الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر- أو أربعة أشهر- فقال عمر: لا أحبس أحدًا من الجياش أكثر من ذلك.. وعزم على ألا يغيب المجاهدون من الجند أكثر من هذه الفترة..وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور. ولكن أربعة أشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه ومشاعره. فإما أن يفيء ويعود إلى استئناف حياة زوجية صحيحة، ويرجع إلى زوجه وعشه، وإما أن يظل في نفرته وعدم قابليته. وفي هذه الحالة ينبغي أن تفك هذه العقدة؛ وأن ترد إلى الزوجة حريتها بالطلاق. فإما طلق وإما طلقها عليه القاضي. وذلك ليحاول كل منهما أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع شخص جديد.فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون؛ وأروح للرجل كذلك وأجدى؛ وأقرب إلى العدل والجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميد الحياة.والآن وقد انتهى السياق إلى الطلاق، فإنه يأخذ في تفصيل أحكام الطلاق؛ وما يتبعه من العدة والفدية والنفقة والمتعة.. إلى آخر الآثار المترتبة على الطلاق..ويبدأ بحكم العدة والرجعة: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم}.يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء- أي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف.يتربصن بأنفسهن.. لقد وقفت أمام هذا التعبير اللطيف التصوير لحالة نفسية دقيقة.. إن المعنى الذهني المقصود هو أن ينتظرن دون زواج جديد حتى تنقضي ثلاث حيضات، أو حتى يطهرن منها.. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالًا أخرى بجانب ذلك المعنى الذهني.. إنه يلقي ظلال الرغبة الدافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة. رغبة الأنفس التي يدعوهن إلى التربص بها، والإمساك بزمامها، مع التحفز، والتوفز. الذي يصاحب صورة التربص. وهي حالة طبيعية، تدفع إليها رغبة المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها أن إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص، وأنها قادرة على أن تجتذب رجلًا آخر، وأن تنشئ حياة جديدة.. هذا الدافع لا يوجد بطبيعته في نفس الرجل، لأنه هو الذي طلق؛ بينما يوجد بعنف في نفس المرأة لأنها هي التي وقع عليها الطلاق.. وهكذا يصور القرآن الحالة النفسية من خلال التعبير؛ كما يلحظ هذه الحالة ويحسب لها حسابًا..يتربصن بأنفسهن هذه الفترة كي يتبين براءة أرحامهن من آثار الزوجية السابقة؛ قبل أن يصرن إلى زيجات جديدة: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر}.لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من حمل أو من حيض.. ويلمس قلوبهن بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن، ويستجيش كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر. فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن.. وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا. فهناك الجزاء.. هناك العوض عما قد يفوت بالتربص، وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن، وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه، فلا يخفى عليه شيء منه.. فلا يجوز كتمانه عليه سبحانه تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن.هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى، فإنه لابد من فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة.فقد يكون في قلوبهما رمق من ود يستعاد، وعواطف تستجاش، ومعان غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء! فإذا سكن الغضب، وهدأت الشرة، واطمأنت النفس، استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق، وبرزت معان أخرى واعتبارات جديدة، وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة، أو عاودها التجمل رعاية لواجب من الواجبات. والطلاق أبغض الحلال إلى الله، وهو عملية بتر لا يلجأ إليها إلا حين يخيب كل علاج.. وفي مواضع أخرى من القرآن تذكر المحاولات التي ينبغي أن تسبق إيقاع الطلاق. كما أن إيقاع الطلاق ينبغي أن يكون في فترة طهر لم يقع فيها وطء. وهذا من شأنه أن يوجد مهلة بين اعتزام الطلاق وإيقاعه في أغلب الحالات. إذ ينتظر الزوج حتى تجيء فترة الطهر ثم يوقع الطلاق.. إلى آخر تلك المحاولات..والطلقة الأولى تجربة يعلم منها الزوجان حقيقة مشاعرهما. فإذا اتضح لهما في أثناء العدة أن استئناف الحياة مستطاع، فالطريق مفتوح: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا}.في ذلك.. أي في فترة الانتظار والتربص وهي فترة العدة.. إن أرادوا إصلاحًا بهذا الرد؛ ولم يكن القصد هو اعنات الزوجة، وإعادة تقييدها في حياة محفوفة بالأشواك، انتقاما منها، أو استكبارًا، واستنكافًا أن تنكح زوجا آخر.{ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}.وللمطلقات من الحقوق في هذه الحالة مثل الذي عليهن من الواجبات، فهن مكلفات أن يتربصن وألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وأزواجهن مكلفون بأن تكون نيتهم في الرجعة طيبة لا ضرر فيها عليهن ولا ضرار. وذلك إلى ما سيأتي من أمر النفقة في مقابل الاحتباس للعدة.{وللرجال عليهن درجة}.أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة. وقد جعل هذا الحق في يد الرجل لأنه هو الذي طلق؛ وليس من المعقول أن يطلق هو فيعطي حق المراجعة لها هي! فتذهب إليه. وترده إلى عصمتها! فهو حق تفرضه طبيعة الموقف. وهي درجة مقيدة في هذا الموضع، وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون، ويستشهدون بها في غير موضعها.ثم يجيء التعقيب: {والله عزيز حكيم}.مشعرًا بقوة الله الذي يفرض هذه الأحكام وحكمته في فرضها على الناس. وفيه ما يرد القلوب عن الزيغ والانحراف تحت شتى المؤثرات والملابسات.والحكم التالي يختص بعدد الطلقات، وحق المطلقة في تملك الصداق، وحرمة استرداد شيء منه عند الطلاق، إلا في حالة واحدة: حالة المرأة الكارهة التي تخشى أن ترتكب معصية لو بقيت مقيدة بهذا الزواج المكروه. وهي حالة الخلع التي تشتري فيها المرأة حريتها بفدية تدفعها: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تاخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}.الطلاق الذي يجوز بعده استئناف الحياة مرتان. فإذا تجاوزهما المتجاوز لم يكن إلى العودة من سبيل إلا بشرط تنص عليه الآية التالية في السياق. وهو أن تنكح زوجًا غيره، ثم يطلقها الزوج الآخر طلاقًا طبيعيًا لسبب من الأسباب، ولا يراجعها فتبين منه.. وعندئذ فقط يجوز لزوجها الأول أن ينكحها من جديد، إذا ارتضته زوجًا من جديد.وقد ورد في سبب نزول هذا القيد، أنه في أول العهد بالإسلام كان الطلاق غير محدد بعدد من المرات. فكان للرجل أن يراجع مطلقته في عدتها، ثم يطلقها ويراجعها. هكذا ما شاء.. ثم إن رجلًا من الأنصار اختلف مع زوجته فوجد عليها في نفسه، فقال: والله لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {الطلاق مرتان}.وحكمة المنهج الرباني الذي أخذ به الجماعة المسلمة مطردة في تنزيل الأحكام عند بروز الحاجة إليها.. حتى استوفى المنهج أصوله كلها على هذا النحو. ولم يبق إلا التفريعات التي تلاحق الحالات الطارئة، وتنشئ حلولًا مستمدة من تلك الأصول الشاملة.وهذا التقييد جعل الطلاق محصورًا مقيدًا؛ لا سبيل إلى العبث باستخدامه طويلًا. فإذا وقعت الطلقة الأولى كان للزوج في فترة العدة أن يراجع زوجه بدون حاجة إلى أي إجراء آخر. فأما إذا ترك العدة تمضي فإنها تبين منه؛ ولا يملك ردها إلا بعقد ومهر جديدين. فإذا هو راجعها في العدة أو إذا هو أعاد زواجها في حالة البينونة الصغرى كانت له عليها طلقة أخرى كالطلقة الأولى بجميع أحكامها. فأما إذا طلقها الثالثة فقد بانت منه بينونة كبرى بمجرد إيقاعها فلا رجعة فيها في عدة، ولا عودة بعدها إلا أن ينكحها زوجا آخر. ثم يقع لسبب طبيعي أن يطلقها. فتبين منه لأنه لم يراجعها. أو لأنه استوفى عليها عدد مرات الطلاق. فحينئذ فقط يمكن أن تعود إلى زوجها الأول.إن الطلقة الأولى محك وتجربة كما بينا. فأما الثانية فهي تجربة أخرى وامتحان أخير. فإن صلحت الحياة بعدها فذاك. وإلا فالطلقة الثالثة دليل على فساد أصيل في حياة الزوجية لا تصلح معه حياة.وعلى أية حال فما يجوز أن يكون الطلاق إلا علاجًا أخيرًا لعلة لا يجدي فيها سواه. فإذا وقعت الطلقتان: فإما إمساك للزوجة بالمعروف، واستئناف حياة رضية رخية؛ وإما تسريح لها بإحسان لا عنت فيه ولا إيذاء.وهو الطلقة الثالثة التي تمضي بعدها الزوجة إلى خط في الحياة جديد.. وهذا هو التشريع الواقعي الذي يواجه الحالات الواقعة بالحلول العملية؛ ولا يستنكرها حيث لا يجدي الاستنكار، ولا يعيد خلق بني الإنسان على نحو آخر غير الذي فطرهم الله عليه.ولا يهملها كذلك حيث لا يجدي الإهمال!ولا يحل للرجل أن يسترد شيئًا من صداق أو نفقة أنفقها في أثناء الحياة الزوجية في مقابل تسريح المرأة إذا لم تصلح حياته معها. ما لم تجد هي أنها كارهة لا تطيق عشرته لسبب يخص مشاعرها الشخصية؛ وتحس أن كراهيتها له، أو نفورها منه، سيقودها إلى الخروج عن حدود الله في حسن العشرة، أو العفة، أو الأدب. فهنا يجوز لها أن تطلب الطلاق منه؛ وأن تعوضه عن تحطيم عشه بلا سبب متعمد منه؛ برد الصداق الذي أمهرها إياه، أو بنفقاته عليها كلها أو بعضها لتعصم نفسها من معصية الله وتعدِّي حدوده، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال. وهكذا يراعي الإسلام جميع الحالات الواقعية التي تعرض للناس؛ ويراعي مشاعر القلوب الجادة التي لا حيلة للإنسان فيها؛ ولا يقسر الزوجة على حياة تنفر منها؛ وفي الوقت ذاته لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنب جناه.ولكي نتصور حيوية هذا النص ومداه، يحسن أن نراجع سابقة واقعية من تطبيقه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تكشف عن مدى الجد والتقدير والقصد والعدل في هذا المنهج الرباني القويم.روى الإمام مالك في كتابه الموطأ: أن حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذه؟» قالت: أنا حبيبة بنت سهل! فقال: «ما شأنك؟» فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس- لزوجها- فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر».. فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ منها» فأخذ منها وجلست في أهلها.وروى البخاري- بإسناده- عن ابن عباس رضي الله عنهما- أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله. ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته؟» وكان قد أمهرها حديقة قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة».وفي رواية أكثر تفصيلًا رواها ابن جرير- بإسناد- عن أبي جرير أنه سأل عكرمة: هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي. إنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا. إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادًا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا فقال زوجها: يا رسول الله إني قد أعطيتها أفضل مالي: حديقة لي فإن ردت عليّ حديقتي. قال: ما تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته. قال: ففرق بينهما.ومجموعة هذه الروايات تصور الحالة النفسية التي قبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وواجهها مواجهة من يدرك أنها حالة قاهرة لا جدوى من استنكارها وقسر المرأة على العشرة؛ وأن لا خير في عشرة هذه المشاعر تسودها. فاختار لها الحل من المنهج الرباني الذي يواجه الفطرة البشرية مواجهة صريحة عملية واقعية؛ ويعامل النفس الإنسانية معاملة المدرك لما يعتمل فيها من مشاعر حقيقية.ولما كان مرد الجد أو العبث، والصدق أو الاحتيال، في هذه الأحوال.. هو تقوى الله، وخوف عقابه. جاء التعقيب يحذر من اعتداء حدود الله: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}.ونقف هنا وقفة عابرة أمام اختلاف لطيف في تعبيرين قرآنيين في معنى واحد، حسب اختلاف الملابستين:في مناسبة سبقت في هذه السورة عند الحديث عن الصوم. ورد تعقيب: {تلك حدود الله فلا تقربوها}.. وهنا في هذه المناسبة ورد تعقيب: {تلك حدود الله فلا تعتدوها}.في الأولى تحذير من القرب. وفي الثانية تحذير من الاعتداء.. فلماذا كان الاختلاف؟في المناسبة الأولى كان الحديث عن محظورات مشتهاة: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالأن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها}.والمحظورات المشتهاة شديدة الجاذبية. فمن الخير أن يكون التحذير من مجرد الاقتراب من حدود الله فيها، اتقاء لضعف الإرادة أمام جاذبيتها إذا اقترب الإنسان من مجالها ووقع في نطاق حبائلها!أما هنا فالمجال مجال مكروهات واصطدامات وخلافات. فالخشية هنا هي الخشية من تعدي الحدود في دفعة من دفعات الخلاف؛ وتجاوزها وعدم الوقوف عندها. فجاء التحذير من التعدي لا من المقاربة. بسبب اختلاف المناسبة.. وهي دقة في التعبير عن المقتضيات المختلفة عجيبة!ثم نمضي مع السياق في أحكام الطلاق: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}.إن الطلقة الثالثة- كما تبين- دليل على فساد أصيل في هذه الحياة لا سبيل إلى إصلاحه من قريب- إن كان الزوج جادًا عامدًا في الطلاق- وفي هذه الحالة يحسن أن ينصرف كلاهما إلى التماس شريك جديد. فأما إن كانت تلك الطلقات عبثًا أو تسرعًا أو رعونة، فالأمر إذن يستوجب وضع حد للعبث بهذا الحق، الذي قرر ليكون صمام أمن، وليكون علاجًا اضطراريًا لعلة مستعصية، لا ليكون موضعًا للعبث والتسرع والسفاهة. ويجب حينئذ أن تنتهي هذه الحياة التي لا تجد من الزوج احترامًا لها، واحتراسًا من المساس بها.وقد يقول قائل: وما ذنب المرأة تهدد حياتها وأمنها واستقرارها بسبب كلمة تخرج من فم رجل عابث؟ ولكننا نواجه واقعًا في حياة البشر. فكيف يا ترى يكون العلاج، إن لم نأخذ بهذا العلاج؟ تراه يكون بأن نرغم مثل هذا الرجل على معاشرة زوجة لا يحترم علاقته بها ولا يوقرها؟ فنقول له مثلًا: إننا لا نعتمد طلاقك هذا ولا نعترف به ولا نقره! وهذه هي امرأتك على ذمتك فهيا وأمسكها!.. كلا إن في هذا من المهانة للزوجة وللعلاقة الزوجية ما لا يرضاه الإسلام، الذي يحترم المرأة ويحترم علاقة الزوجية ويرفعها إلى درجة العبادة لله.. إنما تكون عقوبته أن نحرمه زوجه التي عبث بحرمة علاقاتها معه؛ وأن نكلفه مهرًا وعقدًا جديدين أن تركها تبين منه في الطلقتين الأوليين؛ وأن نحرمها عليه في الطلقة الثالثة تحريمًا كاملًا- إلا أن تنكح زوجًا غيره- وقد خسر صداقها وخسر نفقته عليها؛ ونكلفه بعد ذلك نفقة عدة في جميع الحالات.. والمهم أن ننظر إلى واقع النفس البشرية؛ وواقع الحياة العملية؛ لا أن نهوم في رؤى مجنحة ليست لها أقدام تثبت بها على الأرض، في عالم الحياة!فإذا سارت الحياة في طريقها فتزوجت بعد الطلقة الثالثة زوجًا آخر. ثم طلقها هذا الزوج الآخر.. فلا جناح عليها وعلى زوجها الأول أن يتراجعا.. ولكن بشرط: {إن ظنا أن يقيما حدود الله}.فليست المسألة هوى يطاع، وشهوة تستجاب. وليسا متروكين لأنفسهما وشهواتهما ونزواتهما في تجمع أو افتراق. إنما هي حدود الله تقام. وهي إطار الحياة الذي إن أفلتت منه لم تعد الحياة التي يريدها ويرضى عنها الله.{وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}.فمن رحمته بالعباد أنه لم يترك حدوده غامضة ولا مجهولة. إنما هو يبينها في هذا القرآن. يبينها لقوم يعلمون فالذين يعلمون حق العلم هم الذين يعلمونها ويقفون عندها؛ وإلا فهو الجهل الذميم، وهي الجاهلية العمياء!بعد ذلك يجيء التوجيه الإلهي للأزواج المطلقين.توجيههم إلى المعروف واليسر والحسنى بعد الطلاق في جميع الأحوال: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوًا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم}.