الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال بعضهم: قد يجيء في الرَّديء خَلَفَ بالفتح، وفي الجيد خَلْف بالسُّكُون، فمن مجيء الأول قوله: [المتقارب] ومن مجيء الثاني قول حسان: [الطويل] وقد جمع بينهما الشَّاعِرُ في قوله: [الرجز] فاستعمل السَّاكن والمتحرك في الرَّديء.ولهذا قال النَّضْرُ: يجوزُ التَّحريم والسُّكونُ في الرَّديء، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط ووافقه جماعةٌ من أهْلِ اللُّغة، إلاَّ الفرَّاء وأبا عبيدٍ، فإنَّهُمَا أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح، والخَلْف بالسُّكون فيه وجهان، أحدهما: أنَّهُ مصدر، ولذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤنَّث، وعليه ما تقدَّم من قوله: وإمَّا اسم جمع خالفِ كـ: رَكْب لراكب، وتَجْر لِتَاجِرٍ.وإمَّا اسم جمع خالِف كـ: رَكْب لراكب، وتَجْر لِتَاجِرٍ.قاله ابنُ الأنباري: ورَدُّه عليه، بأنَّهُ لو كان اسمَ جمع لم يَجْرِ على المفرد، وقد جرى عليه واشتقاقه إمَّا من الخلافةِ، أي كُلُّ خلفٍ يَخْلُفُ من قبله، وإمَّا من خلفَ النبيذ يَخْلُفُ أي: فَسَدَ.يقال: خَلَفَ النَّبيذُ يَخْلُفُ خَلْفًا وخُلُوفًا، وكذلك الفَمُ إذا تغيَّرت رائحتُهُ ومن ذلك الحديث: «لَخُلُوفُ فمِ الصَّائم».وقوله: {وَرِثُوا} في محل رفع نعتًا لـ {خَلْف} ويَأخُذُونَ حال من فاعل وَرِثُوا.وقرأ الحسنَ البصري: وُرِّثُوا بضمِّ الواو وتشديد الرَّاءِ مبنيًّا لما لم يُسَمَّ فاعله، والمعنى انتقل إليهم الكتابُ من آبائهم وهو التَّوراةُ، ويجوز أن يكون: يَأخُذُونَ مستأنفًا أخبر عنهم بذلك.وقوله: {عَرَضَ هذَا الأدْنَى}.قال أبُو عبيدٍ: جميع متاعِ الدُّنْيَا عرض بفتح الرَّاء.يقال: الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجِرُ.وأما العَرَْ بسكون الرَّاء فما خالف الثَّمين، أعني الدَّراهم والدَّنانير وجمعه عروض، فكان العَرْضُ من العَرَض وليس كل عَرَضٍ عَرْضًا.والمعنى: حُطَامُ هذا الشَّيء الأدْنَى يريد الدُّنْيَا، والمرادُ منه: التَّخسيس والتَّحقير، والأدْنَى إمَّا من الدُّنوِّ بمعنى القرب؛ لأنَّهُ عاجل قريب، وإمَّا من دنوِّ الحالِ وسقوطها.وتقدَّم الكلامُ عليه.قوله: {ويَقُولُونَ} نسقٌ على يَأخذُونَ بوجهيه، وسَيُغْفَرُ معموله، وفي القائم مَقَام فاعله وجهان: أحدهما الجَاُّ بعده وهو {لَنَا} والثاني: أنَّهُ ضمير الأخْذِ المدلول عليه بقوله يَأخُذُونَ أي: سيغفرُ لنا أخذُ العرض الأدْنَى.قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ} هذه الجملة الشَّرطية فيها وجهان:أظهرهما: أنَّها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.والثاني: أنَّ الواوَ للحال، وما بعدها منصوبٌ عليها.قال الزمخشري: الواو للحال، أي: يَرْجُون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين، وغفرانُ الذُّنُوب لا يصحُّ إلاَّ بالتَّوبةِ، والمُصِرُّ لا غفران له انتهى.وإنَّما جعل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغُفران شرطه التَّوبة، وهو رأي المعتزلة وأمَّا أهْلُ السُّنَّة: فيجوز مع عدم التوبة، لأنَّ الفاعل مختار.والعَرَض- بفتح الراء- ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون: العَرَض المقابل للجوهر.وقال أبو عبيدة: العَرَضُ- بالفتح- جميعُ متاعِ الدُّنيا غير النقدين. كما تقدَّم.قوله: {أَن لاَّ يِقُولُواْ} فيه أربعةُ أوجه:أحدها: أنَّ محله رفع على البدل من {مِيثَاقُ}؛ لأن قول الحقّ هو ميثاق الكتاب.والثاني: أنَّهُ عطفُ بيان له وهو قريب من الأوَّلِ.والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله.قال الزمخشريُّ: وإنْ فُسِّرَ ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكره كان: {ألاَّ يقُولُوا} مفعولًا من أجله ومعناه: لئلا يقولوا وكان قد فسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة: من ارتكب ذَنْبًا عَظِيمًا فإنَّه لا يُغفر له إلا بالتَّوبة، وأنْ على هذه الأقوالِ الثلاثة مصدرية.الرابع: أنَّ أنْ مفسرة لـ {مِيثَاقُ الكتابِ}؛ لأنَّهُ بمعنى القولِ، ولا ناهية، وما بعدها مجزوم بها، وعلى الأقوال المتقدِّمة لا نافية، والفعلُ منصوبٌ بأنْ المصدرية و{الحَقَّ} يجوز أن يكون مفعولًا به، وأن يكون مصدرًا، وأضيفَ الميثاقُ للكتابِ؛ لأنَّهُ مذكورٌ.قوله: {ودَرَسُوا} فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها ما قاله الزمخشريُّ: وهو كونُه معطوفًا على قوله: {ألَمْ يُؤخَذْ}؛ لأنَّهُ تقرير.فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا، نظيره قوله تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] معناه: قد رَبَّيْنَاك ولَبِثْتَ.والثاني: أنَّهُ معطوف على {وَرِثُوا}.قال أبُو البقاءِ: ويكونُ قوله: {ألَمْ يُؤخَذْ} معترضًا بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطَّبري وغيره.الثالث: أنه على إضمار قَدْ والتقدير: وقد درسوا.فهو على هذا منصوب على الحال نسقًا على الجملة الشرطية، أي: يقولون: سَيُغْفَرُ لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكون حالًا من فاعل: {يَأخُذُوهُ} أي يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشَا وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض.وقرأ الجحدري: أن لا تقُولُوا بتاء الخطابِ، وهو التفاتٌ حسنٌ.وقرأ علي وأبو عبد الرحمن السلمي {وادَّارَسُوا} بتشديد الدَّالِ، والأصلُ: تَدَارَسُوا وتصريفه كتصريف {فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] وقد تقدم.ثم قال تعالى: {والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي: من تلك الرَشوة الخبيثة المحقرة {فلا تَعْقِلُونَ}.وقد تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة.وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٌ وحفصٌ تَعْقِلُونَ بالخطابِ، والباقون بالغيبة، فالخطابُ يحتمل وجهين: أحدهما: أنه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، والمرادُ بالضَّمائر حينئذٍ شيءٌ واحد.والثاني: أنَّ الخطابَ لهذه الأمَّةِ، أي: أفلا تعلقون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعَجَّبُونَ من حالهم.وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضَّمائر، ونقل أبو حيان أنَّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكَّة، وقراءة الخطاب للباقين.أهـ.. باختصار.
|