الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضريع}؟تكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 35-36]، وبين الصحيح من معنى الضريع ما هو، وأنه نبت معروف للعرب، وهو على الحقيقة لا المجاز.وقد أورد الفخر الرازي سؤالاً والجواب عليه، وهو كيف ينبت الضريع في النار؟ فأجاب بالإحالة على تصور كيف يبقى جسم الكفار حياً في النار، وكذلك الحيات والعقارب في النار.وهذا وإن كان وجيهاً من حيث منطق القدرة، ولكن القرآن قد صرح بأن النار فيها شجرة الزقوم، وأنها فتنة للظالمين في قوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} [الصافات: 62-66]، فأثبت شجرة تخرج في أصل الجحيم، وأثبت لها لازمها وهو طلعها في تلك الصورة البشعة، وأثبت لازم اللازم وهو أكلهم منها حتى ملء البطون.والحق أن هذا السؤال وجوابه قد أثار المبطلون، ولكن غاية ما في الأمر سلب خاصية الإحراق في النار عن النبات، وليس هذا ببعيد على قدرة من خلق النار وجعل لها الخاصية.وقد وجد نظيره في الدنيا فتلك نار النمروذ، كانت تحرق الطير في الجو إذا اقترب منها، وعجزوا عن الدنو إليها ليلقوا فيها إبراهيم ووضعوه في المنجنيق ورموه من بعيد، ومع ذلك حفظه الله منها بقوله تعالى لها: {كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا على إبراهيم} [الأنبياء: 69]، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء.{وُجُوهٌ يومئِذٍ ناعمة (8)}:وهذا هو قسيم القسم الأول في بيان حال أهل الجنة، ولم يعطف بالواو إيذاناً بكمال تباين مضمونيهما. ويومئذٍ هو يوم الغاشية المتقدم، وهذا يقتضي أن الغاشية عامة في الفريقين. وإن اختلف أحوالها مع مختلف الناس، وعليه فمنهم من تغشاه بهولها، ومنهم من تغشاه بنعيمها. وهي بالنسبة لكل منهما متناهية فيما تغشاهم به، وهي صادقة على الفريقين.ومعلوم أن الغاشية تطلق على الخير كما تطلق على الشر، بمعنى الشمول والإحاطة التامة. ومن إطلاقها على الخير ما جاء في الحديث: «ما جلس قوم مجلساً يذكرون الله تعالى فيه إلاَّ حفَّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده» أخرجه مسلم. وبيان ذلك وتحقيقه في حق كلا القسمين كالآتي:أما الأول منهما: وهو الغاشية في حق أهل النار فقد غشيهم العذاب حساً ومعنى ظاهراً وباطناً أو لا خشوع في ذلة، وهي ناحية نفسية، وهي أثقل أحياناً من الناحية المادية، فقد يختار بعض الناس الموت عنها، ثم مع الذلة العمل والنصب حساً وبدناً، ومع النصب الشديد {تصلى ناراً حامية}، وكان يكفي تصلى ناراً. ولكن إتباعها بوصفها {حامية} فهو زيادة في إبراز عذابهم وزيادة في غشيان العذاب لهم، ثم يسقون من {عين آنية} متناهية في الحرارة فيكونون بين {نار حامية} من الخارج وحميم من الداخل تصهر منه البطون، فهو أتم في الشمول للغاشية لهم من جميع الوجوه.وفي حق القسم المقابل تعميم كامل وسرور شامل كالآتي، وجوه {ناعمة} مكتملة النعمة، {تعرف في وجوههم نضرة النعيم}.وهذا في شموله من الناحية المعنوية كمقابله في القسم الأول بدلاً من {خاشعة} في ذلة {ناعمة} في نضرة {لسعيها راضية} الذي سعته في الدنيا، والذي تسعى لتحصيله أو ثوابه {في جنة عالية} بدلاً من عمل ونصب، {لا تسمع فيها لاغية} منزلة أدبية رفيعة حيث لا تسمع فيها كلمة لغو ولا يليق بها، فهو إكرام لهم حتى في الكلمة التي يسمونها، كما في قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 25-26].