{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.إن المعروف والجميل والحسنى يجب أن تسود جو هذه الحياة. سواء اتصلت حبالها أو انفصمت عراها. ولا يجوز أن تكون نية الإيذاء والإعنات عنصرًا من عناصرها. ولا يحقق هذا المستوى الرفيع من السماحة في حالة الانفصال والطلاق التي تتأزم فيها النفوس، إلا عنصر أعلى من ملابسات الحياة الأرضية. عنصر يرفع النفوس عن الإحن والضغن، ويوسع من آفاق الحياة ويمدها وراء الحاضر الواقع الصغير.. هو عنصر الإيمان بالله. والإيمان باليوم الآخر. وتذكر نعمة الله في شتى صورها ابتداء من نعمة الإيمان- أرفع النعم- إلى نعمة الصحة والرزق واستحضار تقوى الله والرجاء في العوض منه عن الزوجية الفاشلة والنفقة الضائعة.. وهذا العنصر الذي تستحضره الآيتان اللتان تتحدثان هنا عن إيثار المعروف والجميل والحسنى، سواء اتصلت حبال الحياة الزوجية أو انفصمت عراها.ولقد كانت المرأة في الجاهلية تلاقي من العنت ما يتفق وغلظ الجاهلية وانحرافها. كانت تلقى هذا العنت طفلة توأد في بعض الأحيان، أو تعيش في هون ومشقة وإذلال! وكانت تلقاه زوجة هي قطعة من المتاع للرجل، أغلى منها الناقة والفرس وأعز! وكانت تلقاه مطلقة. تعضل فتمنع من الزواج حتى يسمح مطلقها ويأذن! أو يعضلها أهلها دون العودة إلى مطلقها، إن أرادا أن يتراجعا.. وكانت النظرة إليها بصفة عامة نظرة هابطة زرية شأنها في هذا شأن سائر الجاهليات السائدة في الأرض في ذلك الأوان.ثم جاء الإسلام.. جاء ينسم على حياة المرأة هذه النسمات الرخية التي نرى هنا نماذج منها. وجاء يرفع النظرة إليها فيقرر أنها والرجل نفس واحدة من خلقة بارئها.. وجاء يرتفع بالعلاقات الزوجية إلى مرتبة العبادة عند الإحسان فيها.. هذا ولم تطلب المرأة شيئا من هذا ولا كانت تعرفه. ولم يطلب الرجل شيئًا من هذا ولا كان يتصوره. إنما هي الكرامة التي أفاضها الله من رحمته للجنسين جميعًا، على الحياة الإنسانية جميعًا..{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا}.والمقصود ببلوغ الأجل هنا هو قرب انتهاء العدة التي قررها في آية سابقة.فإذا قرب الأجل فإما رجعة على نية الاصلاح- والمعاملة بالمعروف- وهذا هو الإمساك بالمعروف.. وإما ترك الأجل يمضي فتبين الزوجة- وهذا هو التسريح بإحسان، بدون إيذاء ولا طلب فدية من الزوجة وبدون عضل لها عن الزواج بمن تشاء.{ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}.وذلك كالذي روي عن الأنصاري الذي قال لامرأته: والله لا آويك ولا أفارقك! فهذا هو الإمساك بغير إحسان. إمساك الضرار الذي لا ترضاه سماحة الإسلام. وهو الإمساك الذي تكرر النهي عنه في هذا السياق؛ لأنه فيما يبدو كان شائعًا في البيئة العربية: ويمكن أن يشيع في أية بيئة لم يهذبها الإسلام، ولم يرفعها الإيمان..وهنا يستجيش القرآن أنبل المشاعر؛ كما يستجيش عاطفة الحياء من الله، وشعور الخوف منه في آن. ويحشد هذه المؤثرات كلها ليخلص النفوس من أوضاع الجاهلية وآثارها؛ ويرتفع بها إلى المستوى الكريم الذي يأخذ بيدها إليه: {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوًا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم}.إن الذي يمسك المطلقة ضرارًا واعتداء يظلم نفسه فهي أخته. من نفسه. فإذا ظلمها فقد ظلم نفسه. وهو يظلم نفسه بإيرادها مورد المعصية، والجموح بها عن طريق الطاعة.. وهذه هي اللمسة الأولى.وآيات الله التي بينها في العشرة والطلاق واضحة مستقيمة جادة، تقصد إلى تنظيم هذه الحياة وإقامتها على الجد والصدق؛ فإذا هو استغلها في الحاق الإضرار والأذى بالمرأة، متلاعبًا بالرخص التي جعلها الله متنفسًا وصمام أمن، واستخدم حق الرجعة الذي جعله الله فرصة لاستعادة الحياة الزوجية وإصلاحها، في إمساك المراة لإيذائها وإشقائها.. إذا فعل شيئًا من هذا فقد اتخذ آيات الله هزوًا- وذلك كالذي نراه في مجتمعنا الجاهلي الذي يدعى الإسلام في هذه الأيام، من استخدام الرخص الفقهية وسيلة للتحايل والإيذاء والفساد. ومن استخدام حق الطلاق ذاته أسوأ استخدام- وويل لمن يستهزيء بآيات الله دون حياء من الله.ويستجيش وجدان الحياء والاعتراف بالنعمة. وهو يذكرهم بنعمة الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.. وتذكير المسلمين يومذاك بنعمة الله عليهم كان يستجيش معاني ضخمة واقعة في حياتهم، شاملة لهذه الحياة.وأول ما كان يخطر على بالهم من نعمة الله عليهم، هو وجودهم ذاته كأمة.. فماذا كان أولئك العرب والأعراب قبل أن يأتيهم الإسلام؟ أنهم لم يكونوا شيئًا مذكورًا. لم تكن الدنيا تعرفهم ولا تحس بهم. كانوا فرقًا ومزقًا لا وزن لها ولا قيمة. لم يكن لديهم شيء يعطونه للبشرية فتعرفهم به. بل لم يكن لديهم شيء يعطونه لأنفسهم فيغنيهم. لم يكن لديهم شيء على الإطلاق.لا مادي ولا معنوي.. كانوا فقراء يعيشون في شظف. إلا قلة منهم تعيش في ترف، ولكنه ترف غليظ ساذج هابط أشبه شيء بترف الأوابد التي تكثر في أوكارها الفرائس! وكانوا كذلك فقراء العقل والروح والضمير. عقيدتهم مهلهلة ساذجة سخيفة. وتصورهم للحياة بدائي قبلي محدود. واهتماماتهم في الحياة لا تتعدى الغارات الخاطفة، والثارات الحادة، واللهو والشراب والقمار، والمتاع الساذج الصغير على كل حال!