الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} بدلا من الأترج لفرط دهشنهن بطلعته وخروج جوارحهن عن منهاج الاختيار، حتى أنهن لم يحسسن بالألم لا نشغالهن بالنظر إليه {وَقُلْنَ} بلسان واحد تعجبا من قدرة اللّه الكاملة على صنع ذلك القوام الرائع والحسن البديع {حاشَ لِلَّهِ} بالألف وإسقاطها وهو حرف وضع للاستثناء والتنزيه والتبعد معا، ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء، ولم ينون مراعاة لأصل المنقول عنه، وكثيرا ما يراعون ذلك فيقولون جلست من على يمينه فيجعلون على اسما ولم يعربوه، وكذلك عن في جلست من عن يساره ومن في غدت من عليه، ولم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاة، كل ذلك مراعاة للأصل، وقال ابن الحاجب إن {حاشَ لِلَّهِ} اسم فعل بمعنى برئ اللّه تعالى من السوء وليس بشيء، لأن الحرف لا يكون اسما إلا إذا نقل وسمي به وجعل علما، فجينئذ تجوز فيه الحكاية والإعراب وفيه أقوال كثيرة أعرضنا عنها خشية الإطالة والملالة، ولا طائل تحتها، على أن الذي يعلل الكلمات يرى الكل جائزا بحسب وسعته في اللغة، كما ان الذي له وقوف على العربية لا يكاد يغلط أحدا، إذ يرى لكل وجهة، وغير خاف أن وجوه الإعراب كثيرة ولغات العرب فيها أكثر، أي أن الذي ذكروه لنا بأنه عبد اغترت به زوجة العزيز ما هو عبد بل {ما هذا بَشَرًا} أيضا فضلا عن أنه ليس بعبد {إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ 31} نفين عنه صفة البشرية لما هالهن من جماله، لأنهنن لم يرين بشرا بشبهه بالحسن وقوام الجوارح، وأثبتن له الملكية لما ركز في الطبائع أن لا شيء أحسن من الملك ولو لم يره أحد، كما ركز في الأذهان أن ليس بشيء أقبح من الشيطان ولم يره أحد أيضا، أي بصورتهما الحقيقية وعليه قول بعض المحدثين:
ولاسيما وقد انضم لذلك الجمال الرائق نور النبوة وآثار خضوعها واخباتها لرافع السماء وباسط الأرض من الحالة التي أوقعته فيها مما زاده مهابة ووقارا، فلا غرو أن يصيبهن الدهش والذهول فيصرعهن ويصرف نظرهن عما في أيديهن من الأترج إلى أيديهن، فيغقلن عنه ويقطعن أيديهن بدله، ولم يشعرن بما عملن لأن طلعته البهية ألهبت في قلوبهن ما يمنعهن من الإحساس بألم الموسى، وانهماك انسان أعينهن في التطلع إليه حال دون رؤية الدماء التي سالت من أيديهن على ثيابهن، فلما رأت زليخا ما صنعن بأنفسهن وعلمت أنهن قد أعذرنها بما فعلت، ولو أنهن شاهدنه قبل مثلها واختلطن معه اختلاطها لما لمنها، لأنهن رأينه لحظة فوقع منهن ما وقع، فكيف وهي معه ليل نهار، لهذا تسلطت عليهن و{قالَتْ فَذلِكُنَّ} العبد الذي تتقولن وتتفوهن فيه، والفتى {الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ثم صرحت أمامهن بما وقع منها فقالت مقسمة {وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} امتنع وأبى، والاستعصام مبالغة في الامتناع والتحفظ الشديدين، ثم أقسمت ثانيا فقالت {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ} به من الوقاع واللّه واللّه واللّه {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ 32} الأذلاء المهانين مع السراق والسفاك في السجن، قالت ذلك لأنها علمت مما شاهدته من دهشتهنّ به انهن لا يلمنها بعد بل يعذرنها، قالوا ثم قال النساء كلهن يا يوسف أطع مولاتك لئلا تسجن، فلم يصغ لهن وانصرف عنهن قائلا {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أضاف الضمير إليهن كلهن مع أن مولاته وحدها تدعوه لأنهن أمرنه بامتثال أمرها بالفعل، فناجى ربه عز وجل ملتجئا إليه وآثر السجن لأن مشقته نافذة طلبا إلى راحته الأبدية برضاء اللّه تعالى، ومن هنا قالوا يختار أهون الشرين، وقد جاء في الخبر أنه عليه السلام لما قال هذا أوحى اللّه إليه يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت، ولهذا قال محمد صلّى اللّه عليه وسلم لما سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك الصبر فقال سألت البلاء فاسأل اللّه العافية، ثم التجأ إلى ربه فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} ومكرهن واحتيالهن أخاف يا رب {أَصْبُ} أميل ميلا قلبيا لا اختيار لي فيه بحسب الطبيعة البشرية قد تحدّت النفس نفسيا ركوني {إِلَيْهِنَّ} ولو تخطرا بالقلب أو هاجا في النفس، وأخاف يا مولاي ان يؤثر (ومعاذ اللّه يا مولاي) فيّ لأني بشر، وحاشاك يا مولاي أن تريد ذلك مني أو تتغلب على نفسي بشيء من ذلك، وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف ربه جريا على سنن الأنبياء وطرق العارفين الكاملين في قصر نيل الخيرات والنجاة من الشرور على جناب اللّه تعالى، وسلب القوى والتصور عن أنفسهم مبالغة في استدعاء عطفه تعالى عليه في صرف كيدهن عنه بإظهار عدم طاقته بالمدافعة إلا بحوله وقوته عز شأنه كقول المستغيث أدركن يا رب وإلا أهلك، وقد لا يهلك، لأنه عليه السلام يطلب الالتجاء إلى ربه ليعصم وفي نفسه داعية سوء إن لم يعصمه، كلا وحاشاه من ذلك، وفي هذه الآية جواب استدلال للأشاعرة بأن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه اللّه تعالى: {وأصل إلا} أن الشرطية ولا النافية فأدغمت النون باللام {وأَصْبُ} مضارع صبا إذا مال ومنه ريح الصبا لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها والصبابة إفراط الشوق، وفي القاموس صبى بمعنى مال، وصبى بمعنى حنّ، والصبوة جهلة الفتوة، ثم قال منددا من خوف ما سيكون من إحساسات قلبية خشية مغبته باثا سوء نتيجته إلى ربه {وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ 33} الذين لا يعلمون ما يعملون، وفي هذه الجملة إشارة إلى أن من يرتكب الذنب فإنما يرتكبه عن جهالة وهو ليس من أهلها، لذلك دعا ربه إنقاذه مما يراد فيه {فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ} كما هو عادته جل جلاله في أنبيائه وأوليائه وأحبابه في إجابة أدعيتهم عند الضيق كما سيأتي في الآية 110 من هذه السورة {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} وثبته بعصمته وأبقاه على عفته وحال بينه وبين المعصية ودواعيها {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لدعاء عباده المتضرعين إليه {الْعَلِيمُ} بأحوال الداعي ونيته وما يصلح له.وتدل هذه الآية على أن الإنسان لو أتى بكل مكر وحيلة لإزالة ما وقر في صدره من حب وعداوة لعجز، لأن حصولها ليس باختياره ولو كان لتمكن من قلب الحب كرها والعداوة صداقة، وبالعكس، ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى ربه ليصرف ما حاك في صدره الشريف، قال المتنبي: ولهذا فإن العاشق كثيرا ما يريد إزالة العشق من قلبه ولكنه يعجز.واعلم أن أكثر ما يوقع في المعصية الجهل والخطأ، ولا تقع إلا بتقدير اللّه تعالى وقضائه وهي للمغفرة أقرب، أما والعياذ باللّه من يوقعها عالما عامدا فقد تؤدي إلى كفره، لأن العلم والعمد دليلان على الاستحلال واستحلال ما حرم اللّه كفر، قال بعض النادمين على ما فعلوا: ومن كان كهذا فباب العفو يشمله، قال تعالى: {ثُمَّ بَدا لَهُمْ} أي العزيز وأهله وأصحابه رأي آخر بعد ذلك الرأي، إذ أن زليخا قالت لزوجها إن هذا العبد قد فضحني، فإما أن تأذن لي بالخروج لأعتذر إلى الناس، وإما أن تحبسه ليقطع هذا الكلام ويقف عند حده، وذلك بعد ما أيست منه و{مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ} الدالات على براءته وطهارته بما قص اللّه عنه.قال عكرمة سألت ابن عباس عن هذه الآيات، فقال ما سألني عنها أحد قبلك هي قدّ القميص وأثرها في جسده وشهادة الشاهد وأثر السكين في النساء، وفي قوله من الآيات إيذان بأن هناك آيات أخر لم يذكرها، كما أنه لم يذكر كثيرا من معجزات الأنبياء عليهم السلام، وفاعل بدا ضمير يعود إلى البداء بمعنى الرأي كما ذكرنا وعليه قوله:
|