا وهو الْإِمْسَاكُ على صَاحِبِهِ وَتَرْكُ الْأَكْلِ منه لِأَنَّهُ شَرَطَ التَّعْلِيمِ ثُمَّ أَبَاحَ أَكْلَ ما أَمْسَكَ عَلَيْنَا فَكَانَ هذا إشَارَةً إلَى أَنَّ التَّعْلِيمَ هو أَنْ يُمْسِكَ عَلَيْنَا الصَّيْدَ وَلَا يَأْكُلَ منه يُقَرِّرُهُ إن اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَبَاحَ أَكْلَ صَيْدِ الْمُعَلَّمِ من الْجَوَارِحِ الْمُمْسِكِ على صَاحِبِهِ وَلَوْ لم يَكُنْ تَرْكُ الْأَكْلِ من حَدِّ التَّعْلِيمِ وكان ما أَكَلَ منه حَلَالًا لَاسْتَوَى فيه الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ وَالْمُمْسِكُ على صَاحِبِهِ وَعَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلَّ كَلْبٍ يَطْلُبُ الصَّيْدَ وَيُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ حتى يَمُوتَ أن أَرْسَلْتَ عليه وَأَغْرَيْتَهُ إلَّا الْمُعَلَّمَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن عَدِيِّ بن حَاتِمٍ الطَّائِيِّ أَنَّهُ قال قُلْت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ فما يَحِلُّ لنا منها فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحِلُّ لَكُمْ ما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ ما [مما] عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ مِمَّا عَلَّمْتُمُوهُنَّ من كَلْبٍ أو بَازٍ وَذَكَرْتُمْ اسْمَ اللَّهِ عليه قُلْت فَإِنْ قَتَلَ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا قَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه فَكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ على نَفْسِهِ فَقُلْت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْت إنْ خَالَطَ كِلَابَنَا كِلَابٌ أُخْرَى. قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنْ خَالَطَتْ كِلَابَكَ كِلَابٌ أُخْرَى فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ إنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى على كَلْبِكَ ولم تَذْكُرْهُ كَلْبِ غَيْرِكَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ من الصَّيْدِ فَلَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قال إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ وإذا أَكَلَ الصَّقْرُ فَكُلْ لِأَنَّ الْكَلْبَ يستطيع [تستطيع] أَنْ تَضْرِبَهُ وَالصَّقْرَ لَا وَعَنْ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ من الصَّيْدِ فَلَا تَأْكُلْ وَاضْرِبْهُ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَخْذَ الصَّيْدِ وَقَتْلَهُ مُضَافٌ إلَى الْمُرْسِلِ وَإِنَّمَا الْكَلْبُ آلَةُ الْأَخْذِ وَالْقَتْلِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ إذَا أَمْسَكَ لِصَاحِبِهِ لَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْعَامِلَ لِنَفْسِهِ يَكُونُ عَمَلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ وَالْإِمْسَاكُ على صَاحِبِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ منه وهو حَدُّ التَّعْلِيمِ. وَالثَّانِي أَنَّ تَعْلِيمَ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ هو تَبْدِيلُ طَبْعِهِ وَفِطَامِهِ عن الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِإِمْسَاكِ الصَّيْدِ لِصَاحِبِهِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ منه لِأَنَّ الْكَلْبَ وَنَحْوَهُ من السِّبَاعِ من طِبَاعِهِمْ أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا الصَّيْدَ فَإِنَّمَا يَأْخُذُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يَصْبِرُونَ على أَنْ لَا يَتَنَاوَلُوا منه فإذا أَخَذَ وَاحِدٌ منهم الصَّيْدَ ولم يَتَنَاوَلْ منه دَلَّ أَنَّهُ تَرَكَ عَادَتَهُ حَيْثُ أَمْسَكَ لِصَاحِبِهِ ولم يَأْكُلْ منه فإذا أَكَلَ منه دَلَّ أَنَّهُ على عَادَتِهِ سَوَاءٌ اتَّبَعَ الصَّيْدَ إذَا أغرى وَاسْتَجَابَ إذَا دعى أو لَا لِأَنَّهُ أَلُوفٌ في الْأَصْلِ يُجِيبُ إذَا دعى وَيَتَّبِعُ إذَا أغرى فَلَا يَصْلُحُ ذلك دَلِيلًا على تَعَلُّمِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى التَّعْلِيمِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِمَا قُلْنَا وهو أَنْ يُمْسِكَ الصَّيْدَ على صَاحِبِهِ وَلَا يَأْكُلَ منه ثُمَّ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه لَا تَوْقِيتَ في تَعْلِيمِهِ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ صَيْدًا ولم يَأْكُلْ منه هل يَصِيرُ مُعَلَّمًا أَمْ يَحْتَاجُ فيه إلَى التَّكْرَارِ وكان يقول إذَا كان مُعَلَّمًا فَكُلْ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَهَكَذَا رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ عن أبي يُوسُفَ قال سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما حَدُّ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ قال أَنْ يَقُولَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ. وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال لَا يَأْكُلُ ما يَصِيدُ أَوَّلًا وَلَا الثَّانِيَ وَلَوْ أَكَلَ الثَّالِثَ وما بَعْدَهُ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَاهُ بِالثَّلَاثِ فَقَالَا إذَا أَخَذَ صَيْدًا فلم يَأْكُلْ ثُمَّ صَادَ ثَانِيًا فلم يَأْكُلْ ثُمَّ صَادَ ثَالِثًا فلم يَأْكُلْ فَهَذَا مُعَلَّمٌ فَأَبُو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه على الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عنه إنَّمَا رَجَعَ في ذلك إلَى أَهْلِ الصِّنَاعَةِ ولم يُقَدِّرْ فيه تَقْدِيرًا لِأَنَّ حَالَ الْكَلْبِ في الْإِمْسَاكِ وَتَرْكِ الْأَكْلِ يَخْتَلِفُ فَقَدْ يُمْسِكُ لِلتَّعْلِيمِ وقد يُمْسِكُ لِلشِّبَعِ فَفَوَّضَ ذلك إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ أَصْلَ التَّكْرَارِ دَلَالَةَ التَّعَلُّمِ لِأَنَّ الشِّبَعَ لَا يَتَّفِقُ في كل مَرَّةٍ فَدَلَّ تَكْرَارُ التَّرْكِ على التَّعْلِيمِ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَا التَّكْرَارَ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ لِمَا أَنَّ الثَّلَاثَ مَوْضُوعَةٌ لِإِبْدَاءِ الْأَعْذَارِ أَصْلُهُ قَضِيَّةُ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مع الْعَبْدِ الصَّالِحِ حَيْثُ قال له في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ إنْ سَأَلْتُك على شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قد بَلَغْتَ من لَدُنِّي عُذْرًا وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال من اتَّجَرَ في شَيْءٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فلم يَرْبَحْ فَلْيَنْتَقِلْ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ إذَا صَارَ مُعَلَّمًا في الظَّاهِرِ على اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ وَصَادَ بِهِ صَاحِبُهُ ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَ ذلك فما صَادَ قبل ذلك لَا يُؤْكَلُ شَيْءٌ منه إنْ كان بَاقِيًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وعن [وعند] أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يوكل كُلُّهُ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن أَكَلَ الْكَلْبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ التَّعَلُّمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مع التَّعَلُّمِ لِفَرْطِ الْجُوعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلنِّسْيَانِ لِأَنَّ الْمُعَلَّمَ قد يَنْسَى فَلَا يَحْرُمُ ما تَقَدَّمَ من الصَّيُودِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عَلَامَةَ التَّعَلُّمِ لَمَّا كانت تَرْكَ الْأَكْلِ فإذا أَكَلَ بَعْدَ ذلك عُلِمَ أَنَّهُ لم يَكُنْ مُعَلَّمًا وإن إمْسَاكَهُ لم يَكُنْ لِصَيْرُورَتِهِ مُعَلَّمًا بَلْ لِشِبَعِهِ في الْحَالِ إذْ غَيْرُ الْمُعَلَّمِ قد يُمْسِكُهُ بِشِبَعِهِ لِلْحَالِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَاسْتَدْلَلْنَا بِأَكْلِهِ بَعْدَ ذلك على أَنَّ إمْسَاكَهُ في الْوَقْتِ الذي قَبْلَهُ كان على غَيْرِ حَقِيقَةِ التَّعْلِيمِ أو يَحْتَمِلُ ذلك فَلَا تَحِلُّ مع الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا. وَمِنْ الْمَشَايِخِ من حَمَلَ جَوَابَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ على ما إذَا كان زَمَانُ الْأَكْلِ قَرِيبًا من زَمَانِ التَّعْلِيمِ لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ فَالْأَكْلُ يَدُلُّ على عَدَمِ التَّعَلُّمِ وَأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْأَكْلَ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلشِّبَعِ لَا لِلتَّعْلِيمِ لِأَنَّ الْمُدَّةَ الْقَصِيرَةَ لَا تَتَحَمَّلُ النِّسْيَانَ في مِثْلِهَا فإذا طَالَتْ الْمُدَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أنه يُؤْكَلُ ما بَقِيَ من الصَّيُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ لِلنِّسْيَانِ لَا لِعَدَمِ التَّعَلُّمِ لِوُجُودِ مُدَّةٍ لَا يَنْدُرُ النِّسْيَانُ في مِثْلِهَا إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عنه مُطْلَقٌ عن هذا التَّفْصِيلِ وَإِطْلَاقُ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يوكل على كل حَالٍ وَالْوَجْهُ ما ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أن النِّسْيَانَ لَا يَنْدُرُ عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ فَنَقُولُ من تَعَلَّمَ حِرْفَةً بِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْسَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ لَكِنْ رُبَّمَا يَدْخُلُهَا خَلَلٌ كَصَنْعَةِ الْكتابةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالرَّمْيِ إذَا تَرَكَهَا صَاحِبُهَا مُدَّةً طَوِيلَةً فلما أَكَلَ وَحِرْفَتُهُ تَرْكُ الْأَكْلِ دَلَّ أَنَّهُ لم يَكُنْ تَعَلَّمَ الْحِرْفَةَ من الْأَصْلِ وَأَنَّهُ إنَّمَا لم يَأْكُلْ قبل ذلك لَا لِلتَّعَلُّمِ بَلْ لِشِبَعِهِ في الْحَالِ فَلَا تَحِلُّ صُيُودُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَأَمَّا في الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ إلَّا بِتَعْلِيمٍ مُسْتَأْنَفٍ بِلَا خِلَافٍ فَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْأَكْلِ أَنَّهُ لم يَكُنْ مُعَلَّمًا وإن تَرْكَ الْأَكْلِ لم يَكُنْ لِلتَّعَلُّمِ بَلْ لِشِبَعِهِ لِلْحَالِ. وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لم يَتَعَلَّمْ كما قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نسى وَكَيْفَ ما كان لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ في الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا بِتَعْلِيمٍ مُبْتَدَأٍ وَتَعْلِيمِهِ في الثَّانِي بِمَا بِهِ تَعْلِيمُهُ في الْأَوَّلِ وقد ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فيه وَلَوْ جَرَحَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ وَوَلَغَ في دَمِهِ يوكل لِأَنَّهُ قد أَمْسَكَ الصَّيْدَ على صَاحِبِهِ لَكَانَ لَا يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ من غَايَةِ تَعَلُّمِهِ حَيْثُ تَنَاوَلَ الْخَبِيثَ وَأَمْسَكَ الطَّيِّبَ على صَاحِبِهِ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ في رَجُلٍ أَرْسَلَ كَلْبَهُ على صَيْدٍ وهو مُعَلَّمٌ فَأَخَذَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَأَكَلَ منه ثُمَّ اتَّبَعَ آخَرَ فَقَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه قال لَا يُؤْكَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ دَلَّ على عَدَمِ التَّعَلُّمِ أو على النِّسْيَانِ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ بَعْدَ ذلك فَإِنْ أَخَذَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ صَيْدًا فَأَخَذَهُ منه صَاحِبُهُ وَأَخَذَ صَاحِبُ الْكَلْبِ من الصَّيْدِ قِطْعَةً فَأَلْقَاهَا إلَى الْكَلْبِ فَأَكَلَهَا الْكَلْبُ فَهُوَ على تَعَلُّمِهِ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالَ أَخْذِهِ الصَّيْدَ فَأَكْلُهُ بِإِطْعَامِ صَاحِبِهِ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا يَقْدَحُ في التَّعَلُّمِ مع ما أَنَّ من عَادَةِ الصَّائِدِ بِالْكَلْبِ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ أَنْ يُطْعِمَهُ من لَحْمِهِ تَرْغِيبًا له على الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ أَكْلُهُ بِإِطْعَامِهِ دَلِيلًا على عَدَمِ التَّعَلُّمِ وَكَذَلِكَ لو كان صَاحِبُ الْكَلْبِ أَخَذَ الصَّيْدَ من الْكَلْبِ ثُمَّ وَثَبَ الْكَلْبُ على الصَّيْدِ فَأَخَذَ منه قِطْعَةً فَأَكَلَهَا وهو في يَدِ صَاحِبِهِ فإنه على تَعَلُّمِهِ لِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ ثُبُوتِ يَدِ الْآدَمِيِّ عليه بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ من غَيْرِهِ فَلَا يَقْدَحُ في التَّعْلِيم. وَكَذَلِكَ قالوا لو سَرَقَ الْكَلْبُ من الصَّيْدِ بَعْدَ دَفْعِهِ إلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذلك لِلْجُوعِ لِأَنَّ هذا الْأَكْلَ لم يَدْخُلْ في التَّعْلِيمِ وَإِنْ أُرْسِلَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ على صَيْدٍ فَتَبِعَهُ فَنَهَشَهُ فَقَطَعَ منه قِطْعَةً فَأَكَلَهَا ثُمَّ أَخَذَ الصَّيْدَ بَعْدَ ذلك فَقَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه شيئا لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْأَكْلَ منه في حَالِ الِاصْطِيَادِ دَلِيلٌ على عَدَمِ التَّعَلُّمِ فَإِنْ نَهَشَهُ فَأَلْقَى منه بَضْعَةً وَالصَّيْدُ حَيٌّ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ بَعْدَ ذلك فَأَخَذَهُ فَقَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه شيئا يوكل لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه ما يَدُلُّ على عَدَمِ التَّعْلِيمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَطَعَ منه قطعة لِيُثْخِنَهُ فَيُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْجُرْحِ وَإِنْ أَخَذَ صَاحِبُ الْكَلْبِ الصَّيْدَ من الْكَلْبِ بعدما قَطَعَهُ ثُمَّ رَجَعَ الْكَلْبُ بَعْدَ ذلك فَمَرَّ بِتِلْكَ الْقِطْعَةِ فَأَكَلَهَا يوكل صَيْدُهُ لِأَنَّهُ لو أَكَلَ من نَفْسِ الصَّيْدِ في هذه الْحَالَةِ لَا يَضُرُّ فإذا أَكَلَ مِمَّا بَانَ منه أَوْلَى وَإِنْ اتَّبَعَ الصَّيْدَ فَنَهَشَهُ فَأَخَذَ منه بِضْعَةً فَأَكَلَهَا وهو حَيٌّ فَانْفَلَتَ الصَّيْدُ منه ثُمَّ أَخَذَ الْكَلْبُ صَيْدًا آخَرَ في فَوْرِهِ فَقَتَلَهُ ولم يَأْكُلْ منه ذَكَرَ في الْأَصْلِ وقال أَكْرَهُ أَكْلَهُ لِأَنَّ الْأَكْلَ في حَالَةِ الِاصْطِيَادِ يَدُلُّ على عَدَمِ التَّعْلِيمِ فَلَا يوكل ما اصْطَادَهُ بَعْدَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا تَعْلِيمُ ذِي الْمِخْلَبِ كَالْبَازِي أو نَحْوِهِ فَهُوَ أَنْ يُجِيبَ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْإِمْسَاكُ على صَاحِبِهِ حتى لو أَخَذَ الصَّيْدَ فَأَكَلَ منه فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ صَيْدِهِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ. وَالْفَرْقُ من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ التَّعَلُّمَ بِتَرْكِ الْعَادَةِ وَالطَّبْعِ وَالْبَازِي من عَادَتِهِ التَّوَحُّشُ من الناس وَالتَّنَفُّرُ منهم بِطَبْعِهِ فألفه بِالنَّاسِ وَإِجَابَتُهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ يَكْفِي دَلِيلًا على تَعَلُّمِهِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ فإنه أَلُوفٌ بِطَبْعِهِ يَأْلَفُ بِالنَّاسِ وَلَا يَتَوَحَّشُ منهم فَلَا يَكْفِي هذا الْقَدْرُ دَلِيلَ التَّعَلُّمِ في حَقِّهِ فَلَا بُدَّ من زِيَادَةِ أَمْرٍ وهو تَرْكُ الْأَكْلِ وَالثَّانِي أَنَّ الْبَازِيَ إنَّمَا يُعَلَّمُ بِالْأَكْلِ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَ بِالْأَكْلِ عن جد [حد] التَّعْلِيمِ بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْكَلْبَ يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ بِالضَّرْبِ لِأَنَّ جُثَّتَهُ تَتَحَمَّلُ الضَّرْبَ وَالْبَازِي لَا لِأَنَّ جُثَّتَهُ لَا تَتَحَمَّلُ. وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا إذَا أَكَلَ الصَّقْرُ فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ وَمِنْهَا الأرسال أو الزَّجْرُ عِنْدَ عَدَمِهِ على وَجْهٍ يَنْزَجِرُ بِالزَّجْرِ فِيمَا يَحْتَمِلُ ذلك وهو الْكَلْبُ وما في مَعْنَاهُ حتى لو تَرَسَّلَ بِنَفْسِهِ ولم يَزْجُرْهُ صَاحِبُهُ فِيمَا يَنْزَجِرُ بِالزَّجْرِ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ الذي قَتَلَهُ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ في صَيْدِ الْجَوَارِحِ أَصْلٌ لِيَكُونَ الْقَتْلُ وَالْجُرْحُ مُضَافًا إلَى الْمُرْسِلِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ عَدَمِهِ يُقَامُ الزَّجْرُ مُقَامَ الِانْزِجَارِ فِيمَا يَحْتَمِلُ قِيَامَ ذلك مَقَامَهُ فإذا لم يُوجَدْ فَلَا تَثْبُتُ الْإِضَافَةُ فَلَا يَحِلُّ وَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ وَسَمَّى فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَلَوْ أَرْسَلَ مَجُوسِيٌّ كَلْبَهُ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ لَا يوكل صَيْدُهُ وَكَذَلِكَ لو أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا فَاتَّبَعَ الصَّيْدَ ثُمَّ زَجَرَهُ فَانْزَجَرَ لَا يوكل صَيْدُهُ وَلَوْ لم يُرْسِلْهُ أَحَدٌ وَانْبَعَثَ بِنَفْسِهِ فَاتَّبَعَ الصَّيْدَ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ وَسَمَّى فَانْزَجَرَ يوكل صَيْدُهُ وَإِنْ لم يَنْزَجِرْ لَا يوكل وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ هو الْأَصْلُ وَالزَّجْرُ كَالْخَلَفِ عنه وَالْخَلَفُ يُعْتَبَرُ حَالَ عَدَمِ الْأَصْلِ لَا حَالَ وُجُودِهِ فَفِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وُجِدَ الْأَصْلُ فَلَا يُعْتَبَرُ الْخَلَفُ إلَّا أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمُرْسِلُ من أَهْلِ الْإِرْسَالِ فَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ وفي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَا فَلَا يُؤْكَلُ وفي الْمَسْأَلَةِ الرابعة [الثالثة] لم يُوجَدْ الْأَصْلُ فَيُعْتَبَرُ الْخَلَفُ فَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ إنْ الزجر [انزجر] وَإِنْ لم يَنْزَجِرْ لَا يوكل لِأَنَّ الزَّجْرَ بِدُونِ الِانْزِجَارِ لَا يَصْلُحُ خَلَفًا عن الْإِرْسَالِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ يُرْسَلُ بِنَفْسِهِ من غَيْرِ إرْسَالٍ وَلَا زَجْرٍ. وَلَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ وَسَمَّى وَزَجَرَهُ رَجُلٌ ولم يُسَمِّ على زَجْرِهِ فَأَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَهُ يوكل لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْإِرْسَالِ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ التَّسْمِيَةِ عند [عنده] وَأَصْلٌ آخَرُ لِتَخْرِيجِ هذه الْمَسَائِلِ ما ذَكَرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ إذَا وُجِدَ الصَّرِيحُ وإذا لم يُوجَدْ تُعْتَبَرُ فَفِي المسال [المسائل] الثَّلَاثِ وُجِدَ من الْكَلْبِ صَرِيحُ الطَّاعَةِ بِالْإِرْسَالِ حَيْثُ عَدَا بِإِرْسَالِهِ وَانْزِجَارُهُ طَاعَةً لِلزَّاجِرِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ في مُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ وفي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ لم يُوجَدْ الصَّرِيحُ فَاعْتُبِرَتْ الدَّلَالَةُ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ بَقِيَّةُ الْمَسَائِلِ وَمِنْهَا الْإِرْسَالِ وهو أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْكَلْبِ أو الْبَازِي الصَّيْدَ في حَالِ فَوْرِ الْإِرْسَالِ لَا في حَالِ انْقِطَاعِهِ حتى لو أَرْسَلَ الْكَلْبَ أو الْبَازِيَ على صَيْدٍ وَسَمَّى فَأَخَذَ صَيْدًا وَقَتَلَهُ ثُمَّ أَخَذَ آخَرَ على فَوْرِهِ ذلك وَقَتَلَهُ ثُمَّ وَثُمَّ يُؤْكَلُ ذلك كُلُّهُ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لم يَنْقَطِعْ فَكَانَ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ مع ما بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْيِينَ ليس بِشَرْطٍ في الصَّيْدِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فَكَانَ أَخْذُ الْكَلْبِ أو الْبَازِي الصَّيْدَ في فَوْرِ الْإِرْسَالِ كَوُقُوعِ السَّهْمِ بِصَيْدَيْنِ فَإِنْ أَخَذَ صَيْدًا وَجَثَمَ عليه طَوِيلًا ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخَرُ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لم يوكل إلَّا بِإِرْسَالٍ مُسْتَقْبَلٍ أو بِزَجْرِهِ وَتَسْمِيَةٍ على وَجْهٍ يَنْزَجِرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ لَبُطْلَانِ الْفَوْرِ. وَكَذَلِكَ إنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أو بَازَهُ على صَيْدٍ فَعَدَلَ عن الصَّيْدِ يَمْنَةً أو يَسْرَةً وَتَشَاغَلَ بِغَيْرِ طَلَبٍ الصَّيْدِ وَفَتَرَ عن سَنَنِهِ ذلك ثُمَّ تَبِعَ صَيْدًا آخَرَ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا بِإِرْسَالٍ مُسْتَأْنَفٍ أو أَنْ يَزْجُرَهُ صَاحِبُهُ وَيُسَمِّيَ فَيَنْزَجِرَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ لِأَنَّهُ لَمَّا تَشَاغَلَ بِغَيْرِ طَلَبِ الصَّيْدِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ فإذا صَادَ صَيْدًا بَعْدَ ذلك فَقَدْ تَرَسَّلَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ إلَّا أَنْ يَزْجُرَهُ صَاحِبُهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كان الذي أَرْسَلَ فَهْدًا وَالْفَهْدُ إذَا أُرْسِلَ كَمِنَ وَلَا يَتَّبِعُ حتى يَسْتَمْكِنَ فَيَمْكُثُ سَاعَةً ثُمَّ يَأْخُذُ الصَّيْدَ فَيَقْتُلَهُ فإنه يُؤْكَلُ وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ إذَا أُرْسِلَ فَصَنَعَ كما يَصْنَعُ الْفَهْدُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ ما صَادَ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِرْسَالِ لم يَنْقَطِعْ بِالْكُمُونِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكْمُنُ لِيَتَمَكَّنَ من الصَّيْدِ فَكَانَ ذلك من أَسْباب الِاصْطِيَادِ وَوَسِيلَةً إلَيْهِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ الْإِرْسَالِ كَالْوُثُوبِ وَالْعَدْوِ وَكَذَلِكَ الْبَازِي إذَا أُرْسِلَ فَسَقَطَ على شَيْءٍ ثُمَّ طَارَ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فإنه يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْقُطُ على شَيْءٍ لِيَتَمَكَّنَ من الصَّيْدِ فَكَانَ سُقُوطُهُ بِمَنْزِلَةِ كُمُونِ الْفَهْدِ. وَكَذَلِكَ الرَّامِي إذَا رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فما أَصَابَهُ في سَنَنِهِ ذلك وَوَجْهِهِ أُكِلَ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى في سَنَنِهِ فلم يَنْقَطِعْ حُكْمُ الرَّمْيِ فَكَانَ ذَهَابُهُ بِقُوَّةِ الرَّامِي فَكَانَ قَتْلُهُ مُضَافًا إلَيْهِ فَيَحِلُّ فَإِنْ أَصَابَ وَاحِدًا ثُمَّ نَفَذَ إلَى آخَرَ وَآخَرَ أُكِلَ الْكُلُّ لِمَا قُلْنَا مع ما أَنَّ تَعْيِينَ الصَّيْدِ ليس بِشَرْطٍ فَإِنْ أَمَالَتْ الرِّيحُ السَّهْمَ إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى يَمِينًا أو شِمَالًا فَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ لم يوكل لِأَنَّ السَّهْمَ إذَا تَحَوَّلَ عن سَنَنِهِ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الرَّمْيِ فَصَارَتْ الأصابة بِغَيْرِ فِعْلِ الرَّامِي فَلَا يَحِلُّ كما لو كان على جَبْلٍ سَيْفٌ فَأَلْقَتْهُ الرِّيحُ على صَيْدٍ فَقَتَلَهُ أَنَّهُ لَا يوكل كَذَا هذا فَإِنْ لم تُرْدِهِ الرِّيحُ عن وَجْهِهِ ذلك أُكِلَ الصَّيْدُ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى في وَجْهِهِ كان مُضِيُّهُ بِقُوَّةِ الرَّامِي وَإِنَّمَا الرِّيحُ إعانته وَمَعُونَةُ الرِّيحِ السَّهْمَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ أَصَابَتْ الرِّيحُ السَّهْمَ وَهِيَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَدَفَعَتْهُ لَكِنَّهُ لم يَتَغَيَّرْ عن وَجْهِهِ فَأَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فإنه يوكل لِأَنَّهُ مَضَى في وَجْهِهِ وَمَعُونَةُ الرِّيحِ إذَا لم تَعْدِلْ السَّهْمَ عن وَجْهِهِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَلَا يُعْتَبَرُ ولو أَصَابَ السَّهْمُ حَائِطًا أو صَخْرَةً فَرَجَعَ فَأَصَابَ صَيْدًا فإنه لَا يوكل لِأَنَّ فِعْلَ الرَّامِي انْقَطَعَ وَصَارَتْ الْإِصَابَةُ في غَيْرِ جِهَةِ الرَّمْيِ فَإِنْ مَرَّ السَّهْمُ بين الشَّجَرِ فَجَعَلَ يُصِيبُ الشَّجَرَ في ذلك الْوَجْهِ لَكِنَّ السَّهْمَ على سَنَنِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ فإنه يوكل فَإِنْ رَدَّهُ شَيْءٌ من الشَّجَرِ يَمْنَةً أو يَسْرَةً لَا يوكل لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ مَرَّ السَّهْمُ فحجشه [فجحشه] حَائِطٌ وهو على سَنَنِهِ ذلك فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ أُكِلَ لِأَنَّ فِعْلَ الرَّامِي لم يَنْقَطِعْ وَإِنَّمَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ وَالْحَائِطَ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْحِلَّ. وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُكْمَ الْإِرْسَالِ لَا يَنْقَطِعُ بِالتَّغَيُّرِ عن سَنَنِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا إلَّا إذَا رَجَعَ من وَرَائِهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا رَمَى بِسَهْمٍ وَسَمَّى ثُمَّ رَمَى رَجُلٌ آخَرُ بِسَهْمٍ وَسَمَّى فَأَصَابَ السَّهْمُ الْأَوَّلُ السَّهْمَ الثَّانِيَ قبل أَنْ يُصِيبَ الصَّيْدَ فَرَدَّهُ عن وَجْهِهِ ذلك فَأَصَابَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ فإنه لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَدَّهُ السَّهْمُ الثَّانِي عن سَنَنِهِ انْقَطَعَ حُكْمُ الرَّمْيِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ قال الْقُدُورِيُّ وَهَذَا مَحْمُولٌ على أَنَّ الرَّامِيَ الثَّانِيَ لم يَقْصِدْ الِاصْطِيَادَ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ وهو لم يَقْصِدْ الِاصْطِيَادَ فَلَا يَحِلُّ فَأَمَّا إذَا كان الثَّانِي رَمَى لِلِاصْطِيَادِ فَيَحِلُّ أَكْلُ الصَّيْدِ وهو لِلثَّانِي لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ وَإِنْ لم يَقْصِدْهُ بِالرَّمْيِ وَتَعْيِينُ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ ليس بِشَرْطٍ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ رَمَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَيْدًا بِسَهْمٍ فَأَصَابَا الصَّيْدَ جميعا وَوَقَعَتْ الرَّمْيَتَانِ بِالصَّيْدِ مَعًا فَمَاتَ فإنه لَهُمَا وَيُؤْكَلُ أَمَّا حِلُّ الْأَكْلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا كَوْنُ الصَّيْدِ لَهُمَا فَلِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَتَسَاوَيَا فيه فَيَتَسَاوَيَانِ في الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ أَصَابَهُ سَهْمُ الْأَوَّلِ فَوَقَذَهُ ثُمَّ أَصَابَهُ سَهْمُ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤْكَلُ وَالصَّيْدُ لِلْأَوَّلِ وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُؤْكَلُ وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ في أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الرَّمْيِ حَالُ الرَّمْيِ أو حَالُ الْإِصَابَةِ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرُ حَالُ الرَّمْيِ وَعِنْدَ زُفَرَ حَالُ الْإِصَابَةِ. وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لَمَّا كان حَالَ الرمى عِنْدَنَا فَقَدْ وُجِدَ الرَّمْيُ مِنْهُمَا وَالصَّيْدُ مُمْتَنِعٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّهْمِ الثَّانِي حَظْرٌ إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ سَهْمَهُ أَخْرَجَهُ من حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَصَارَ السَّهْمُ الثَّانِي كَأَنَّهُ وَقَعَ بصد [بصيد] مَمْلُوكٍ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الرَّمْيِ في حَقِّ الْحِلِّ وَالْإِصَابَةِ في حَقِّ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْحِلَّ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ وَالْمِلْكَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ وَلَمَّا كان الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْإِصَابَةِ عِنْدَهُ فَقَدْ أَصَابَهُ الثَّانِي وَالصَّيْدُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَصَارَ كَمَنْ رمي إلَى شَاةٍ فَقَتَلَهَا وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاعْتِبَارُ حَالُ الْإِصَابَةِ أَنَّ الْمِلْكَ يَقِفُ ثُبُوتُهُ على الْإِصَابَةِ فإنه لو لم يُصِبْ لَا يَمْلِكُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هو وَقْتُ الْإِصَابَةِ. وَلَنَا أَنَّ حَالَ الرَّمْيِ هو الذي يَفْعَلُهُ وَالتَّسْمِيَةُ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ فِعْلِهِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الرَّمْيِ وَكَذَلِكَ أن رمي أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ قبل إصَابَةِ الْأَوَّلِ فَهُوَ كَرَمْيِهِمَا مَعًا في الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ رَمْيَ الثَّانِي وُجِدَ وَالصَّيْدُ مُمْتَنِعٌ فَصَارَ كما لو رَمَيَا مَعًا فَإِنْ أَصَابَهُ سَهْمُ الْأَوَّلِ ولم يُخْرِجْهُ من الِامْتِنَاعِ فَأَصَابَهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ إذَا لم يُخْرِجْهُ عن حَدِّ الِامْتِنَاعِ فَفِعْلُ الِاصْطِيَادِ وُجِدَ من الثَّانِي وَلِلْأَوَّلِ تَسَبُّبٌ في الصَّيْدِ فَصَارَ كَمَنْ أَثَارَ صَيْدًا وَأَخَذَهُ غَيْرُهُ أَنَّ الصَّيْدَ يَكُونُ لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ كَذَا هذا وَإِنْ كان سَهْمُ الْأَوَّلِ وَقَذَهُ وَأَخْرَجَهُ عن الِامْتِنَاعِ ثُمَّ أَصَابَهُ سَهْمُ الثَّانِي فَهَذَا على وُجُوهٍ إنْ مَاتَ من الْأَوَّلِ أَكَلَ وَعَلَى الثَّانِي ضَمَانُ ما نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ لِأَنَّ السَّهْمَ الْأَوَّلَ وَقَعَ بِهِ وهو صَيْدٌ فإذا قَتَلَهُ حَلَّ وقد مَلَكَهُ الْأَوَّلُ بِالْإِصَابَةِ فَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيَةُ نَقْصٌ في مِلْكِ الْأَوَّلِ فَيَضْمَنُهَا الثَّانِي. وَإِنْ مَاتَ من الْجِرَاحَةِ الثَّانِيَةِ لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ الثَّانِيَ رمي إلَيْهِ وهو غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَصَارَ كَالرَّمْيِ إلَى الشَّاةِ وَيَضْمَنُ الثَّانِي ما نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دخل في مِلْكِ الْغَيْرِ بِفِعْلِهِ ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَتَيْنِ لِأَنَّهُ أُتْلِفَ بِفِعْلِهِ إلَّا أَنَّهُ غَرِمَ نُقْصَانَ الْجُرْحِ الثَّانِي فَلَا يَضْمَنُهُ ثَانِيًا وَالْجُرْحُ الْأَوَّلُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِ الْمَالِكِ لِلصَّيْدِ فَلَا يَضْمَنُهُ الثَّانِي وَإِنْ مَاتَ من الْجِرَاحَتَيْنِ لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ أَحَدَ الرَّمْيَيْنِ حَاظِرٌ وَالْآخَرَ مُبِيحٌ فَالْحُكْمُ لِلْحَاظِرِ احْتِيَاطًا وَالصَّيْدُ لِلْأَوَّلِ لِانْفِرَادِهِ بِسَبَبِ مِلْكِهِ وهو الْجِرَاحَةُ الْمُخْرِجَةُ له من الِامْتِنَاعِ وَعَلَى