ومن هذه الوهدة المغلقة أطلقهم الإسلام. بل أنشأهم إنشاء. أنشأهم ومنحهم الوجود الكبير، الذي تعرفهم به الإنسانية كلها. أعطاهم ما يعطونه لهذه الإنسانية. أعطاهم العقيدة الضخمة الشاملة التي تفسر الوجود كما لم تفسره عقيدة قط؛ والتي تمكنهم من قيادة البشرية قيادة راشدة رفيعة. وأعطاهم الشخصية المميزة بهذه العقيدة التي تجعل لهم وجودًا بين الأمم والدول، ولم يكن لهم قبلها أدنى وجود. وأعطاهم القوة التي تعرفهم بها الدنيا وتحسب لهم معها حسابًا، وكانوا قبلها خدمًا للإمبراطوريات من حولهم، أو مهملين لا يحس بهم أحد. وأعطاهم الثروة كذلك بما فتح عليهم في كل وجهة.. وأكثر من هذا أعطاهم السلام، سلام النفس. وسلام البيت وسلام المجتمع الذي يعيشون فيه. أعطاهم طمأنينة القلب وراحة الضمير والاستقرار على المنهج والطريق.. وأعطاهم الاستعلاء الذي ينظرون به إلى قطعان البشرية الضالة في أرجاء الجاهلية المترامية الأطراف في الأرض؛ فيحسون أن الله آتاهم ما لم يؤت أحدًا من العالمين..فإذا ذكرهم الله بالنعمة هنا، فهم يذكرون شيئًا حاضرًا في حياتهم لا يحتاج إلى طول تذكر. وهم هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية ثم عاشوا في الإسلام في جيل واحد. وشهدوا هذه النقلة البعيدة التي لا تحققها إلا خارقة فوق تصور البشر.. وهم يذكرون هذه النعمة ممثلة فيما أنزل الله عليهم من الكتاب والحكمة يعظهم به.. والقرآن يقول لهم: {وما أنزل عليكم}.. بضمير المخاطب؛ ليشعروا بضخامة الإنعام وغزارة الفيض ولصوق النعمة بأشخاصهم، والله ينزل عليهم هذه الآيات، التي يتألف منها المنهج الرباني، ومنه دستور الأسرة قاعدة الحياة..ثم يلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة في هذه الآية، وهو يخوفهم الله ويذكرهم أنه بكل شيء عليم: {واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم}.فيستجيش شعور الخوف والحذر، بعد شعور الحياء والشكر.. ويأخذ النفس من أقطارها، ليقودها في طريق السماحة والرفق والتجمل..كذلك ينهاهم أن يعضلوا المطلقة- حين توفي العدة- ويمنعوها أن تتراجع مع زوجها إذا تراضيا بالمعروف: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف}.وقد أورد الترمذي عن معقل بن يسار، أنه زوج أخته رجلًا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت. ثم طلقها تطليقة لم يراجعها، حتى انقضت عدتها؛ فهويها وهويته؛ ثم خطبها مع الخطاب.فقال له: يا لكع ابن لكع! أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها. والله لا ترجع إليك أبدًا آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} إلى قوله: {وأنتم لا تعلمون}.. فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة. ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك..وهذه الاستجابة الحانية من الله سبحانه لحاجات القلوب التي علم من صدقها ما علم، تكشف عن جانب من رحمة الله بعباده.. أما الآية بعمومها فيبدو فيها التيسير الذي أراده الله بالعباد، والتربية التي أخذ بها المنهج القرآني الجماعة المسلمة، والنعمة التي أفاضها عليها بهذا المنهج القويم، الذي يواجه الواقع من حياة الناس في جميع الأحوال.وهنا كذلك يستجيش الوجدان والضمير بعد النهي والتحذير: {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.والإيمان بالله واليوم الآخر هو الذي يجعل هذه الموعظة تبلغ إلى القلوب. حين تتعلق هذه القلوب بعالم أرحب من هذه الأرض؛ وحين تتطلع إلى الله ورضاه فيما تأخذ وما تدع.. والشعور بأن الله يريد ما هو أزكى وما هو أطهر من شأنه أن يستحث المؤمن للاستجابة، واغتنام الزكاة والطهر. لنفسه وللمجتمع من حوله. ولمس القلب بأن الذي يختار له هذا الطريق هو الله الذي يعلم ما لا يعلمه الناس من شأنه أن يسارع به إلى الاستجابة كذلك في رضى وفي استسلام.وهكذا يرفع الأمر كله إلى أفق العبادة، ويعلقه بعروة الله، ويطهره من شوائب الأرض، وأدران الحياة، وملابسات الشد والجذب التي تلازم جو الطلاق والفراق..والحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق..إن دستور الأسرة لابد أن يتضمن بيانًا عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق. علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه، وارتبط كلاهما به؛ فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لابد لها من ضمانات دقيقة مفصلة، تستوفي كل حالة من الحالات: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالًا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير}.إن على الوالدة المطلقة واجبًا تجاه طفلها الرضيع. واجبًا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية، فيقع الغرم على هذا الصغير. إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه.فالله أولى بالناس من أنفسهم، وأبر منهم وأرحم من والديهم. والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين؛ لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل.. {لمن أراد أن يتم الرضاعة} وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموًا سليمًا من الوجهتين الصحية والنفسية. ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم. فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل، والله رحيم بعباده. وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية.وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل: أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة؛ فكلاهما شريك في التبعة؛ وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه؛ وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته: {لا تكلف نفس إلا وسعها}.ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببًا لمضارة الآخر: {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده}.فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها، ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل. ولا تستغل هي عطف الأب على ابنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها..والواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد: {وعلى الوارث مثل ذلك}.فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى. تحقيقًا للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث.وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده. فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات.وعندما يستوفى هذا الاحتياط.. يعود إلى استكمال حالات الرضاعة.{فإن أرادا فصالًا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما}.فإذا شاء الوالد والوالدة، أو الوالدة والوارث، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين؛ لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام، لسبب صحي أو سواه فلا جناح عليهما، إذا تم هذا بالرضى بينهما، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول اليهما رعايته، المفروض عليهما حمايته.كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعًا مأجورة، حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة، فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها، وأن يحسن معاملتها: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف}.فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة، وله راعية وواعية.وفي النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي.. بالتقوى.. بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به: {واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير}.فهذا هو الضمان الأكيد في النهاية. وهذا هو الضمان الوحيد.وبعد استيفاء التشريع للمطلقات وللآثار المتخلفة عن الطلاق يأخذ في بيان حكم المتوفى عنها زوجها. عدتها. وخطبتها بعد انقضاء العدة. والتعريض بالخطبة في أثنائها: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير}.{ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرًا إلا أن تقولوا قولًا معروفًا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم}.والمتوفى عنها زوجها كانت تلقى الكثير من العنت من الأهل وقرابة الزوج والمجتمع كله.. وعند العرب كانت إذا مات زوجها دخلت مكانًا رديئًا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبًا ولا شيئًا مدة سنة، ثم تخرج فتقوم بعدة شعائر جاهلية سخيفة تتفق مع سخف الجاهلية، من أخذ بعرة وقذفها ومن ركوب دابة: حمار أو شاة... إلخ.. فلما جاء الإسلام خفف عنها هذا العنت، بل رفعه كله عن كاهلها؛ ولم يجمع عليها بين فقدان الزوج واضطهاد الأهل بعده.. وإغلاق السبيل في وجهها دون حياة شريفة، وحياة عائلية مطمئنة. جعل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال- ما لم تكن حاملًا فعدتها عدة الحامل- وهي أطول قليلًا من عدة المطلقة. تستبرئ فيها رحمها، ولا تجرح أهل الزوج في عواطفهم بخروجها لتوها. وفي أثناء هذه العدة تلبس ثيابا محتشمة ولا تتزين للخطاب. فأما بعد هذه العدة فلا سبيل لأحد عليها. سواء من أهلها أو من أهل الزوج. ولها مطلق حريتها فيما تتخذه لنفسها من سلوك شريف في حدود المعروف من سنة الله وشريعته، فلها أن تأخذ زينتها المباحة للمسلمات، ولها أن تتلقى خطبة الخطاب، ولها أن تزوج نفسها ممن ترتضي. لا تقف في سبيلها عادة بالية، ولا كبرياء زائفة. وليس عليها من رقيب إلا الله: {والله بما تعملون خبير}.هذا شأن المرأة.. ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة؛ فيوجههم توجيهًا قائمًا على أدب النفس، وأدب الاجتماع، ورعاية المشاعر والعواطف، مع رعاية الحاجات والمصالح: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم}.إن المرأة في عدتها ما تزال معلقة بذكرى لم تمت، وبمشاعر أسرة الميت، ومرتبطة كذلك بما قد يكون في رحمها من حمل لم يتبين، أو حمل تبين والعدة معلقة بوضعه.. وكل هذه الاعتبارات تمنع الحديث عن حياة زوجية جديدة. لأن هذا الحديث لم يحن موعده، ولأنه يجرح مشاعر، ويخدش ذكريات.ومع رعاية هذه الاعتبارات فقد أبيح التعريض- لا التصريح- بخطبة النساء. أبيحت الإشارة البعيدة التي تلمح منها المرأة أن هذا الرجل يريدها زوجة بعد انقضاء عدتها.وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن التعريض مثل أن يقول: إني أريد التزويج. وإن النساء لمن حاجتي. ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة.كذلك أبيحت الرغبة المكنونة التي لا يصرح بها لا تصريحًا ولا تلميحًا. لأن الله يعلم أن هذه الرغبة لا سلطان لإرادة البشر عليها: {علم الله أنكم ستذكرونهن}.وقد أباحها الله لأنها تتعلق بميل فطري حلال في أصله، مباح في ذاته، والملابسات وحدها هي التي تدعو إلى تأجيل اتخاذ الخطوة العملية فيه. والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها. ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور، وطهارة الضمير: {ولكن لا تواعدوهن سرًا}.لا جناح في أن تعرضوا بالخطبة، أو أن تكنوا في أنفسكم الرغبة، ولكن المحظور هو المواعدة سرًا على الزواج قبل انقضاء العدة. ففي هذا مجانبة لأدب النفس، ومخالسة لذكرى الزوج، وقلة استحياء من الله الذي جعل العدة فاصلًا بين عهدين من الحياة.{إلا أن تقولوا قولًا معروفًا}.لا نكر فيه ولا فحش، ولا مخالفة لحدود الله التي بينها في هذا الموقف الدقيق: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله}.ولم يقل: ولا تعقدوا النكاح.. إنما قال: {ولا تعزموا عقدة النكاح}.. زيادة في التحرج.. فالعزيمة التي تنشئ العقدة هي المنهي عنها.. وذلك من نحو قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها}.. توحي بمعنى في غاية اللطف والدقة.{واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه}.وهنا يربط بين التشريع وخشية الله المطلع على السرائر. فللهواجس المستكنة وللمشاعر المكنونة هنا قيمتها في العلاقات بين رجل وامرأة. تلك العلاقات الشديدة الحساسية، العالقة بالقلوب، الغائرة في الضمائر. وخشية الله، والحذر مما يحيك في الصدور أن يطلع عليه الله هي الضمانة الأخيرة، مع التشريع، لتنفيذ التشريع.فإذا هز الضمير البشري هزة الخوف والحذر، فصحا وارتعش رعشة التقوى والتحرج، عاد فسكب فيه الطمأنينة لله، والثقة بعفو الله، وحلمه وغفرانه: {واعلموا أن الله غفور حليم}.غفور يغفر خطيئة القلب الشاعر بالله، الحذر من مكنونات القلوب. حليم لا يعجل بالعقوبة فلعل عبده الخاطئ أن يتوب.ثم يجيء حكم المطلقة قبل الدخول. وهي حالة جديدة غير حالات الطلاق بالمدخول بهن التي استوفاها من قبل. وهي حالة كثيرة الوقوع. فيبين ما على الزوجين فيها وما لهما: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن وتفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًا على المحسنين وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير}.والحالة الأولى: هي حالة المطلقة قبل الدخول، ولم يكن قد فرض لها مهر معلوم. والمهر فريضة، فالواجب في هذه الحالة على الزوج المطلق أن يمتعها. أي أن يمنحها عطية حسبما يستطيع. ولهذا العمل قيمته النفسية بجانب كونه نوعًا من التعويض.. إن انفصام هذه العقدة من قبل ابتدائها ينشئ جفوة ممضة في نفس المرأة، ويجعل الفراق طعنة عداء وخصومة. ولكن التمتيع يذهب بهذا الجو المكفهر، وينسم فيه نسمات من الود والمعذرة؛ ويخلع على الطلاق جو الأسف والأسى. فهي محاولة فاشلة إذن وليست ضربة مسددة! ولهذا يوصي أن يكون المتاع بالمعروف استبقاء للمودة الإنسانية، واحتفاظًا بالذكرى الكريمة. وفي الوقت نفسه لا يكلف الزوج ما لا يطيق، فعلى الغني بقدر غناه، وعلى الفقير في حدود ما يستطيع: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}.ويلوّح بالمعروف والإحسان فيندّي بهما جفاف القلوب واكفهرار الجو المحيط: {متاعًا بالمعروف حقًا على المحسنين}.والحالة الثانية: أن يكون قد فرض مهرًا معلومًا وفي هذه الحالة يجب نصف المهر المعلوم. هذا هو القانون. ولكن القرآن يدع الأمر بعد ذلك للسماحة والفضل واليسر. فللزوجة- ولوليها إن كانت صغيرة- أن تعفو وتترك ما يفرضه القانون. والتنازل في هذه الحالة هو تنازل الإنسان الراضي القادر العفّو السمح. الذي يعف عن مال رجل قد انفصمت منه عروته. ومع هذا فإن القرآن يظل يلاحق هذه القلوب كي تصفو وترف وتخلو من كل شائبة: {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير}.يلاحقها باستجاشة شعور التقوى. ويلاحقها باستجاشة شعور السماحة والتفضل. ويلاحقها باستجاشة شعور مراقبة الله.. ليسود التجمل والتفضل جو هذه العلاقة ناجحة كانت أم خائبة. ولتبقى القلوب نقية خالصة صافية. موصولة بالله في كل حال.وفي هذا الجو الذي يربط القلوب بالله، ويجعل الإحسان والمعروف في العشرة عبادة لله، يدس حديثًا عن الصلاة- أكبر عبادات الإسلام- ولم ينته بعد من هذه الأحكام. وقد بقي منها حكم المتوفى عنها زوجها وحقها في وصية تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله، وحكم المتاع للمطلقات بصفة عامة- يدس الحديث عن الصلاة في هذا الجو، فيوحي بأن الطاعة لله في كل هذا عبادة كعبادة الصلاة، ومن جنسها، وهو إيحاء لطيف من إيحاءات القرآن. وهو يتسق مع التصور الإسلامي لغاية الوجود الإنساني في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. واعتبار العبادة غير مقصورة على الشعائر، بل شاملة لكل نشاط، الاتجاه فيه إلى الله، والغاية منه طاعة الله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}.