الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} المستفرغ فيه جهدهم إبطال الحق وتقرير الباطل.{وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} ومكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه، أو عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وإبطالًا له. {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} في العظم والشدة. {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} مسوى لإزالة الجبال. وقيل إن نافية واللام مؤكدة لها كقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ} على أن الجبال مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه. وقيل مخففة من الثقيلة والمعنى أنهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتًا وتمكنًا من آيات الله تعالى وشرائعه. وقرأ الكسائي {لَتَزُولَ} بالفتح والرفع على أنها المخففة واللام هي الفاصلة، ومعناه تعظيم مكرهم. وقرئ بالفتح والنصب على لغة من يفتح لام كي وقرئ و{إن كاد مكرهم}.{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} مثل قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذانًا بأنه لا يخلف الوعد أصلًا كقوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} وإذا لم يخلف وعده أحدًا فكيف يخلف رسله. {إِنَّ الله عَزِيزٌ} غالب لا يماكر قادر لا يدافع. {ذُو انتقام} لأوليائه من أعدائه.{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} بدل من {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ} أو ظرف للانتقام، أو مقدر باذكر أو لا يخلف وعده. ولا يجوز أن ينتصب بمخلف لأن ما قبل أن لا يعمل فيما بعده. {وَالسَّمَواتِ} عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات، والتبديل يكون في الذات كقولك: بدلت الدراهم دنانير وعليه قوله: {بدلناهم جُلُودًا غَيْرَهَا} وفي الصفة كقولك بدلت الحلقة خاتمًا إذا أذبتها وغيرت شكلها، وعليه قوله: {يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} والآية تحتملهما، فعن علي رضي الله تعالى عنه: تبدل أرضًا من فضة وسموات من ذهب، وعن ابن مسعود وأنس رضي الله تعالى عنهما: يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي تلك الأرض وإنما تغير صفاتها. ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «تبدل الأرض غير الأرض فتبسط وتمد مد الأديم العكاظي» {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} اعلم أنه لا يلزم على الوجه الأول أن يكون الحاصل بالتبديل أرضًا وسماء على الحقيقة، ولا يبعد على الثاني أن يجعل الله الأرض جهنم والسموات الجنة على ما أشعر به قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ} وقوله: {إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ} {وَبَرَزُواْ} من أجداثهم {للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} لمحاسبته ومجازاته، وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أن الأمر في غاية الصعوبة كقوله: {لمنِ الملك اليوم للهِ الواحد القهار} فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار.{وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ} قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال كقوله: {وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ} أو قرنوا مع الشياطين أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة والملكات الباطلة، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال، وهو يحتمل أن يكون تمثيلًا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم. {فِى الأصفاد} متعلق ب {مُقْرِنِينَ} أو حال من ضميره، والصفد القيد. وقيل الغل قال سلامة بن جندل:
وأصله الشد.{سَرَابِيلُهُم} قمصانهم. {مِّن قَطِرَانٍ} وجاء قطران لغتين فيه، وهو ما يتحلب من الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإِبل الجربى فيحرق الجرب بحدته، وهو أسود منتن تشتعل فيه النار بسرعة تطلى به جلود أهل النار حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص، ليجتمع عليهم لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريحه مع إسراع النار في جلودهم، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين، ويحتمل أن يكون تمثيلًا لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديئة والهيئات الوحشية فيجلب إليها أنواعًا من الغموم والآلام، وعن يعقوب {قطرآن} والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره، والجملة حال ثانية أو حال من الضمير في {مُقْرِنِينَ}. {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار} وتتغشاها لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ولم يستعملوا في تدبره مشاعرهم وحواسهم التي خلقت فيها لأجله، كما تطلع على أفئدتهم لأنها فارغة عن المعرفة مملوءة بالجهالات ونظيره قوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} وقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النار على وُجُوهِهِم} {لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ} أي يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة. {مَّا كَسَبَتْ} أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا بين أن المجرمين يعاقبون لإجرامهم علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم، ويتعين ذلك أن علق اللام ب {بَرَزُواْ}. {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} لأنه لا يشغله حساب عن حساب.{هذا} إشارة إلى القرآن أو السورة أو ما فيه العظة والتذكير أو ما وصفه من قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله} {بلاغ لّلنَّاسِ} كفاية لهم في الموعظة. {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} عطف على محذوف أي لينصحوا ولينذروا بهذا البلاغ، فتكون اللام متعلقة بالبلاغ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره: ولينذروا به أنزل أو تلي. وقرئ بفتح الياء من نذر به إذا علمه واستعدله.{وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة عليه أو المبهة على ما يدل عليه {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} فيرتدعوا عما يرديهم ويتدرعوا بما يحظيهم، واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب، تكميل الرسل للناس، واستكمال القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوة العملية الذي هو التدرع بلباس التقوى، جعلنا الله تعالى من الفائزين بهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وعدد من لم يعبدها». اهـ.
|