الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الثامنة عشرة قوله تعالى: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي يقولان في يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضًا نأخذه بدلًا مما أوصى به، ولا ندفعه إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا.وإضمار القول كثير، كقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23-24] أي يقولون سلام عليكم.والاشتراء هاهنا ليس بمعنى البيع، بل هوالتحصيل.التاسعة عشرة اللام في قوله: {لاَ نَشْتَرِي} جواب لقوله: {فَيُقْسِمَانِ} لأن أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم؛ وهو لا وما في النفي، وإنّ واللام في الإيجاب.والهاء في {به} عائد على اسم الله تعالى، وهو أقرب مذكور؛ المعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العَرَض.ويحتمل أن يعود على الشهادة وذُكِّرت على معنى القول؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» فأعاد الضمير على معنى الدعوة الذي هو الدعاء، وقد تقدّم في سورة النساء.الموفية عشرين قوله تعالى: {ثَمَنًا} قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن أي سلعة ذا ثمن، فحذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه.وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو ويكون السلعة؛ فإن الثمن عندنا مشترًى كما أن المثمون مشترًى؛ فكل واحد من المبيعين ثمنًا ومثمونًا كان البيع دائرًا على عَرْض ونَقْد، أو على عرضين، أو على نقْديْن؛ وعلى هذا الأصل تنبني مسألة: إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به؟ قال أبو حنيفة: لا يكون أولى به؛ وبناه على هذا الأصل، وقال: يكون صاحبها أُسوة الغرماء.وقال مالك: هو أحق بها في الفَلَس دون الموت.وقال الشافعيّ: صاحبها أحق بها في الفلس والموت.تمسّك أبو حنيفة بما ذكرنا، وبأن الأصل الكليّ أن الديْن في ذمة المفلِس والميت، وما بأيديهما محل للوفاء؛ فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رؤوس أموالهم، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السِّلَع موجودة أو لا، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانُها لهم في الذمة بالإجماع، فلا يكون لهم إلاَّ أثمانها أو ما وُجد منها.وخَصّص مالك والشافعيّ هذه القاعدة بأخبار رُويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره.الحادية والعشرون قوله تعالى: {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} أي ما أعلمنا الله من الشهادة.وفيها سبُع قراءات، من أرادها وجدها في «التحصيل» وغيره. اهـ.
التقدير أتى خالد أو يأتيها خالد وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحدًا من هذه الأقسام الثلاثة والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تخرج على وجهين: أحدهما أن يكون {شهادة} منصوبة على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر و{اثنان} مرتفع به والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب قولك: ضربًا زيدًا إلا أن الفاعل في ضربًا مسند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه ليشهد، والوجه الثاني أن يكون أيضًا مصدرًا ليس بمعنى الأمر بل يكون خبرًا ناب مناب الفعل في الخبر، وإن كان ذلك قليلًا كقولك افعل وكرامة ومسرة أي وأكرمك وأسرك فكرامة ومسرة بدلان من اللفظ بالفعل في الخبر وكما هو الأحسن في قول امرىء القيس: فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفًا لأنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر التقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان، والشهادة هنا هل هي التي تقام بها الحقوق عند الحكام أو الحضور أو اليمين ثلاثة أقوال آخرها للطبري والقفال كقوله: {فشهادة أحدهم أربع شهادات} وقيل تأتي الشهادة بمعنى الإقرار نحو قوله: {والملائكة يشهدون} وبمعنى العلم نحو قوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} وبمعنى الوصية وخرجت هذه الآية عليه فيكون فيها أربعة أقوال.{ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} {ذوا عدل} صفة لقوله: {اثنان} و{منكم} صفة أخرى و{من غيركم} صفة لآخران، قال الزمخشري {منكم} من أقاربكم و{من غيركم} من الأجانب {إن أنتم ضربتم في الأرض} يعني أن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح وهم له أنصح، وقيل {منكم} من المسلمين وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر، وعن مكحول نسخها قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} انتهى.وما اختاره الزمخشري وبدأ به أولًا هو قول ابن عباس وعكرمة والحسن والزهري قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم أحق بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب وهذا القول مخالف لما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين حتى ابن عطية قال لا نعلم خلافًا أن سبب هذه الآية أن تميمًا الداري وعدي بن زياد كانا نصرانيين وساقا الحديث المذكور أولًا فهذا القول مخالف لسبب النزول وأما القول الثاني الذي حكاه الزمخشري هو مذهب أبي موسى وابن المسيب ويحيى بن يعمر وابن جبير وأبي مجلز وابراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي، وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال الثوري ومال إليه أبو عبيد واختاره أحمد قالوا: معنى قوله: {منكم} من المؤمنين ومعنى {من غيركم} من الكفار، قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا يؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفار ومذهب أبي موسى وشريح وغيرهما أن الآية محكمة، قال أحمد: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ورجح أبو عبد الله الرازي هذا القول قال: قوله: {يا أيها الذين آمنوا} خطاب لجميع المؤمنين فلما قال: {أو آخران من غيركم} كان من غير المؤمنين لا محالة وبأنه لو كان الآخران مسلمين لم يكن جواز الاستشهاد بهما مشروطًا بالسفر لأن المسلم جائز استشهاده في الحضر والسفر وبأنه دلت الآية على وجوب الحلف من بعد الصلاة وأجمع المسلمون على أن الشاهد لا يجب تحليفه فعلمنا أنهما ليسا من المسلمين وبسبب النزول وهو شهادة النصرانيين على بديل وكان مسلمًا وبأن أبا موسى قضى بشهادة يهوديين بعد أن حلفهما وما أنكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعًا وباتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل وليس فيها منسوخ، وقال أبو جعفر النحاس ناصرًا للقول الأول: هذا ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول تقول مررت بكريم وكريم آخر فقوله آخر يدل على أنه من جنس الأول ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ولا مررت برجل وحمار آخر فوجب من هذا أن يكون معنى قوله: {أو آخران من غيركم} أي عدلان والكفار لا يكونون عدولًا انتهى، وما ذكره في المثل صحيح إلا أن الذي في الآية مخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب لأنه مثل بآخر وجعله صفة لغير جنس الأول.
|