والأمر هنا بالمحافظة على الصلوات، يعني إقامتها في أوقاتها، وإقامتها صحيحة الأركان، مستوفية الشرائط. أما الصلاة الوسطى فالأرجح من مجموع الروايات أنها صلاة العصر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا». وتخصيصها بالذكر ربما لأن وقتها يجيء بعد نومة القيلولة، وقد تفوت المصلي.. والأمر بالقنوت، الأرجح أنه يعني الخشوع لله والتفرغ لذكره في الصلاة، وقد كانوا يتكلمون في أثناء الصلاة فيما يعرض لهم من حاجات عاجلة. حتى نزلت هذه الآية فعلموا منها أن لا شغل في الصلاة بغير ذكر الله والخشوع له والتجرد لذكره.فأما إذا كان الخوف الذي لا يدع مجالًا لإقامة الصلاة تجاه القبلة. فإن الصلاة تؤدى ولا تتوقف. يتجه الراكب على الدابة والراجل المشغول بالقتال ودفع الخطر حيث يقتضيه حاله، ويومئ إيماءة خفيفة للركوع والسجود. وهذه غير صلاة الخوف التي بين كيفيتها في سورة النساء. فالمبينة في سورة النساء تتم في حالة ما إذا كان الموقف يسمح بإقامة صف من المصلين يصلي ركعة خلف الإمام بينما يقف وراءه صف يحرسه. ثم يجيء الصف الثاني فيصلي ركعة بينما الصف الأول الذي صلى أولًا يحرسه.. أما إذا زاد الخوف وكانت الموقعة والمسايفة فعلًا، فتكون الصلاة المشار إليها هنا في سورة البقرة.وهذا الأمر عجيب حقًا. وهو يكشف عن مدى الأهمية البالغة التي ينظر الله بها إلى الصلاة، ويوحي بها لقلوب المسلمين. إنها عدة في الخوف والشدة. فلا تترك في ساعة الخوف البالغ، وهي العدة. ومن ثم يؤديها المحارب في الميدان، والسيف في يده، والسيف على رأسه. يؤديها فهي سلاح للمؤمن كالسيف الذي في يده. وهي جنة له كالدرع التي تقيه. يؤديها فيتصل بربه أحوج ما يكون للإتصال به، وأقرب ما يكون إليه والمخافة من حوله..إن هذا الدين عجيب. إنه منهج العبادة. العبادة في شتى صورها والصلاة عنوانها، وعن طريق العبادة يصل بالإنسان إلى أرفع درجاته. وعن طريق العبادة يثبته في الشدة، ويهذبه في الرخاء. وعن طريق العبادة يدخله في السلم كافة ويفيض عليه السلام والاطمئنان.. ومن ثم هذه العناية بالصلاة والسيوف في الأيدي وفي الرقاب!فإذا كان الأمن فالصلاة المعروفة التي علمها الله للمسلمين، وذكر الله جزاء ما علمهم ما لم يكونوا يعلمون: {فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}.وماذا كان البشر يعلمون لولا أن علمهم الله؟ ولولا أنه يعلمهم في كل يوم وفي كل لحظة طوال الحياة؟!وتؤدي هذه اللمسة دورها في مجال الحديث عن أحكام الزواج والطلاق؛ وفي تقرير التصور الإسلامي لقاعدة الإسلام الكبرى. وهي العبادة ممثلة في كل طاعة. ثم يعود السياق إلى ختام الأحكام: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}.والآية الأولى تقرر حق المتوفى عنها زوجها في وصية منه تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله، مدة حول كامل، لا تخرج ولا تتزوج إن رأت من مشاعرها أو من الملابسات المحيطة بها ما يدعوها إلى البقاء.. وذلك مع حريتها في أن تخرج بعد أربعة أشهر وعشر ليال كالذي قررته آية سابقة. فالعدة فريضة عليها. والبقاء حولًا حق لها.. وبعضهم يرى أن هذه الآية منسوخة بتلك. ولا ضرورة لافتراض النسخ، لاختلاف الجهة كما رأينا. فهذه تقرر حقًا لها إن شاءت استعملته. وتلك تقرر حقًا عليها لا مفر منه: {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف}.وكلمة {عليكم} توحي بمعنى الجماعة المتضامنة المسؤولة عن كل ما يقع فيها. فالجماعة هي التي يناط بها أمر هذه العقيدة وأمر هذه الشريعة وأمر كل فرد وكل فعل في محيطها. وهي التي يكون عليها جناح فيما يفعل أفرادها أو لا يكون.. ولهذا الإيحاء قيمته في إدراك حقيقة الجماعة المسلمة وتبعاتها، وفي ضرورة قيام هذه الجماعة لتقوم على شريعة الله وتحرسها من خروج أي فرد عليها. فهي المسؤولة في النهاية عن الأفراد في الصغيرة والكبيرة. والخطاب يوجه إليها بهذه الصفة لتقرير هذه الحقيقة في حسها وفي حس كل فرد فيها.. والتعقيب: {والله عزيز حكيم} للفت القلوب إلى قوة الله. وحكمته فيما يفرض وما يوجه. وفيه معنى التهديد والتحذير.والآية الثانية تقرر حق المتاع للمطلقات عامة، وتعلق الأمر كله بالتقوى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين}.وبعضهم يرى أنها منسوخة كذلك بالأحكام السابقة.. ولا حاجة لافتراض النسخ. فالمتاع غير النفقة.. ومما يتمشى مع الإيحاءات القرآنية في هذا المجال تقرير المتعة لكل مطلقة. المدخول بها وغير المدخول بها. المفروض لها مهر وغير المفروض لها. لما في المتعة من تندية لجفاف جو الطلاق، وترضية للنفوس الموحشة بالفراق. وفي الآية استجاشة لشعور التقوى، وتعليق الأمر به. وهي الضمان الأكيد والضمان الوحيد.والآية الثالثة تعقيب على الأحكام السابقة جميعًا: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}.كذلك.. كهذا البيان الذي سلف في هذه الأحكام.. وهو بيان محكم دقيق موح مؤثر.. كذلك يبين الله لكم آياته عسى أن تقودكم إلى التعقل والتدبر فيها، وفي الحكمة الكامنة وراءها، وفي الرحمة المتمثلة في ثناياها، وفي النعمة التي تتجلى فيها. نعمة التيسير والسماحة، مع الحسم والصرامة، ونعمة السلام الذي يفيض منها على الحياة.ولو تعقل الناس وتدبروا هذا المنهج الإلهي لكان لهم معه شأن.. هو شأن الطاعة والاستسلام والرضى والقبول.. والسلام الفائض في الأرواح والعقول. اهـ.
|