الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإن قيل: كيف تقدير قوله: {فكان قاب قوسين} أجيب: بأنّ تقديره فكان مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله: وقد جعلتني من خزيمة أصبعا أي ذا مقدار مسافة أصبع.وروى الشيباني قال: سألت زرًا عن قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} قال أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود أنه محمد صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح.وبهذا قال ابن عباس والحسن وقتادة، وقال آخرون: دنا الرب عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ومعنى دنوه تعالى: قرب منزلة كقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرّب إليّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا ومن تقرّب إليّ ذراعًا تقرّبت إليه باعًا ومن مشى إليّ أتيته هرولة» وهذا إشارة إلى المعنى المجازي قال البغوي: وروينا في قصة المعراج من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس: فدنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس وقال مجاهد: دنا جبريل من ربه وقد قدّمت الكلام على المعراج وعلى جواز رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في أوّل الإسراء. وقال الضحاك: دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجلّ فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى وتقدّم الكلام على القاب، والقوس: ما يرمى به في قول مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس، فأخبر أنه كان بين جبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين. وقال مجاهد: معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب والأصل في ذلك أنّ الحليفين من العرب كانا إذا أراد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فالصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه، وقال عبد الله بن مسعود: قاب قوسين قدر ذراعين وهو قول سعيد بن جبير، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء أو أدنى بل أقرب وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب.{فأوحى} أي: الله تعالى وإن لم يجر له ذكر لعدم اللبس {إلى عبده} أي: جبريل عليه السلام {ما أوحى} أي: جبريل عليه السلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الموحي تفخيمًا لشأنه وهذا التفسير ما جرى عليه الجلال المحلي وهو ظاهر، وقيل: فأوحى إلى جبريل بسبب هذا القرب وعقبه إلى عبده أي عبد الله ما أوحى أي جبريل وقيل: الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات).ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بكليته إلى جانب القدس، واختلف في الموحى على أقوال الأول قال سعيد ابن جبير: أوحى إليه {ألم يجدك يتيمًا} (الضحى).إلى قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} (الشرح).الثاني: أوحى إليه الصلاة. الثالث: أن أحدًا من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك. الرابع: أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة. الخامس: أنّ ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل.{ما كذب الفؤاد} أي: فؤاد النبيّ صلى الله عليه وسلم {ما رأى} أي: ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، وهذا أيضًا ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال البقاعي: ما رأى البصر أي حين رؤية البصر كأنه حاضر القلب لا أنها رؤية بصر فقط يمكن فيها الخلو عن حضور القلب وقال القشيري ما معناه: ما كذب فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره على الوصف الذي علمه قبل أن رآه، فكان علمه حق اليقين وقرأ هشام بتشديد الذال والباقون بالتخفيف.وقوله تعالى: {أفتمارونه} أي: تجادلونه وتغلبونه {على ما يرى} خطاب للمشركين المكذبين رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل، وهذا ما قاله ابن مسعود وعائشة. ومن قال: إنّ المرئي هو الله تعالى اختلفوا في معنى الرؤية فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده وهو قول ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرّتين ما كذب الفؤاد ما رأى، وقال أنس والحسن وعكرمة: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بعينه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: إنّ الله تعالى اصطفى إبراهيم عليه السلام بالخلة واصطفى في موسى عليه السلام بالكلام واصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرؤية وكانت عائشة تقول لم ير محمد صلى الله عليه وسلم ربه وتحمل الرؤية على رؤية جبريل قال مسروق قلت لعائشة: يا أمّتاه هل رأى محمد ربه فقالت لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدّثكهنّ فقد كذب؟ من حدّثك أنّ محمدًا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} (الأنعام).{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب} (الشورى).ومن حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت {وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت} (لقمان).. ومن حدّثك أنه كتم شيئًا مما أنزل الله تعالى فقد كذب، ثم قرأت {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة).الآية ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين، وروى أبو ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك «قال نور أنّى أراه» وحاصل المسألة: أنّ الصحيح ثبوت الرؤية وهو ما جرى عليه ابن عباس حبر الأمّة، وهو الذي يرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه أبو عمرو فأخبره أنه رآه ولا يقدح في ذلك حديث عائشة، لأنها لم تخبر أنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لم أر وإنما اعتمدت على الاستنباط مما تقدم وجوابه ظاهر، فإنّ الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن احتجاجها بقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله} (الشورى).الآية بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، وبأنه عام مخصوص بما تقدّم من الأدلة.وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «نور أنّى أراه» فقال الماوردي: الضمير في أراه عائد إلى الله تعالى ومعناه: إنه خالق النور المانع من رؤيته أي رؤية إحاطة كما مرّ إذ من المستحيل أن تكون ذات الله نورًا إذ النور من جملة الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك فإن قيل: هلا قيل أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به فقالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع أجيب: بأنّ التقدير أفتمارونه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه.والواو في قوله تعالى: {ولقد رآه} يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال أي: كيف تجادلونه فيما رآه وهو قد رآه {نزلة أخرى} على وجه لا شك فيه.تنبيه:قوله تعالى: {نزلة} فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلابد من نزول، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه:الأوّل: أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلًا من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء {عند سدرة المنتهى} قال الرازي: ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
|