الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وبه تعلم أن المضارع في قوله: فيكون معه نذيرًا منصوب بأن مستترة وجوبًا، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض، كما أشار له في الخلاصة بقوله: ونظير هذا من النصب بأن المستترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض، قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] لأن قوله: أخرتني طلب منه للتأخير بحث وشدة، كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا، نظيره من كلام العرب قول الشاعر: فقوله تعالى في الآية الكريمة: فأصدقَ بالنصب، وقول الشاعر: فتخمدي منصوب أيضًا، بحذف النون، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض.واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله: {وَأَكُن مِّنَ الصالحين} إنما ساغ فيه الجزم، لأنه عطف على المحل لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور، هو الذي سوَّغ عطف المجزوم على المنصوب. وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره، وأشار له الزمخشري من أن لولا في الآية للاستفهام، ليس بصحيح.واعلم أن الكفار في هذه الآية الكريمة اقترحوا بحث وشدة عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور:الأول: أن ينزل إليه ملك، فيكون معه نذيرًا أي يشهد له بالصدق، ويعنيه على التبليغ.الثاني: أن يلقى إليه كنز، أي ينزل عليه كنز من المال ينفق منه، ويستغني به عن المشي في الأسواق.الثالث: أن تكون له جنة يأكل منها، والجنة في لغة العرب البستان ومنه قول زهير: فقوله: تسقي جنة أي بستانًا، وقوله: سحقًا يعني أن نخله طوال.وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة التي اقترحها الكفار وطلبوها بشدة وحث، تعنتًا منهم وعنادًا، جاءت مبينة في غير هذا الموضع، فبين جل وعلا في سورة هود اقتراحهم، لنزول الكنز، ومجيء الملك معه، وأن ذلك العناد والتعنت قد يضيق به صدره صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} [هود: 12]، وبين جل وعلا في سورة بني إسرائيل اقتراحهم الجنة، وأوضح أنهم يعنون بها بستانًا من نخيل وعنب، وذلك في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيرًا} [الإسراء: 9091] واقتراحهم هذا شبيه بقول فرعون في موسى: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53] تشابهت قلوبهم فشابهت أقوالهم.وقد قدمنا في الكلام على آية سورة بني إسرائيل، هذه الآيات الدالة على كثرة اقتراح الكفار، وشدة تعنتهم وعنادهم، وأن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا كما قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7] وقال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 1415] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] الآية، وقال تعالى: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍَ} [يونس: 9697] الآية. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.وقال الزمخشري في تفسير آية الفرقان هذه: يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد في الأسواق كما نتردد. يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكًا مستغنيًا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكًا إلى اقتراح أن يكون إنسانًا معه ملك، حتى يتساعدا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضًا فقالوا إن لم يكن مرفودًا بذلك، فليكن مرفودًا بكنز يُلقى إليه من السماء، يستظهر به، لا يحتاج إلى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه، ويرتزق كالدهاقين أو يأكلون هم من ذلك البستان، فينتفعون به في دنياهم، ومعاشهم انتهى منه، وكل تلك الاقتراحات لشدة تعنتهم، وعنادهم.وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي يأكل منها بالمثناة التحتية، وقرأ حمزة والكسائي: جنة نأكل منها بالنون، وهذه القراءة هي مراد الزمخشري بقوله: أو يأكلون هم من ذلك البستان.قوله تعالى: {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الظالمين وهم الكفار قالوا للذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} يعنون: أنه أثر فيه السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره، وقال مجاهد: مسحورًا: أي مخدوعًا كقوله: {فأنى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89]: أي من أين تخدعون، وقال بعضهم: مسحورًا: أي له سحر أر رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو بشر مثلكم، وليس بملك، وقد قدمنا كلام أهل العلم في قوله: مسحورًا بشواهده العربية في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} [طه: 69] ولما ذكر الله هذا الذي قاله الكفار في نبيه صلى الله عليه وسلم، من الإفك والبهتان خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}، وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قولهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} وما قاله الله لنبيه في ذلك، وهو قوله: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} الآية. جاء كله مصرحًا به في سورة بني إسرائيل في قوله تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 4748].قال الزمخشري: ضربوا لك الأمثال قالوا فيك تلك الأقوال، واقترحوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من نبوة مشتركة بين إنسان وملك، وإلقاء كنز عليك من السماء، وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالًا لا يجدون قولًا يستقرون عليه، أو فضلوا عن الحق، فلا يجدون طريقًا إليه اه.والأظهر عندي في معنى الآية ما قاله غير واحد من أن معنى: ضربوا لك الأمثال: أنهم تارة يقولون إنك ساحر، وتارة مسحور، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة كاهن، وتارة كذاب، ومن ذلك ما ذكر الله عنهم من قوله هنا: {وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه} [الفرقان: 4] الآية، وقوله: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين} [الفرقان: 5] وقوله: {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} وقوله تعالى: {فَضَلُّواْ} أي عن طريق الحق، لأن الأقوال التي قالوها، والأمثال التي ضربوها كلها كذب وافتراء، وكفر مخلد في نار جهنم، فالذين قالوها هم أضل الضالين، وقوله تعالى: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} فيه أقوال كثيرة متقاربة.وأظهرها أن معنى: فلا يستطيعون سبيلًا: أي طريقًا إلى الحق والصواب، نفي الاستطاعة المذكور هنا كقوله تعالى: {أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: 20] وقوله تعالى: {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101] وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [هود: 20] وقد قدمنا أيضًا معنى الظلم والضلال وما فيهما من الإطلاقات في اللغة مع الشواهد العربية في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. اهـ.
|