الثَّانِي لِلْأَوَّلِ نِصْفُ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَتَيْنِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ ما نَقَصَتْهُ الْجِرَاحَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهُ مَاتَ بفعلهما [بفعلها] فَسَقَطَ نِصْفُ الضَّمَانِ وَثَبَتَ نِصْفُهُ وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيَةُ يَضْمَنُهَا الثَّانِي لِأَنَّهَا حَصَلَتْ في مِلْكِ غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ على شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ حين أَخْرَجَهُ من الْإِبَاحَةِ إلَى الْحَظْرِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ وَإِنْ لم يَعْلَمْ بأ [بأي] الجراحتن [الجراحتين] مَاتَ فَهُوَ كما لو عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من الجراحتن [الجراحتين] سَبَبُ الْقَتْلِ في الظَّاهِرِ وَاَللَّهُ عز [جل] وجل [وعز] أَعْلَمُ. وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا على صد [صيد] وَسَمَّى فَأَدْرَكَ الْكَلْبُ الصد [الصيد] فَضَرَبَهُ فَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ ثَانِيًا فَقَتَلَهُ أَكَلَ وَكَذَلِكَ لو أَرْسَلَ كَلْبَيْنِ على صَيْدٍ فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا فَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ الْكَلْبُ الْآخَرُ فَقَتَلَهُ فإنه يُؤْكَلُ لِأَنَّ هذا لَا يَدْخُلُ في تَعْلِيمِ الْكَلْبِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّمَ بِتَرْكِ الْجُرْحِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ فَلَا يُعْتَبَرُ فَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ على صَيْدٍ فَضَرَبَهُ كَلْبُ أَحَدِهِمَا فَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ كَلْبُ الْآخَرِ فَقَتَلَهُ فإنه يُؤْكَلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ جُرْحَ الْكَلْبِ بَعْدَ الْجُرْحِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ عنه فَلَا يُوجِبَ الْحَظْرَ فَيُؤْكَلُ وَيَكُونُ الصَّيْدُ لِصَاحِبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ جِرَاحَةَ كَلْبِهِ أَخْرَجَتْهُ عن حَدِّ الِامْتِنَاعِ فَصَارَ مِلْكًا له فَجِرَاحَةُ كَلْبِ الثَّانِي لَا تُزِيلُ مِلْكَهُ عنه وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِرْسَالُ وَالرَّمْيُ على الصَّيْدِ وَإِلَيْهِ حتى لو أَرْسَلَ على غَيْرِ صَيْدٍ أو رَمَى إلَى غَيْرِ صَيْدٍ فَأَصَابَ صَيْدًا لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الإرسل [الإرسال] إلَى غَيْرِ الصَّيْدِ وَالرَّمْيِ إلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ اصْطِيَادًا فَلَا يَكُونُ قَتْلُ الصَّيْدِ وَجَرْحُهُ مُضَافًا إلَى الْمُرْسَلِ وَالرَّامِي فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبَاحَةُ. وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا سمع حِسًّا فَظَنَّهُ صَيْدًا فَأَرْسَلَ عليه كَلْبَهُ أو بَازَهُ أو رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ صَيْدًا أو بَانَ له أَنَّ الْحِسَّ الذي سَمِعَهُ لم يَكُنْ حِسَّ صَيْدٍ وَإِنَّمَا كان شَاةً أو بَقَرَةً أو آدَمِيًّا أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ الذي أَصَابَهُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَرْسَلَ على ما ليس بِصَيْدٍ ورمي إلَى ما ليس بِصَيْدٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ لِمَا بَيَّنَّا من الْفِقْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى آدَمِيٍّ أو شَاةٍ أو بَقَرَةٍ وهو يَعْلَمُ بِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ كَذَا هذا وَإِنْ كان الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ فَأَصَابَ صَيْدًا يُؤْكَلُ سَوَاءٌ كان ذلك الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ أو غَيْرِ مَأْكُولٍ بَعْدَ أَنْ كان الْمُصَابُ صَيْدًا مَأْكُولًا وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ. وقال زُفَرُ إنْ كان ذلك الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهَا لَا يُؤْكَلُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كان حِسَّ ضَبُعٍ يُؤْكَلُ الصَّيْدُ وَإِنْ كان حِسَّ خِنْزِيرٍ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أن السَّبُعَ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَالرَّمْيُ إلَيْهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ كما لو كان حِسَّ آدَمِيٍّ فَرَمَى إلَيْهِ فَأَصَابَ صَيْدًا وَلَنَا أَنَّ الْإِرْسَالَ إلَى الصَّيْدِ اصْطِيَادٌ مُبَاحٌ مَأْكُولًا كان الصَّيْدُ أو غير مَأْكُولٍ فَتَتَعَلَّقُ بِهِ إبَاحَةُ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ لِأَنَّ حِلَّ الصَّيْدِ الْمَأْكُولِ يَتَعَلَّقُ بِالْإِرْسَالِ فإذا كان الْإِرْسَالُ حَلَالًا يَثْبُتُ حِلُّهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِحِلِّ الْإِرْسَالِ حِلُّ حُكْمِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَلَا تَتَبَدَّلُ بِالْفِعْلِ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ في الْإِرْسَالِ هو قَصْدُ الصَّيْدِ فَأَمَّا التَّعْيِينُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وقد قَصَدَ الصَّيْدَ حَلَالًا كان أو حَرَامًا بِخِلَافِ ما إذَا كان الْحِسُّ حِسَّ آدَمِيٍّ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ على الْآدَمِيِّ ليس بِاصْطِيَادٍ فَضْلًا عن أَنْ يَكُونَ حَلَالًا إذْ لَا يَتَعَلَّقُ حِلُّ الصَّيْدِ بِمَا ليس بِاصْطِيَادٍ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لم يُوجَدْ منه قَصْدُ الصَّيْدِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في فصلهِ بين سَائِرِ السِّبَاعِ وَبَيْنَ الْخِنْزِيرِ أَنَّ الْخِنْزِيرَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ حتى لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْإِرْسَالِ عليه وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَأَمَّا سَائِرُ السِّبَاعِ فَجَائِزُ الِانْتِفَاعِ بها في غَيْرِ جِهَةِ الْأَكْلِ فَكَانَ الْإِرْسَالُ إلَيْهَا مُعْتَبَرًا وَإِنْ سمع حِسًّا وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ أو غَيْرِهِ فَأَرْسَلَ فَأَصَابَ صَيْدًا لم يُؤْكَلْ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ اسْتَوَى الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فَكَانَ الْحُكْمُ لِلْحَظْرِ احْتِيَاطًا. وَذَكَرَ في الْأَصْلِ فِيمَنْ رَمَى خِنْزِيرًا أَهْلِيًّا فَأَصَابَ صَيْدًا قال لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ الْأَهْلِيَّ ليس بِصَيْدٍ لِعَدَمِ التَّوَحُّشِ وَالِامْتِنَاعِ فَكَانَ الرَّمْيُ إلَيْهِ كَالرَّمْيِ إلَى الشَّاةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِلُّ الصَّيْدِ وَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا مَأْكُولًا وقد قالوا فِيمَنْ سمع حِسًّا فَظَنَّهُ آدَمِيًّا فَرَمَاهُ فَأَصَابَ الْحِسَّ نَفْسَهُ فإذا هو صَيْدٌ أَكَلَ لِأَنَّهُ رمي إلَى الْمَحْسُوسِ الْمُعَيَّنِ وهو الصَّيْدُ فَصَحَّ وَنَظِيرُهُ ما إذَا قال لِامْرَأَتِهِ وَأَشَارَ إلَيْهَا هذه الْكَلْبَةُ طَالِقٌ أنها تَطْلُقُ وَبَطَلَ الِاسْمُ وَقَالُوا لو رَمَى طَائِرًا فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَهَبَ المرمى إلَيْهِ ولم يَعْلَمْ أَوَحْشِيٌّ أو مُسْتَأْنَسٌ أُكِلَ الصَّيْدُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الطَّيْرِ التَّوَحُّشُ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حتى يُعْلَمَ الِاسْتِئْنَاسُ وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ دَاجِنٌ تَأْوِي الْبُيُوتَ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ لِأَنَّ الدَّاجِنَ يَأْوِيهِ الْبَيْتُ وَتَثْبُتُ الْيَدُ عليه فَكَانَ الرَّمْيُ إلَيْهِ كَالرَّمْيِ إلَى الشَّاةِ وَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ كَذَا هذا وَقَالُوا لو رَمَى بَعِيرًا فَأَصَابَ صَيْدًا. وَذَهَبَ الْبَعِيرُ فلم يَعْلَمْ أَنَادٌّ أو غَيْرُ نَادٍّ لم يُؤْكَلْ الصَّيْدُ حتى يَعْلَمَ أَنَّ الْبَعِيرَ كان نَادًّا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْإِبِلِ الِاسْتِئْنَاسُ فَيُتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ حتى يَظْهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ رَمَى سَمَكَةً أو جَرَادَةً فَأَصَابَ صَيْدًا فقال في رِوَايَةٍ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ لَا ذَكَاةَ لَهُمَا وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْمَرْمِيَّ إلَيْهِ من جُمْلَةِ الصَّيْدِ وَإِنْ كان لَا ذَكَاةَ له وَقَالُوا لو أَرْسَلَ كَلْبَهُ على ظَبْيٍ مُوثَقٍ فَأَصَابَ صَيْدًا لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ الْمُوثَقَ ليس بِصَيْدٍ لِعَدَمِ مَعْنَى الصَّيْدِ فيه وهو الِامْتِنَاعُ فَأَشْبَهَ شَاةً وَلَوْ أَرْسَلَ بَازَهُ على ظَبْيٍ وهو لَا يَصِيدُ الظَّبْيَ فَأَصَابَ صَيْدًا لم يُؤْكَلْ لِأَنَّ هذا إرْسَالٌ لم يُقْصَدْ بِهِ الِاصْطِيَادُ فَصَارَ كَمَنْ أَرْسَلَ كَلْبًا على قَتْلِ رَجُلٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ ذُو النَّابِ الذي يَصْطَادُ بِهِ من الْجَوَارِحِ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ فَإِنْ كان مُحَرَّمَ الْعَيْنِ وهو الْخِنْزِيرُ فَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ لِأَنَّ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ مُحَرَّمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالِاصْطِيَادُ بِهِ انْتِفَاعٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحِلُّ. وَأَمَّا ما سِوَاهُ من ذِي النَّابِ من السباع فقد قال أصحابنا جميعا كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ وَذِي نَابٍ عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ ولم يَكُنْ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ فَصِيدَ بِهِ كان صَيْدُهُ حَلَالًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ: {وما عَلَّمْتُمْ من الْجَوَارِحِ} وَقَالُوا في الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ أنه لَا يَجُوزُ الصَّيْدُ بِهِمَا لَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِهِمَا بَلْ لِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّعَلُّمِ لِأَنَّ التَّعَلُّمَ بِتَرْكِ الْعَادَةِ وَذَلِكَ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَقِيلَ إنَّ من عَادَتِهِمَا أَنَّهُمَا إذَا أَخَذَا صَيْدًا لَا يَأْكُلَانِهِ في الْحَالِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِتَرْكِ الْأَكْلِ فِيهِمَا على التَّعَلُّمِ حتى لو تُصُوِّرَ تَعْلِيمُهُمَا يَجُوزُ وَذَكَر هِشَامُ وقال سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عن الذِّئْبِ إذَا عُلِّمَ فَصَادَ فقال هذا أَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَإِنْ كان فَلَا بَأْسَ بِهِ وقال سَأَلْتُهُ عن صَيْدِ ابْنِ عِرْسٍ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قال إذَا عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ فَكُلْ مِمَّا صَادَ فصار [فصاد] الْأَصْلُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ ما لَا يَكُونُ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ من الْجَوَارِحِ إذَا عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يُعَلَّمَ أَنَّ تَلَفَ الصَّيْدِ بِإِرْسَالٍ أو رَمْيٍ هو سَبَبُ الْحِلِّ من حَيْثُ الظَّاهِرِ فَإِنْ شَارَكَهُمَا مَعْنًى أو سَبَبٌ يَحْتَمِلُ حُصُولَ التَّلَفِ بِهِ وَالتَّلَفُ بِهِ مِمَّا لَا يُفِيدُ الْحِلُّ لَا يُؤْكَلُ إلَّا إذَا كان ذلك الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ حُصُولُ التَّلَفِ بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ فَقَدْ اُحْتُمِلَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ إنْ أَكَلَ عَسَى أَنَّهُ أَكَلَ الْحَرَامَ فَيَأْثَمُ وَإِنْ لم يَأْكُلْ فَلَا شَيْءَ عليه وَالتَّحَرُّزُ عن الضَّرَرِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال لِوَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ رضي اللَّهُ عنه الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ ما يَرِيبُكَ إلَى ما لَا يَرِيبُكَ وقال عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما ما اُجْتُمِعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ في شَيْءٍ إلَّا وقد غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا رَمَى صَيْدًا وهو يَطِيرُ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ على جَبَلٍ ثُمَّ سَقَطَ منه على الْأَرْضِ فَمَاتَ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ وهو تَفْسِيرُ الْمُتَرَدِّي لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ من الرَّمْيِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِسُقُوطِهِ عن الْجَبَلِ وَكَذَلِكَ لو كان على جَبَلٍ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ منه شَيْءٌ على الْجَبَلِ ثُمَّ سَقَطَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ أو كان على سَطْحٍ فَأَصَابَهُ فَهَوَى فَأَصَابَ حَائِطَ السَّطْحِ ثُمَّ سَقَطَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ أو كان على نَخْلَةٍ أو شَجَرَةٍ فَسَقَطَ منها على جِذْعِ النَّخْلَةِ أو نَدَّ من الشَّجَرَةِ ثُمَّ سَقَطَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ أو وَقَعَ على رُمْحٍ مَرْكُوزٍ في الْأَرْضِ وَفِيهِ سِنَانٌ فَوَقَعَ على السِّنَانِ ثُمَّ وَقَعَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ أو نَشِبَ فيه السِّنَانُ فَمَاتَ عليه أو أَصَابَ سَهْمُهُ صَيْدًا فَوَقَعَ في الْمَاءِ فَمَاتَ فيه لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِالرَّمْيِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِهَذِهِ الْأَسْباب الْمَوْجُودَةِ بَعْدَهُ. وقد رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال وَإِنْ وَقَعَ في الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ فَلَعَلَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ بَيَّنَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُكْمَ وَعَلَّلَ بِمَا ذَكَرْنَا من احْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ وهو وُقُوعُهُ في الْمَاءِ وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ بَعْلَةٍ يَتَعَمَّمُ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ وَلَوْ أَصَابَهُ السَّهْمُ فَوَقَعَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُؤْكَلَ لِجَوَازِ مَوْتِهِ بِسَبَبِ وُقُوعِهِ على الْأَرْضِ وفي الِاسْتِحْسَانِ يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عن وُقُوعِ الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ على الْأَرْضِ فَلَوْ اُعْتُبِرَ هذا الِاحْتِمَالُ لَوَقَعَ الناس في الْحَرَجِ وَذَكَرَ في الْمُنْتَقَى في الصَّيْدِ إذَا وَقَعَ على صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ أو انْقَطَعَ رَأْسُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ قال الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ الشَّهِيدُ الْمَرْوَزِيِّ وَهَذَا خِلَافُ جَوَابِ الْأَصْلِ. قال الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وعني بِهِ أَنَّهُ خِلَافُ عُمُومِ جَوَابِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ في الْأَصْلِ لو وَقَعَ على أجرة مَوْضُوعَةٍ في الْأَرْضِ أُكِلَ ولم يَفصل بين أَنْ يَكُونَ انْشَقَّ بَطْنُهُ أو لم يَنْشَقْ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُؤْكَلَ في الْحَالَيْنِ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ في الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بين الْحَالَيْنِ من حَيْثُ أن لو انْشَقَّ بَطْنُهُ أو انْقَطَعَ رَأْسُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْتَهُ بهذا السَّبَبِ لَا بِالرَّمْيِ فَكَانَ احْتِمَالُ مَوْتِهِ بِالرَّمْيِ احْتِمَالَ خِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يُعْتَبَرُ وإذا لم يَنْشَقَّ ولم يَنْقَطِعْ فَمَوْتُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من السَّبَبَيْنِ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا على السَّوَاءِ إلَّا أَنَّ التَّحَرُّزَ غَيْرُ مُمَكِّنٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ مَوْتِهِ بِسَبَبِ الْعَارِضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ في الْمُنْتَقَى تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ إذَا لم يَنْشَقَّ بَطْنُهُ أو لم يَنْقَطِعْ رَأْسُهُ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ وَيُجْعَلُ الْمُقَيَّدُ بَيَانًا لِلْمُطْلَقِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَلَوْ وَقَعَ على حَرْفِ آجُرَّةٍ أو حَرْفِ حَجَرٍ ثُمَّ وَقَعَ على الْأَرْضِ فَمَاتَ لم يُؤْكَلْ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كانت الْآجُرَّةُ مُنْطَرِحَةً على الْأَرْضِ فَوَقَعَ عليها ثُمَّ مَاتَ أَكَلَ لِأَنَّ الْآجُرَّةُ الْمُنْطَرِحَةَ كَالْأَرْضِ فَوُقُوعُهُ عليها كَوُقُوعِهِ على الْأَرْضِ وَلَوْ وَقَعَ على جَبَلٍ فَمَاتَ عليه أُكِلَ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَهُ على الْجَبَلِ كَاسْتِقْرَارِهِ على الْأَرْضِ. وَذُكِرَ في الْمُنْتَقَى عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لو رَمَى صَيْدًا على قلة [قمة] جَبَلٍ فَأَثْخَنَهُ حتى صَارَ لَا يَتَحَرَّكُ ولم يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْخُذَهُ فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ وَوَقَعَ لم يَأْكُلْهُ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن كَوْنِهِ صَيْدًا بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ لِخُرُوجِهِ عن حَدِّ الِامْتِنَاعِ فَالرَّمْيُ الثَّانِي لم يُصَادِفْ صَيْدًا فلم يَكُنْ ذَكَاةً له فَلَا يُؤْكَلُ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اجْتَمَعَ على الصَّيْدِ مُعَلَّمٌ وَغَيْرُ مُعَلَّمٍ أو مُسَمًّى عليه وَغَيْرُ مُسَمًّى أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لِاجْتِمَاعِ سَبَبَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ولم يُعْلَمْ أَيُّهُمَا قَتَلَهُ وَلَوْ أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كَلْبَهُ فَاتَّبَعَ الْكَلْبَ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَكِنَّهُ لم يُرْسِلْهُ أَحَدٌ ولم يَزْجُرْهُ بَعْدَ انْبِعَاثِهِ أو سَبُعٌ من السِّبَاعِ أو ذُو مِخْلَبٍ من الطَّيْرِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّمَ فَيُصَادُ بِهِ فَرَدَّ الصَّيْدَ عليه وَنَهَشَهُ أو فَعَلَ ما يَكُونُ مَعُونَةً لِلْكَلْبِ الْمُرْسَلِ فَأَخَذَهُ الْكَلْبُ الْمُرْسَلُ وَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ رَدَّ الْكَلْبِ وَنَهْشَهُ مُشَارَكَةٌ في الصَّيْدِ فَأَشْبَهَ مُشَارَكَةَ الْمُعَلَّمِ وغير الْمُعَلَّمِ وَالْمُسَمَّى عليه غير الْمُسَمَّى عليه بِخِلَافِ ما إذَا رَدَّ عليه آدَمِيٌّ أو بَقَرَةٌ أو حِمَارٌ أو فَرَسٌ أو ضَبٌّ لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ ليس من باب الِاصْطِيَادِ فَلَا يُزَاحِمُ الِاصْطِيَادَ في الْإِبَاحَةُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَإِنْ تَبِعَ الْكَلْبَ الْأَوَّلَ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ ولم يَرُدَّ عليه ولم يُهَيَّبْ الصَّيْدَ وَلَكِنَّهُ اشْتَدَّ عليه وكان الذي أَخَذَ وَقَتَلَ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِأَنَّهُمَا ما اشْتَرَكَا في الِاصْطِيَادِ لِعَدَمِ الْمُعَاوَنَةِ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يَلْحَقَ الْمُرْسِلُ أو الرَّامِي الصَّيْدَ أو من يَقُومُ مَقَامَهُ قبل التَّوَارِي عن عَيْنِهِ أو قبل انْقِطَاعِ الطَّلَبِ منه إذَا لم يَدْرِك ذَبْحَهُ فَإِنْ تَوَارَى عن عَيْنِهِ وَقَعَدَ عن طَلَبِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ لم يُؤْكَلْ فَأَمَّا إذَا لم يَتَوَارَ عنه أو تَوَارَى لَكِنَّهُ لم يَقْعُدْ عن الطَّلَبِ حتى وَجَدَهُ يُؤْكَلُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الصَّيْدَ مَاتَ من جِرَاحَةِ كَلْبِهِ أو من سَهْمِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ بِالشَّكِّ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ على حِمَارٍ وَحْشٍ عَقِيرٍ فَتَبَادَرَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ فقال دَعُوهُ فَسَيَأْتِي صَاحِبُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ من فِهْرٍ فقال هذه رَمِيَّتِي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في طَلَبِهَا وقد جَعَلْتُهَا لك فَأَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه فَقَسَمَهُ بين الرِّفَاقِ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ ذلك لِأَنَّ هذا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عنه في الصَّيْدِ فإن الْعَادَةَ أَنَّ السَّهْمَ إذَا وَقَعَ بِالصَّيْدِ تَحَامَلَ فَغَابَ وإذا أَصَابَ الْكَلْبَ الْخَوْفُ منه غَابَ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا ذلك لَأَدَّى ذلك إلَى انْسِدَادِ باب الصَّيْدِ وَوُقُوعِ الصَّيَّادِينَ في الْحَرَجِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْغَيْبَةِ التي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنها إذَا لم يُوجَدْ من الصَّائِدِ تَفْرِيطٌ في الطَّلَبِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَالْحَرَجِ وَعِنْدَ قُعُودِهِ عن الطَّلَبِ لَا ضَرُورَةَ فَيُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ. وقد رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى النبي صلى الله عليه وسلم صَيْدًا فقال له من أَيْنَ لَك هذا فقال رَمْيَتُهُ بِالْأَمْسِ وَكُنْت في طَلَبِهِ حتى هَجَمَ عَلَيَّ اللَّيْلُ فَقَطَعَنِي عنه ثُمَّ وَجَدْتُهُ الْيَوْمَ وَمِزْرَاقِي فيه فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنه غَابَ عَنْكَ وَلَا أَدْرِي لَعَلَّ بَعْضَ الْهَوَامِّ أَعَانَكَ عليه لَا حَاجَةَ لي فيه بَيَّنَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُكْمَ وعليه [وعلة] الْحُكْمِ وهو ما ذَكَرْنَا من احْتِمَالِ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فيه إذَا لم يَقْعُدْ عن الطَّلَبِ. وَرُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عن ذلك فقال كُلْ ما أَصْمَيْتَ وَدَعْ ما أَنْمَيْتَ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الأصماء ما عَايَنَهُ وَالْإِنْمَاءُ ما تَوَارَى عنه وقال هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الأصماء ما لم يَتَوَارَ على بَصَرِكَ وَالْإِنْمَاءُ ما تَوَارَى عن بَصَرِك إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ الطَّلَبُ مَقَامَ الْبَصَرِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ عِنْدَ عَدَمِ الطَّلَبِ وَلِأَنَّهُ إذَا قَعَدَ عن طَلَبِهِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لو كان طَلَبَهُ لَأَدْرَكَهُ حَيًّا فَيَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ ذَكَاةً فَلَا يَحِلُّ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ ما إذَا لم يَقْعُدْ عن طَلَبِهِ لِأَنَّهُ لم يُدْرِكْهُ حَيًّا فَبَقِيَ الْجُرْحُ ذَكَاةً له وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا ما يُسْتَحَبُّ من الذَّكَاةِ وما يُكْرَهُ منها فَمِنْهَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ بِالنَّهَارِ وَيُكْرَهُ بِاللَّيْلِ. وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن الْأَضْحَى لَيْلًا وَعَنْ الْحَصَادِ لَيْلًا وهو كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَمَعْنَى الْكَرَاهَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِوُجُوهٍ أحدهما [أحدها] أَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ أَمْنٍ وَسُكُونٍ وَرَاحَةٍ فَإِيصَالُ الْأَلَمِ في وَقْتِ الرَّاحَةِ يَكُونُ أَشَدَّ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ من أَنْ يخطىء [يخطئ] فَيَقْطَعُ يَدَهُ وَلِهَذَا كُرِهَ الْحَصَادُ بِاللَّيْلِ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْعُرُوقَ الْمَشْرُوطَةَ في الذَّبْحِ لَا تَتَبَيَّنُ في اللَّيْلِ فَرُبَّمَا لَا يَسْتَوْفِي قَطْعَهَا وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ في الذَّبْحِ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَكُونَ ذلك بِآلَةٍ حَادَّةٍ من الْحَدِيدِ كَالسِّكِّينِ وَالسَّيْفِ وَنَحْوِ ذلك وَيُكْرَهُ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ وَبِالْكَلِيلِ من الْحَدِيدِ لِأَنَّ السُّنَّةَ في ذَبْحِ الْحَيَوَانِ ما كان أَسْهَلَ على الْحَيَوَانِ وَأَقْرَبَ إلَى رَاحَتِهِ وَالْأَصْلُ فيه ما رَوَيْنَا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عز شَأْنُهُ كَتَبَ الْإِحْسَانَ على كل شَيْءٍ فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وإذا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أحدكم شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَلْيَشُدَّ قَوَائِمَهُ وَلْيُلْقِهِ على شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَلْيُوَجِّهْهُ نحو الْقِبْلَةِ وَلِيُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى عليه وَالذَّبْحُ بِمَا قُلْنَا أَسْهَلُ على الْحَيَوَانِ وَأَقْرَبُ إلَى رَاحَتْهُ وَمِنْهَا التَّذْفِيفُ في قَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَيُكْرَهُ الْإِبْطَاءُ فيه لِمَا رَوَيْنَا عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال وَلِيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ وَالْإِسْرَاعُ نَوْعُ رَاحَةٍ له. وَمِنْهَا الذَّبْحُ في الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالنَّحْرُ في الْإِبِلِ وَيُكْرَهُ الْقَلْبُ من ذلك لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ ذلك من قِبَلِ الْحُلْقُومِ وَيُكْرَهُ من قِبَلِ الْقَفَا لِمَا مَرَّ وَمِنْهَا قَطْعُ الْأَوْدَاجِ كُلِّهَا وَيُكْرَهُ قَطْعُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِمَا فيه من إبْطَاءِ فَوَاتِ حَيَاتِهِ وَمِنْهَا الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَلَا يُبْلَغُ بِهِ النُّخَاعَ وهو الْعِرْقُ الْأَبْيَضُ الذي يَكُونُ في عَظْمِ الرَّقَبَةِ وَلَا يُبَانُ الرَّأْسُ وَلَوْ فَعَلَ ذلك يُكْرَهُ لِمَا فيه من زِيَادَةِ إيلَامٍ من غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا وفي الحديث أَلَا لَا تَنْخَعُوا الذَّبِيحَةَ وَالنَّخْعُ الْقَتْلُ الشَّدِيدُ حتى يَبْلُغَ النُّخَاعَ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَالذَّبِيحَةُ مُوَجَّهَةً إلَى الْقِبْلَةِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا إذَا ذَبَحُوا اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ فإنه رُوِيَ عن الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قال كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِالذَّبِيحَةِ الْقِبْلَةَ وَقَوْلُهُ كَانُوا كِنَايَةً عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِذَبَائِحِهِمْ إلَى الْأَوْثَانِ فَتُسْتَحَبُّ مُخَالَفَتُهُمْ في ذلك بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ التي هِيَ جِهَةُ الرَّغْبَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ من فُلَانٍ وَإِنَّمَا يقول ذلك بَعْدَ الْفَرَاغِ من الذَّبْحِ أو قبل الِاشْتِغَالِ بِالذَّبْحِ هَكَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عن حَمَّادٍ عن إبْرَاهِيمَ وَكَذَلِكَ قال أبو يُوسُفَ اُدْعُ بِالتَّقَبُّلِ قبل الذَّبْحِ إنْ شِئْت أو بَعْدَهُ. وقد رَوَيْنَا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «مَوْطِنَانِ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا عِنْدَ الْعُطَاسِ وَعِنْدَ الذَّبْحِ» وَرَوَيْنَا عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال: «جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ» وَلَوْ قال ذلك لَا تَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ لِأَنَّهُ ما ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ عز شَأْنُهُ على سَبِيلِ الاشراك لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِتَرْكِهِ التَّجْرِيدَ من حَيْثُ الصُّورَةُ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدِهِمَا عن نَفْسِهِ وَالْآخَرِ عن أُمَّتِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ليس فيه أَنَّهُ ذَكَرَ مع اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ نَفْسَهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أو أُمَّتَهُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ضَحَّى أَحَدَهُمَا وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ عنه وَضَحَّى الْآخَرَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ عن أُمَّتِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ وَيُكْرَهُ له بَعْدَ الذَّبْحِ قبل أَنْ تَبْرُدَ أَنْ يَنْخَعَهَا أَيْضًا وهو أَنْ يَنْحَرَهَا حتى يَبْلُغَ النُّخَاعَ وَأَنْ يَسْلُخَهَا قبل أَنْ تَبْرُدَ لِأَنَّ فيه زِيَادَةَ إيلَامٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فَإِنْ نَخَعَ أو سَلَخَ قبل أَنْ تَبْرُدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا لِوُجُودِ الذَّبْحِ بِشَرَائِطِهِ وَيُكْرَهُ جَرُّهَا بِرِجْلِهَا إلَى الْمَذْبَحِ لِأَنَّهُ الحاق زِيَادَةِ أَلَمٍ بها من غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا في الذَّكَاةِ. وَرُوِيَ عن ابْنِ سِيرِينَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ شَاةً لِيَذْبَحَهَا سَوْقًا عَنِيفًا فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ قال له سُقْهَا إلَى الْمَوْتِ سَوْقًا جَمِيلًا لَا أُمَّ لك وَيُكْرَهُ أَنْ يُضْجِعَهَا وَيُحِدَّ الشَّفْرَةَ بين يَدَيْهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً وهو يُحِدُّ الشَّفْرَةَ وَهِيَ تُلَاحِظُهُ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَدِدْت أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ أَلَا حَدَدْتَ الشَّفْرَةَ قبل أَنْ تُضْجِعَهَا وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا وقد أَضْجَعَ شَاةً وَوَضَعَ رِجْلَهُ على صَفْحَةِ وَجْهِهَا وهو يُحِدُّ الشَّفْرَةَ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ فَهَرَبَ الرَّجُلُ وَشَرَدَتْ الشَّاةُ وَلِأَنَّ الْبَهِيمَةَ تَعْرِفُ الْآلَةَ الْجَارِحَةَ كما تَعْرِفُ الْمَهَالِكَ فَتَتَحَرَّزُ عنها فإذا أَحَدَّ الشَّفْرَةَ وقد أَضْجَعَهَا يَزْدَادُ أَلَمُهَا وَهَذَا كُلُّهُ لَا تَحْرُمُ بِهِ الذَّبِيحَةُ لِأَنَّ النَّهْيَ عن ذلك ليس لِمَعْنًى في الْمَنْهِيِّ بَلْ لِمَا يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ من زِيَادَةِ أَلَمٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَكَانَ النَّهْيُ عنه لِمَعْنًى في غَيْرِ الْمَنْهِيِّ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَالذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبٍ وَالِاصْطِيَادِ بِقَوْسٍ مَغْصُوبٍ وَنَحْوِ ذلك.
|