الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كان فعلهم فعل العالي على السلطان، قال: {بسلطان} أي أمر باهر قاهر من عند مالكهم، لا يسوغ لأحد الاستعلاء عليه فكيف بالاستعلاء على من هو بأمره {مبين} أي واضح في نفسه سلطنته ومظهر لغيره ذلك.ولما كان من العجائب أن يقتل منهم نفسًا ثم يخرج فارًا منهم ثم يأتي إليهم لا سيما إتيانًا يقاهرهم فيه في أمر عظيم من غير أن يقع بينهم وبينه ما يمحوما تقدم منه، نبههم على إتيانه هذا على هذا الحال آية أخرى دالة على السلطان، فقال مؤكدًا تكذيبًا لظنهم أنه في قبضتهم: {وإني عذت} أي اعتصمت وامتنعت {بربي} الذي رباني على ما اقتضاه لطفه بي وإحسانه إليّ {وربكم} الذي أعاذني من قتلكم لي بكم على ما دعت إليه حكمته من جبروتكم وتكبركم وقوة مكنتكم {أن ترجمون} أي أن يتجدد في وقت من الأوقات قتل منكم لي، ما أتيتكم حتى توثقت من ربي في ذلك، فإني قلت {إني أخاف أن يقتلون} فقال: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانًا فلا يصلون إليكما بآياتنا} [القصص: 38] فهو من أعظم آياتي أن لا تصلوا على قوتكم وكثرتكم إلى قتلي منع أنه لا قوة لي بغير الله الذي أرسلني.ولما كان التقدير: فإن امنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم، عطف عليه قوله: {وإن لم تؤمنوا لي} أي تصدقوا لأجلي ما أخبرتكم به {فاعتزلون} أي وإن لم تعتزلوني هلكتم، ولا تقدرون على قتلي بوجه وأنا واحد ممن تسومونهم سوء العذاب، وما قتلتم أبناءهم إلا من أجلي، فرباني على كف من ضاقت عليه الأرض بسببي وسفك الدماء في شأني، ومنعه الله من أن يصل إليّ منه سوء قبل أن أعوذ به، فكيف به بعد أن أرسلني وعذت به فأعاذني، واستجرت به فأجارني.ولما كان التقدير: لم يؤمنوا به ولا لأجله ولم يعتزلوه، بل بغوا له الغوائل وراموا أن يواقعوا به الدواهي والقواصم، فلم يقدروا على ذلك واذوا قومه وطال البلاء، سبب عنه قوله: {فدعا ربه} الذي أحسن إليه وضمن له سياسته وسياسة قومه، ثم فسر ما دعا به بقوله: {أن هؤلاء} أي الحقيرون الأراذل الذليلون {قوم} أي لهم قوة على القيام بما يحاولونه {مجرمون} أي عريقون في قطع ما أمرت به أن يوصل، وذلك متضمن وصل ما أمرت به أن يقطع، فكان المعنى: فدعا بهذا المعنى، ولذلك أتى (بأن) الدالة على المصدرية.ولما كان ممن يستجيب دعاءه ويكرم نداءه، سبب عن ذلك قوله: {فأسر} أي فقلنا له: سر عامة الليل- هذا على قراءة المدنيين وابن كثير بوصل الهمزة وعلى قراءة غيرهم بالقطع المعنى: أوقع السرى وهو السير عامة الليل {بعبادي} الذين هم أهل لإضافتهم إلى جنابي، قومك الذين أرسلناك لإسعادهم باستنقاذهم ممن يظلمهم وتفريغهم لعبادتي لا لعبادة غيري.ولما كان سبحانه قد تقدم إلى بني إسرائيل في أن يكونوا متهيئين في الليلة التي أمر بالسرى فيها بحيث لا يكون لأحد منهم عاقة أصلًا كما تقدم بيانه في الأعراف عن التوراة، بين تأكيده لذلك بقوله: {ليلًا} فصار تأكيدًا بغير اللفظ، وإنما أمره بالسير في الليل لأنه أوقع بالقبط موت الأبكار ليلًا، فأمر فرعون موسى عليه الصلاة والسلام أن يخرج بقومه في ذلك خوفًا من أن يموت القبط.