الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
التاسعة قد تأوّل هذه الآية قُدَامة بن مَظْعون الجُمَحِيّ من الصحابة رضي الله عنهم، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بَدْرًا وعُمِّر.وكان خَتَن عمر بن الخطاب، خال عبد الله وحفصة، وولاّه عمر بن الخطاب على البَحْرَين، ثم عزله بشهادة الجَارُود سيّد عبد القيس عليه بشرب الخمر.روى الدَّارَقُطْنيّ قال حدّثنا أبو الحسن عليّ بن محمّد المصري حدّثنا يحيى بن أيوب العلاّف حدّثني سعيد بن عُفَير حدّثني يحيى بن فُلَيْح بن سليمان قال حدّثني ثورْ بن زيد عن عِكْرمة عن ابن عباس: أن الشُّرَّاب كانوا يُضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنِّعال والعِصيّ حتى تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى تُوفّى، ثم كان عمر من بعده يجلدهم كذلك أربعين حتى أُتي برجل من المهاجرين الأوّلين وقد شرب فأمر به أن يجلد؛ فقال لِم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله! فقال عمر: وفي أيّ كتاب الله تجد ألا أجلدك؟ فقال له: إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} الآية.فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدْرًا وأُحُدًا والْخَندق والمشاهد كلها؛ فقال عمر: أَلاَ تردون عليه ما يقول؛ فقال ابن عباس: إنّ هؤلاء الآيات أنزلن عذرًا لمن غَبَر وحُجّة على الناس؛ لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية؛ ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأُخرى؛ فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الآية؛ فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر؛ فقال عمر: صدقت ماذا ترون؟ فقال عليّ رضي الله عنه: إنه إذا شرب سَكر وإذا سَكر هَذَى، وإذا هَذَى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة؛ فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة.وذكر الحميديّ عن أبي بكر البَرْقانيّ عن ابن عباس قال: لما قدم الجارُود من البحرين قال: يا أمير المؤمنين إنّ قُدَامة ابن مَظْعون قد شرب مُسْكِرا، وإني إذا رأيت حقًا من حقوق الله حق عليّ أن أرفعه إليك؛ فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ فقال: أبو هريرة؛ فدعا عمر أبا هريرة فقال: عَلاَمَ تشهد يا أبا هريرة؟ فقال: لم أره حين شرب، ورأيته سكران يَقيء، فقال عمر: لقد تَنَطَّعتَ في الشهادة؛ ثم كتب عمر إلى قُدَامة وهو بالبَحْرَين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قُدَامة والجَارُود بالمدينة كلّم الجارود عمر؛ فقال: أقم على هذا كتاب الله؛ فقال عمر للجارود: أشهيد أنت أم خَصْم؟ فقال الجارود: أنا شهيد؛ قال: قد كنتَ أديتَ الشهادة؛ ثم قال لعمر: إني أنْشُدك الله! فقال عمر: أَمَا والله لتملكنّ لسانك أو لأسوءنّك؛ فقال الجارود: أما والله ما ذلك بالحق، أن يشرب ابن عمك وتسوءني! فأوعده عمر؛ فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير المؤمنين إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مَظْعون، فأرسل عمر إلى هند يَنْشدها بالله، فأقامت هند على زوجها الشهادة؛ فقال عمر: يا قُدامة إني جالدك؛ فقال قُدامة: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني يا عمر.قال: ولم يا قُدامة؟ قال: لأن الله سبحانه يقول: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} الآية إلى {الْمُحْسِنِينَ}.فقال عمر: أخطأت التأويل يا قُدامة؛ إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على القوم فقال: ما ترون في جلد قُدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وَجِعا؛ فسكت عمر عن جلده ثم أصبح يومًا فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قُدَامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده مادام وَجِعا، فقال عمر: إنه والله لأن يلقى الله تحت السوط، أحب إليّ أن ألقى الله وهو في عنقي! واللَّهِ لأجلدنه؛ ائتوني بسوط، فجاءه مولاه أسلم بسوط رقيق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم: أخذتك دِقْرارة أهلك؛ ائتوني بسوط غير هذا، قال: فجاءه أسلم بسوط تام؛ فأمر عمر بقُدَامة فجلد؛ فغاضب قُدَامة عمر وهجره؛ فحجَّا وقُدَامة مهاجر لعمر حتى قَفَلوا عن حجهم ونزل عمر بالسُّقْيَا ونام بها فلما استيقظ عمر قال: عجلوا عليّ بقُدَامة، انطلقوا فأتوني به، فوالله لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال: سالم قُدامة فإنه أخوك، فلما جاءوا قُدامة أَبَى أن يأتيه، فأمر عمر بقُدامة أن يجر إليه جَرًّا حتى كلمه عمر واستغفر له، فكان أوّل صلحهما.قال أيوب ابن أبي تميمة: لم يحدّ أحد من أهل بدر في الخمر غيره.قال ابن العربيّ: فهذا يدلك على تأويل الآية، وما ذكِر فيه عن ابن عباس من حديث الدّارقطنيّ، وعمر في حديث البَرْقَاني وهو صحيح؛ وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره ما حُدّ على الخمر أحد، فكان هذا من أفسد تأويل؛ وقد خفي على قُدامة؛ وعرفه من وفقه الله كعمر وابن عباس رضي الله عنهما؛ قال الشاعر:
وروي عن عليّ رضي الله عنه أن قومًا شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال وتأوّلوا هذه الآية، فأجمع عليّ وعمر على أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا؛ ذكره الكِيَا الطَّبَري. اهـ.
فإنه لما كان الجدع لا يليق بالعين وكانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص وما يجري مجراه.الطريق الثاني أن يجعل الإيمان والعمل الصالح ليس شرطًا حقيقيًا وإن كان معطوفًا على الشرط فكأنه تعالى لما أراد أن يبين وجوب الإيمان وما عطف عليه عطفه على ما هو واجب من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب وإن لم يشتركا في كونهما شرطًا في نفي الجناح فيما يطعم وهذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانًا واستغرابًا انتهى.ولا يخفى ما في الطريق الثاني من البعد وإن الطريق الأول حزن فإن مثل هذا الحذف مع ما زعمه من القرينة لا يكاد يوجد في الفصيح في أمثال هذه المقامات، وليس ذلك كالبيت الذي ذكره فإنه من باب: وهو مما لا كلام لنا فيه وأين البيض من الباذنجان.وقيل في الجواب أيضًا عن ذلك: إن المؤمن يصح أن يطلق عليه بأنه لا جناح عليه والكافر مستحق للعقاب مغمور به يوم الحساب فلا يطلق عليه ذلك، وأيضًا إن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحليل والتحريم فلذل يخص المؤمن بالذكر ولا يخفى ما فيه.وقال عصام الملة: الأظهر أن المراد أنه لا جناح فيما طعموا مما سوى هذه المحرمات إذا ما اتقوا ولم يأكلوا فوق الشبع ولم يأكلوا من مال الغير، وذكر الإيمان والعمل الصالح للإيذان بأن الاتقاء لابد له منهما فإن من لا إيمان له لا يتقي وكذا من لا عمل صالح له فضمهما إلى الإيمان لأنهما ملاك الاتقاء، وتكرير التقوى والثبات على الإيمان للإشارة إلى أن ثبات نفي الجناح فيما يطعم على ثبات التقوى، وترك ذكر العمل الصالح ثانيًا للإشارة إلى أن الإيمان بعد التمرن على العمل لا يدع أن يترك العمل.
|