الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
(ملحوب والرداع) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة، فوصف البيت بكوثر ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان: وسمي نهر الجنة كوثرًا كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفًا.وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير، وروي عن ابن عباس، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: إن ناسًا يقولون هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير.وعن عكرمة: الكوثر هنا: النبوءة والكتاب، وعن الحسن: هو القرآن، وعن المغيرة: أنه الإِسلام، وعن أبي بكر بن عَيَّاش: هو كثرة الأمة، وحكى الماوردي: أنه رفعة الذكر، وأنه نور القلب، وأنه الشفاعة، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره.وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه: هو أبتر، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر، إبطالًا لقولهم.وقوله: {فصل لربك} اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه عليها، فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته.وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء: إنه أبتر، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى} [العلق: 9، 10] لأنهم إنما نهَوْه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم، وكذلك النحر لله.والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله: {فصل لربك} دون: فصلِّ لنا، لما في لفظ الرب من الإِيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلًا عن فرط إنعامه.وإضافة (رب) إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتقريبه، وفيه تعريض بأنه يربُّه ويرأف به.ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} في سورة الحجر (97، 98).ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدّ المشركين إيّاه عن البيت في الحديبية، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيرًا كثيرًا، أي قدره له في المستقبل وعُبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا} [الفتح: 1] فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب: أفتح هذا؟ قال: نعم.وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير: أن قوله: {فصل لربك وانحر} أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرفَ من الحديبية.وأفادت اللام من قوله: {لربك} أنه يخُص الله بصلاته فلا يصلي لغيره.ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها.وعطف {وانحر} على {فصل لربك} يقتضي تقدير متعلقه مماثلًا لمتعلق {فصل لربك} لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر} [مريم: 38] أي وأبصر بهم، فالتقدير: وانحر له.وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانًا للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبلَ البعثة وبعدها قد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته، وهو يود أن يُطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرجُ من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناويًا بما تنحره أنه لله.وإن كانت السورة مدنية، وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مرادًا به الضحايا يومَ عيد النحر ولذلك قال كثير من الفقهاء إن قوله: {فصل لربك} مراد به صلاة العيد، ورُوي ذلك عن مالككٍ في تفسير الآية وقال: لم يبلغني فيه شيء.وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالةً على أن الضحية تكون بعد الصلاة، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضّأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضحّ إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يومَ النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عُطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفًا.ويرشح إيثارَ النحر رَعْيُ فاصلة الراء في السورة.وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير {انحر} تجعله لفظًا غريبًا.{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} استئناف يجوز أن يكون استئنافًا ابتدائيًا. ويجوز أن تكون الجملة تعليلًا لحرف {إنّ} إذا لم يكن لرد الإِنكار يكثر أن يفيد التعليل كما تقدم عند قوله تعالى: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} في سورة البقرة (32).واشتمال الكلام على صيغة قصر وعلى ضمير غائب وعلى لفظ الأبتر مؤذن بأن المقصود به ردُّ كلام صادر من معيَّن، وحكايةُ لفظٍ مرادٍ بالرد، قال الواحدي: قال ابن عباس: إن العاصي بن وائل السهمي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام عند باب بني سهم فتحدث معه وأناسٌ من صناديد قريش في المسجد فلما دخل العاصي عليهم قالوا له: من الذي كنت تتحدث معه فقال: ذلك الأبترُ، وكان قد توفّي قبل ذلك عبدُ الله ابنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مات ابنه القاسم قبلَ عبد الله فانقطع بموت عبد الله الذكورُ من ولده صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكانوا يَصِفون من ليس له ابن بأبتر فأنزل الله هذه السورة، فحصل القصر في قوله: {إن شانئك هو الأبتر} لأن ضمير الفصل يفيد قصر صفة الأبتر على الموصوف وهو شانئ النبي صلى الله عليه وسلم قصرَ المسند على المسند إليه، وهو قصر قلب، أي هو الأبتر لا أنت.و{الأبتر}: حقيقته المقطوع بعضه وغلب على المقطوع ذَنبه من الدواب ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيهًا بالدَّابة المقطوع ذَنَبها تشبيه معقول بمحسوس كما في الحديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» يقال: بَتر شيئًا إذا قطع بعضَه وبَتر بالكسر كفرِح فهو أبتر، ويقال للذي لا عقب له ذكورًا، هو أبتر على الاستعارة تشبيه متخيل بمحسوس شبهوه بالدابة المقطوع ذنبها لأنه قُطع أثره في تخيُّل أهللِ العرف.ومعنى الأبتر في الآية الذي لا خير فيه وهو رد لقول العاصي بن وائل أو غيره في حق النبي صلى الله عليه وسلم فبهذا المعنى استقام وصف العاصي أو غيره بالأبتر دون المعنى الذي عناه هو حيث لمز النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر، أي لا عقب له لأن العاصي بن وائل له عقب، فابنه عمرو الصحابي الجليل، وابن ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل ولعبد الله عقب كثير.قال ابن حزم في (الجمهرة) عقبه بمكة وبالرهط.فقوله تعالى: {هو الأبتر} اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانئ النبي صلى الله عليه وسلم ونفيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه.ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل: (محمد أبتر) إبطالًا لقوله ذلك، وكانَ عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لا عقب له تعيّن أن يكون هذا الإِبطال ضربًا من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيهًا على أن الأحقَّ غيرُ ما عناه من كلامه كقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189].وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظّ الخير، أي ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله.وهب أنه لم يولد له البتة، وإنما اصطلح الناس على اعتباره نقصًا لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعية من الاعتماد على الجهود البدنية فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر وذلك أمر قد يعرض، وقد لا يعرض أو لمحبة ذِكر المرء بعد موته وذلك أمر وهمي، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أغناه الله بالقناعة، وأعزّه بالتأييد، وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه، فتمحض أن كماله الذاتي بما عَلِمه الله فيه إذ جعل فيه رسالته، وأن كماله العرضي بأصحابه وأمته إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم.وفي الآية محسن الاستخدام التقديري لأن سوق الإبطال بطريق القصر في قوله: {هو الأبتر} نفيُ وصف الأبتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن بمعنًى غير المعنى الذي عناه شانئه فهو استخدام ينشأ من صيغة القصر بناء على أن ليس الاستخدام منحصرًا في استعمال الضمير في غير معنى معاده، على ما حققه أستاذنا العلامة سالم أبو حاجب وجعله وجهًا في واو العطف من قوله تعالى: {وجاء ربك والملك} [الفجر: 22] لأن العطف بمعنى إعادة العامل فكأنه قال: وجاء الملك وهو مجيء مغاير لمعنى مجيء الله تعالى، قال: وقد سَبقنا الخفاجي إلى ذلك إذ أجراه في حرف الاستثناء في (طراز المجالس) في قول محمد الصالحي من شعراء الشام: والشانئ: المبغض وهو فاعل من الشناءة وهي البغض ويقال فيه: الشنآن، وهو يشمل كل مبغض له من أهل الكفر فكلهم بتر من الخير ما دام فيه شنآن للنبي صلى الله عليه وسلم فأما من أسلموا منهم فقد انقلب بعضهم محبة له واعتزازًا به. اهـ.
|