ولما علم الله تعالى أنهم إن تأخروا إلى أن يطلع الفجر ويرتفع عنهم الموت، منعوهم الخروج، وإن تأخروا إلى آخر الليل أدركوهم قبل الوصو ل إلى البحر فيقتلوهم، علل هذا الأمر بقوله مؤكدًا له لأن حال القبط عندما أمروهم بالخروج كان حال من لا يصدق له ترجع في قوله: {إنكم متبعون} أي مطلوبون بغاية الشهوة والجهد من عدوكم، فلا يغرنكم ما هم فيه عند أمركم بالخروج من الجزع من إقامتكم بين أظهرهم وسؤالهم لكم في الخروج عنهم بسب وقوع الموت الفاشي فيهم، فإن القلوب بيد الله، فهو يقسي قلب فرعون بعد رؤية هذه الآيات حين يرتفع عنهم الموت ويفرغون من دفن موتاهم فيطلبكم لما دبرته في القدم من سياستكم بإغراقهم أجمعين ليظهر مجدي بذلك وأدفع عنكم روع مدافعتهم فإني أعلم أنه لا قوة لكم ولا طاقة بهم، فلم أكلفكم لمباشرة شيء من أمرهم.ولما أمره بالإسراء وعلله، أمره بما يفعل فيه وعلله فقال: {واترك البحر} أي إذا أسريت بهم وتبعك العدو ووصلت إليه وأمرناك بضربه لينفتح لتدخلوا فيه فدخلتم ونجوتم {رهوا} بعد خروجكم منه بأجمعكم أي منفرجًا واسعًا ساكنًا بحيث يكون المرتفع من مائه مرتفعًا والمنخفض منخفضًا كالجدار، وطريقه الذي سرتم به يابسًا ذا سير سهل على الحالة التي دخلتم فيها ليدخل فيه عدوكم فنمجد بإغراقهم كما وعدناكم، وقال البغوي: راهيًا أي ذا رهوفسمي بالمصدر- وعزاه إلى مقاتل- انتهى.ولما كانت هذه أسبابًا لدخو ل ال فرعون فيه، علل بما يكون عنها تسكينًا لقلوبهم في ترك البحر طريقًا مفتوحًا يدخله العدو، فقال مؤكدًا لأجل استبعاد بني إسرائيل مضمون الخبر لأنه من خوارق العادات مع ما لفرعون واله في قلوبهم من الهيبة الموجبة لأن يستبعدوا معها عمومهم بالأهلاك {إنهم جند مغرقون} أي متمكنون في هذا الوصف وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي محطه النجدة الموجبة للعلوفي الأمور.ولما أرشد السياق ولا بد إلى تقدير: فأسرى موسى بعباد الله كما أمره الله فتعبهم ال فرعون كما أخبر سبحانه، ففتح الله البحر بباهر قدرته وأمسك ماءه كالجدران بقاهر عظمته وتركه بعد طلوعهم منه على حالته فتبعهم عباد الشيطان بما فاض عليهم من شقاوته فأغرقهم الله بعزته لم يفلت منهم أحد، عبر سبحانه عن هذا كله بقوله على طريق الاستئناف: {كم تركوا} أي الذي سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا {من جنات} أي بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يسر المهموم ويستر الهموم، ودل على كرم الأرض بقوله: {وعيون وزروع} أي مما هو دون الأشجار.ولما كان ذلك لا يكمل إلا بمنازل ومناظر في الجنان وغيرها فقال: {ومقام كريم} أي مجلس شريف هو أهل لأن يقيم الإنسان فيه، لأن النهاية فيما يرضيه.ولما كان ذلك قد يكون بتعب صاحبة فيه، دل على أنه كان بكد غيرهم وهم في غاية الترف، وهذا هو الذي حملهم على اتباع من كان يكفيهم ذلك حتى أداهم إلى الغرق قال: {ونعمة} هي بفتح النون اسم للتنعم بمعنى الترفه والعيش اللين الرغد، وأما التي بالكسر فهي الأنعام {كانوا فيها} أي دائمًا {فاكهين} أي فعلهم في عيشهم فعل المترفه لا فعل من يضطر إلى إقامة نفسه.