الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فسّر عدد من المفسّرين اللطيف بواهب بعضها وإنما هو تفسيرُ تمثيل لا يخُصُّ دلالةَ الوصف به.وفعل (لَطَف) من باب نصر يتعدى بالباء كما هنا وباللام كما في قوله: {إن ربّي لطيفٌ لما يشاء} كما تقدم في سورة يوسف (100).وتقدم تحقيقُ معنى اسمه تعالى اللطيف.وعباده عام لجميع العباد، وهم نوع الإنسان لأنه جمع مضاف.وجملة {يرزق من يشاء} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو في موضع خبر عنه.والرزق: إعطاء ما ينفع.وهو عندنا لا يختص بالحلال وعند المعتزلة يختص به والخلاف اصطلاح.والظاهر: أن المراد هنا رزق الدّنيا لأن الكلام توطئة لقوله: {من كان يريد حرث الآخرة} [الشورى: 20].والمشيئة: مشيئة تقدير الرّزق لكل أحد من العباد ليكون عموم اللطف للعباد باقيًا، فلا يكون قوله: {من يشاء} في معنى التكرير، إذ يصير هكذا يرزق من يشاء من عباده الملطوففِ بجميعهم، وما الرزق إلا من اللطف، فيصيرُ بعضَ المعنى المفاد، فلا جرم تعيّن أن المشيئة هنا مصروفة لمشيئة تقدير الرزق بمقاديره.والمعنى: أنه للطفه بجميع عباده لا يترك أحدًا منهم بلا رزق وأنه فضل بعضهم على بعض في الرزق جريًا على مشيئته.وهذا المعنى يثير مسألة الخلاف بين أئمة أصول الدّين في نعمة الكافر، ومِن فروعها رزقُ الكافر.وعن الشيخ أبي الحسن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه نعمةً دنيوية لأن ملاذّ الكافر استدراج لمَّا كانت مفضية إلى العذاب في الآخرة فكانت غير نعمة، ومرادهم بالدنيوية مقابل الدينية.وكأنَّ مراد الشيخ بهذا تحقيق معنى غضب الله على الكافرين كما جاء في آيات كثيرة، فمراده: أن الكافر غير مُنْعَم عليه نعمةَ رضى وكرامةٍ ولكنها نعمة رحمة لما له من انتساب المخلوقية لله تعالى.وقال أبو بكر الباقلاني: الكافر منعَم عليه نعمة دُنيوية.وقالت المعتزلة: هو منعم عليه نعمة دنيوية ودينية: فالدنيوية ظاهرة، والدّينية كالقُدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله.وهذه مسألة أرجع المحققون الخلافَ فيها إلى اللفظ والبناء على المصطلحات والاعتبارات الموافقة لدقائق المذاهب، إذ لا ينازع أحد في نعمة المنعمين منهم وقد قال تعالى: {وذرْني والمُكذبين أولي النَّعْمَة}.[المزمل: 11].وعُطف {وهو القوي العزيز} على صفة {لطيف} أو على جملة {يرزق من يشاء} وهو تمجيد لله تعالى بهاتين الصفتين، ويفيد الاحتراس من توهم أن لطفه عن عجز أو مصانعة، فإنه قوي عزيز لا يَعجز ولا يصانِع، أو عن توهم أن رزقه لمن يشاء عن شحّ أو قِلّةٍ فإنه القويّ، والقوي تنتفي عنه أسباب الشحّ، والعزيز ينتفي عنه سبب الفقر فرزقه لمن يشاء بما يشاء منوط لحكمة عَلِمها في أحوال خلقه عامة وخاصة، قال تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكِنْ ينزِّل بقَدَر ما يشاء} [الشورى: 27] الآية.والإخبار عن اسم الجلالة بالمسند المعَرّففِ باللام يفيد معنى قصر القوة والعزة عليه تعالى، وهو قصر الجنس للمبالغة لكماله فيه تعالى حتى كأنَّ قوة غيره وعزّة غيره عَدَم.{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}.هذه الآية متصلة بقوله: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها} [الشورى: 18] الآية، لِمَا تضمنته من وجود فريقين: فريق المؤمنين أكبر همهم حياةُ الآخرة، وفريق الذين لا يؤمنون همهم قاصرة على حياة الدّنيا، فجاء في هذه الآية تفصيل معاملة الله الفريقين معاملة متفاوتة مع استوائهم في كونهم عبيده وكونهم بمحل لطف منه، فكانت جملة {الله لطيف بعباده} [الشورى: 19] تمهيدًا لهذه الجملة، وكانت هاته الجملة تفصيلًا لحظوظ الفريقين في شأن الإيمان بالآخرة وعدم الإيمان بها.ولأجل هذا الاتصال بينها وبين جملة {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} [الشورى: 18] تُرك عطفها عليها، وترك عطف توطئتها كذلك، ولأجل الاتصال بينها وبين جملة {الله لطيف بعباده} [الشورى: 19] اتصالَ المقصود بالتوطئة تُرك عطفها على جملة {الله لطيف بعباده}.والحَرث: أصله مصدر حَرَث، إذ شقّ الأرض ليزرع فيها حَبًّا أو ليغرس فيها شجرًا، وأطلق على الأرض التي فيها زرع أو شجر وهو إطلاق كثير كما في قوله تعالى: {أنْ اغدُوا على حَرْثِكم إن كُنتم صارمين} [القلم: 22]، أي جنتكم لقوله قبله {كما بَلونا أصحابَ الجنّة} [القلم: 17] وقال: {زُين للناس حبّ الشهوات من النساء} إلى قوله: {والأنعاممِ والحَرث} وقد تقدم في سورة آل عمران (14).والحرث في هذه الآية تمثيل للإقبال على كسب ما يُعده الكاسب نفعًا له يرجو منه فائدة وافرة بإقبال الفلاَّح على شقّ الأرض وزرعها ليحصل له سنابل كثيرة وثمار من شجر الحرث، ومنه قول امرىء القيس:
وإضافة {حرث} إلى {الآخرة} وإلى {الدنيا} على معنى اللام كقوله: {ومن أراد الآخرة وسعَى لها سعيها} [الإسراء: 19]، وهي لام الاختصاص وهو في مثل هذا اختصاص المعلَّل بعلته، وما لام التعليل إلا من تصاريف لام الاختصاص.ومعنى {يريد حرث الآخرة} يبْتغي عملًا لأجل الآخرة.وذلك المريد: هو المؤمن بالآخرة لأن المؤمن بالآخرة لا يخلو عن أن يريد الآخرة ببعض أعماله كثيرًا كان أو قليلًا، والذي يريد حرث الدّنيا مراد به: من لا يسعى إلا لعمل الدّنيا بقرينة المقابلة بمن يريد حرث الآخرة، فتعيّن أن مريد حرث الدّنيا في هذه الآية: هو الذي لا يؤمن بالآخرة.ونظيرها في هذا قوله تعالى في سورة هود (15، 16) {من كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها نُوَفِّ إليهم أعمالَهم فيها وهم فيها لا يُبْخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبِط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} ألا ترى إلى قوله: {ليس لهم في الآخرة إلا النار} [هود: 16] وقوله في سورة الإسراء (18، 19) {مَن كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنّم يصلاها مذمومًا مدحورًا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيُهم مشكورًا}.وفعل {نزد له في حرثه} يتحمل معنيين: أن تكون الزيادة في ثواب العمل، كقوله: {ويُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276] وقوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261]، وسيأتي قريبًا قوله: {ومن يقترِفْ حسنة نزِدْ له فيها حُسنًا} [الشورى: 23].وعلى هذا فتعليق الزيادة بالحرث مجاز عقلي علقت الزيادة بالحَرثثِ وحقُّها أن تعلق بسببه وهو الثواب، فالمعنى على حذف مضاف.وأن تكون الزيادة في العمل، أي نقدر له العون على الازدياد من الأعمال الصالحة ونيسّر له ذلك فيزداد من الصالحات.وعلى هذا فتعليق الزيادة بالحرث حقيقة فيكون من استعمال المركب في حقيقته ومجازه العقليين.ومعنى {نؤته منها}: نقدر له من متاع الدنيا مِن: مدة حياة وعافية ورزق لأن الله قدر لمخلوقاته أرزاقهم وأمدادهم في الدّنيا، وجعل حظ الآخرة خاصًا بالمؤمنين كما قال: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} [الإسراء: 19].وقد شملت آية سورة الإسراء فريقًا آخر غير مذكور هنا، وهو الذي يؤمن بالآخرة ويبْتغي النجاة فيها ولكنه لم يؤمن بالإسلام مثلُ أهل الكتاب، وهذا الفريق مذكور أيضًا في سورة البلد (11 17) بقوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ العقبةَ وما أدراك ما العقبةُ فكُّ رقبةٍ أو إطعام} إلى قوله: {ثم كان من الذين آمنوا}.فلا يَتوهمَنَّ متوهم أن هذه الآية ونحوها تحجر تناول المسلم حظوظَ الدّنيا إذا أدى حق الإيمان والتكليف، ولا أنها تصدّ عن خلط الحظوظ الدنيوية مع حظوظ الآخرة إذا وقع الإيفاء بكليهما، ولا أن الخلط بين الحظين ينافي الإخلاص كطلب التبرد مع الوضوء وطلببِ الصحة مع التطوع بالصوم إذا كان المقصد الأصلي الإيفاء بالحق الديني.وقد تعرض لهذه المسألة أبو إسحاق الشاطبي في فصل أول من المسألة السادسة من النوع الرابع من كتاب (المقاصد) من كتاب (الموافقات).وذكر فيها نظرين مختلفين للغزالي وأبي بكر بن العربي ورجح فيها رأي أبي بكر بن العربي فانظره.والنصيب: ما يُعيَّن لأحد من الشيء المقسوم، وهو فَعيل من نَصَبَ لأن الحظ يُنصب، أي يجعل كالصُّبرة لصاحبه، وتقدم عند قوله تعالى: {أولئك لهم نصيب مما كسبوا} في سورة البقرة (202). اهـ.
|