{فِيهَا عين جارية}. ومعلوم أنها عيون وأنهار تجري، كقوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45 والدخان: 52]، ومن لوازم العيون والأنهار، هو كمال النعيم، فأشجار ورياحين، فروح وريحان وجنة نعيم. وهذا في التعميم يقابل العين الآنية في الحميم للقسم الأول، {فيها سرر مرفوعة} وهم عليها متكئون بدل من عمل الآخرين في نصب وشقاء. {وأكواب موضوعة} لإتمام التمتع وكمال الخدمة والرفاهية. حيث اشتمل ما تراه العين وما تسمعه الأذن وما يتذوقون طعمه من شراب وغيره.فيكون بذلك قد غشيهم النعمة، كما غشيت أولئك النقمة وتكون الغاشية بمعنى الشاملة، وعلى عمومها للفريقين، وهي صالحة لغة وشرعاً للمعذبين بالعذاب، وللمنعمين بالنعيم. وبالله تعالى التوفيق.تنبيه:مجيء {فِيهَا} مرتين: {فِيهَا عين جارية فِيهَا سُرُرٌ مرفوعة}. للدلالة على قسمي نعيم الجنة. الأول: عيون ونزهة.والثاني: سرر وسكن.{أَفَلَا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت (17) وَإِلَى السماء كَيْفَ رفعت (18) وَإِلَى الجبال كَيْفَ نصبت (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سطحت (20) فذكر إِنَّمَا أَنْتَ مذكر (21)}توجيه الأنظار إلى تلك المذكورات الأربعة، لما فيها من عظيم الدلائل على القدرة وعلى البعث وثم الإقرار لله تعالى بالوحدانية والألوهية، نتيجة لإثبات ربوبيته تعالى لجميع خلقه.أما الإبل فلعلها أقرب المعلومات للعرب وألصقها بحياتهم في مطعمهم من لحمها ومشربهم من ألبانها، وملبسهم من أوبارها وجلودها، وفي حلهم وترحالهم بالحمل عليها مما لا يوجد في غيرها في العالم كله لا في الخيل ولا في الفيلة، ولا في أي حيوان آخر، وقد وجه الأنظار إليها مع غيرها في معرض امتنانه تعالى عليهم في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 71-73].وكذلك في خصوصها في قوله: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 5-7].إنها نعم متعددة ومنافع بالغة لم توجد في سواها ألبتة، وكل منها دليل على القدرة بذاته. أما الحبال فهي مما يملأ عيونهم في كل وقت ويشغل تفكيرهم في كل حين، لقربها من حياتهم في الأمطار والمرعى في سهولها، والمقيل في كهوفها وظلها، والرهبة والعظمة في تطاولها وثباتها في مكانها. وقد وجه الأنظار إليها أيضًا في موطن آخر في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً والجبال أَوْتَاداً} [النبأ 6-7]، ثوابت، كما بين تعالى أنها، رواسي للأرض أن تميد بكم {والجبال أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 32-33]. فهي مرتبطة بحياتهم وحياة أنعامهم كما أسلفنا.أما السماء ورفعها أي رفعتها في خلقها وبدون عمد ترونها وبدون فطور أو تشقق على تطاول زمنها، فهي أيضًا محط أنظارهم، وملتقى طلباتهم في سقيا أنعامهم.ومعلوم أن خلق السماء والأرض من آيات الله الدالة على البعث، كما تقدم مراراً.وتقدم للشيخ عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خلق السماوات والأرض} [البقرة: 164 وآل عمران: 190] الآية. بيان كونها آية. أما الأرض وكيف سطحت، فإن الآية فيها مع عمومها كما في قوله: {لَخلق السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خلق الناس} [غافر: 57].وقوله: {وَإِلَى الأرض كَيْفَ سطحت} آية ثابتة، لأن جرمها مع إجماع المفسرين علة تكويرها، فإنها ترى مسطحة أي من النقطة التي هي امتداد البصر، وذلك يدل على سعتها وكبر حجمها، لأن الجرم المتكور إذا بلغ من الكبر والضخامة حدًّا بعيداً يكاد سطحه يرى مسطحاً من نقطة النظر إليه، وفي كل ذلك آيات متعددات للدلالة على قدرته تعالى على بعث الخلائق، وعلى إيقاع ما يغشاهم على مختلف أحوالهم.وتقد للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنبيه على هذا المعنى، عند الكلام على قوله تعالى: {قُلِ انظروا مَاذا فِي السماوات والأرض} [يونس: 101] الآية. من سورة يونس.تنبيه:التوجيه هنا بالنظر إلى الكيفية في خلق الإبل ونصب الجبال، ورفع السماء، وتسطيح الأرض، مع أن الكيفية للحالة، والله تعالى لم يشهد أحدا على شيء من ذلك كله {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خلق السماوات والأرض} [الكهف: 51]. فكيف يوجه السؤال إليهم للنظر إلى الكيفية وهي شيء لم يشهدوه.والجواب والله تعالى أعلم: هو أنه بالتأمل في نتائج خلق الإبل، ونصب الجبال إلخ. وإن لم يعلموا الكيف، بل ويعجزون عن كنهه وتحقيقه، فهو أبلغ في إقامة الدليل عليهم، كمن يقف أمام صنعة بديعة يجهل سر صنعتها، فيتساءل كيف تم صنعها؟ وقد وقع مثل ذلك وهو الإحالة على الأثر بدلاً من كشف الكنه والكيف، وذلك في سؤال الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ربه، أن يريه كيف يحيي الموتى. فكان الجواب: أن أراه الطيور تطير، بعد أن ذبحها بيده وقطعها، وجعل على كل جبل منها جزءاً. فلم يشاهد كيفية وكنه، وحقيقة الإحياء، وهو دبيب الروح فيها وعودة الحياة. لأن ذلك ليس في استطاعته، ولكن شاهد الثر المترتبة على ذلك، وهي تحركها وطيرانها وعودتها إلى ما كانت عليه قبل ذبحها. مع أنه كان للعزيز موقف مماثل وإن كان أوضح في البيان حيث شاهد العظام وهو سبحانه ينشزها، ثم يكسوها لحماً. والله تعالى أعلم.أما قوله تعالى بعد ذلك {فذكر إِنَّمَآ أَنتَ مذكر} فإن مجيء هذا الأمر بالفاء في هذا الموطن، فإنه يشعر بأن النظر الدقيق والفكر الدارس، مما قد يؤدي بصاحبه إلى الاستدلال على وجود الله وعلى قدرته، كما نطق مؤمن الجاهلية قس بن ساعدة في خطبته المشهورة: ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة. فقد ذكر السماء والجبال والأرض.وكقول زيد بن عمرو بن نفيل: مؤمن الجاهلية المعروف: فكان على هؤلاء العقلاء أن ينظروا بدقة وتأمل، فيما يحيط بهم عامة. وفي تلك الآيات الكبار خاصة، فيجدون فيها ما يكفيهم.كما قيل: فإذا لم يهدهم تفكيرهم ولم تتجه أنظارهم. فذكرهم إنما أنت مذكر. وهذا عام، أي سواء بالدلالة على القدرة من تلك المصنوعات أو بالتلاوة من آيات الوحي. والعلم عند الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إيابهم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم (26)}فيه الدلالة على أن الإياب هو المرجع.قال عبيد: كما في قوله: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]، وهو على الحقيقة كما في صريح منطوق قوله تعالى: {ثُمَّ إلى مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55]، وقوله: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام: 164].وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم} الإتيان بثم للإشعار ما بين إيابهم وبدء حسابهم، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يوماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا}، بتقدم حرف التأكيد، وإسناد ذلك لله تعالى، وبحرف على مما يؤكد ذلك لا محالة، وأنه بأدق ما يكون، وعلى الصغيرة والكبيرة كما في قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284].ومن الواضح مجيء {إِنَّ إِلَيْنَآ إيابهم ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم}، بعد قوله تعالى: {فذكر إِنَّمَآ أَنتَ مذكر لَّسْتَ عَلَيْهِم بمسيطر إِلاَّ مَن تولى وكفر فَيْعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر} [الغاشية: 21-24] تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتخويف لأولئك الذين تولوا وأعرضوا، ثم إن الحساب في اليوم الآخر ليس خاصاً بهؤلاء، بل هو عام بجميع الخلائق. ولكن إسناده لله تعالى مما يدل على المعاني المتقدمة.نسال الله العفو والسلامة. اهـ.
|