ولما كان هذا أمرًا عظيمًا لا يكاد يصدق أن يكون لأحد، دل على عظمه وحصو له لهم بقوله: {كذلك} أي الأمر كما أخبرنا به من تنعيمهم وإخراجهم وإغراقهم وأنهم تركوا جميع ما كانوا فيه لم يغن عنهم شيء منه، فلا يغترن أحد بما ابتليناه به من النعم لئلا يصنع به من الأهلاك ما صنعنا بهم.ولما أفهم سوق الكلام هكذا إغراقهم كلهم، زاده إيضاحًا بالتعبير بالإرث الذي حقيقته الأخذ عن الميت أخذًا لا منازع فيه فقال عاطفًا على ما تقدم تقديره بعد اسم الإشارة: {وأورثناها} أي تلك الأمور العظيمة {قومًا} أي ناسًا ذوي قوة في في القيام على ما يحاولونه، وحقق أنهم غيرهم تحقيقًا لإغراقه بقوله: {آخرين} قال ابن برجان، وقال في سورة الظلمة: {وعيون وكنوز} مكان {وزروع} لما كان المعهود من الزرع الحصد في أقرب المدة أو رث زروعها وجناتها وما فيها من مقام كريم قومًا بال فرعون فإنهم أهلكوا ولا بني إسرائيل فإنهم قد عبروا البحر، ولما توطد ملكهم في الأرض المقدسة اتصل بمصر، فورثوا الأرض بكنوزها وأموالها ونعمتها ومقامها الكريم- انتهى.ولما كان الأهلاك يوجب أسفًا على المهلكين ولومن بعض الناس ولا سيما إذا كانوا جمعًا فكيف إذا كانوا أهل مملكة ولا سيما إذا كانوا في نهاية الرئاسة، أخبر بأنهم كانوا لهوانهم عنده سبحانه وتعالى على خلاف ذلك، فسبب عما مضى قوله: {فما بكت عليهم} استعارة لعدم الاكتراث لهم لهوانهم {السماء والأرض} وإذا لم يبك السكن فما ظنك بالساكن الذي هو بعضه، روى أبويعلى في مسنده والترمذي في جامعه- وقال: غريب والربذي والرقاشي يضعفان في الحديث- عن أنس- رضى الله عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مسلم إلا وله في السماء بابان، باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه» وتلا هذه الآية، وقال علي- رضى الله عنه ـ: إن المؤمن إذا مات بكى مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء.ولما جرت العادة بأن العدوقد يستمهله عدوه في بعض الأوقات لمثل وصية وقضاء حاجة فيمهله، أخبر تتميمًا لعدم الاكتراث بهم أنهم كانوا دون ذلك فقال: {وما كانوا} ولما كان هذا لكونه خيرًا عنهم بعد مضيهم المقصود منه تحذير من بعدهم فقط، لم يذكر التقييد بذلك الوقت بإذن ونحوها دلالة على أن ما كانوا فيه من طويل الإمهال كان كأنه لم يكن لعظم هذا الأخذ بخلاف ما مر في في الحجر من التخويف من إنزال الملائكة عليهم، فإن تقييد عدم الأنظار بذلك الوقت لرد السامعين عن طلب إنزالهم فقال تعالى: {منظرين} أي ممهلين عما أنزلنا بهم من المصيبة من ممهل ما لحظه فما فوقها ليتداركوا بعض ما فرطوا فيه وينظروا في شيء مما يهمهم بل كان أخذهم لسهو لته علينا في أسرع من اللمح، لم يقدروا على دفاع، فنالهم عذاب الدنيا وصاروا إلى عذاب الآخرة فخسروا الدارين وما ضروا غير أنفسهم. اهـ.
وفيه ما يشبه السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم، وكانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم لوماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، فما كانوا في هذا الحد، بل كانوا دون ذلك، وهذا إنما يذكر على سبيل التهكم.ثم قال: {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} أي لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك وتقصير. اهـ.
|