الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)}.الهمزة في قوله: {أَفَلَمْ} تتعلق بمحذوف، والفاء عاطفة عليه، كما قدمنا مرارًا أنه أظهر الوجهين، وأنه أشار إليه في الخلاصة بقوله:
والتقدير: أأعرضوا عن آيات الله فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج. أي لي فيها من شقوق ولا تصدع ولا تفطر، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تعظيم شأن كيفية بنائه تعالى للسماء وتزيينه لها وكونها لا تصدع ولا شقوق فيها جاء كله موضحًا في آيات أخر كقوله جل وعلا في بنائه للسماء: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27- 28]، وقوله تعالى: {والسماء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، وقوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12]، وقوله تعالى: {الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُت} [الملك: 3]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17]، وقوله تعالى في أول الرعد: {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ استوى عَلَى العرش} [الرعد: 2] وقوله تعالى في لقمان: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10] الآية.. إلى غير ذلك من الآيات. وكقوله تعالى في تزيينه للسماء {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، وقوله تعالى: {وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} [فصلت: 12] الآية، وقوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} [الصافات: 6]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16]. وكقوله تعالى في حفظه للسماء من أن يكون فيها فروج أي شقوق: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3]، والفطور والفروج بمعنى واحد، وهو الشقوق ولاصدوع. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 32]، أما إذا كان يوم القيامة فإن السماء تتشقق وتتفطر، وتكون فيها الفروج كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام} [الفرقان: 25]. وقال تعالى: {فَإِذَا انشقت السماء فَكَانَتْ وَرْدَةً} [الرحمن: 37] الآية. وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة وانشقت السماء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 15- 16] الآية. وقال تعالى: {إِذَا السماء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق: 1- 2]، وقال تعالى: {إِذَا السماء انفطرت} [الإنفطار: 1]، وقال تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الولدان شِيبًا السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [الإنفطار: 17- 18]. وقال تعالى: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ وَإِذَا السماء فُرِجَتْ} [المرسلات: 8- 9].{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)}.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه مد الأرض وألقى فيها الجبال الرواسي وأنبت فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} [الرعد: 3] إلى قوله: {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]، وكقوله: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} [لقمان: 10- 11] والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقوله: {تَبْصِرَةً} أي قدرنا الأرض وألقينا فيها الرواس وانبتنا فيها أصناف النبات الحسنة لأجل أن نبصر عبادنا كمال قدرتنا على البعث وعلى كل شيء وعلى استحقاقنا للعبادة دون غيرنا.قوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الخروج}.قوله: كذلك الخروج، معناه أن الله تبارك وتعالى: يبين أن إحياء الأرض بعد موتها بإنبات النبات فيها بعد انعدامه واضمحلاله، دليل على بعث الناس بعد الموت بعد كونهم ترابًا وعظامًا. فقوله: {كذلك الخروج} يعني أن خروج الناس أحياء من قبورهم بعد الموت كخروج الناس النبات من الأرض بعد عدمه، بجامع استواء الجميع في أنه جاء بعد عدم، وهذا أحد براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في صدر سورة البقرة وأول النحل وأول الجاثية، وغير ذلك من المواضع.قوله تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ}.هذه الآية الكريمة تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب، أي يتختم وثبت في حقه ثبوتًا لا يصح معه تخلفه عنه، وهو دليل واضح على أن ما قاله بعض أهل العلم من أن الله يصح ان يخلف وعيده، لأنه قال: إنه لا يخلف وعده ولم يقل إنه لا يخلف وعيده، وأن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد، وأن الشاعر قال: لا يصح بحال، لأن وعيده تعالى للكفار حق ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل كما دل عليه قوله هنا: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ}. وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله: سها فسجد. أي لعلة سهوه وسرق فقطعت يده أي لعله سرقته، ومنه قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق ووجب عليهم، فدعوى جواز نخلفه باطلة بلا شك، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة موضحًا في آيات أخر، كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة: {قال لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} [ق: 28- 29] الآية، والتحقيق: أن المراد بالقول الذي لا يبدل لديه هو الوعيد الذي قدم به إليهم.وقوله تعالى في سورة ص {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: 14]. وبهذا تعلم ان الوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو وعيد عصاة المسلمين بتعذيبهم على كبائر الذنوب، لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48 و61] وهذا في الحقيقة تجاوز من الله عن ذنوب عباده المؤمنين العاصين، ولا إشكال في ذلك، وقد أوضحنا هذا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قال النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَاءَ الله} [الأنعام].{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}.هذه الآية الكريمة من براهين البعث، لأن من لم يعي بخلق الناس ولم يعجز عن إيجادهم الأول لا شك في قدرته على إعادتهم وخلقهم مرة أخرى، لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من البدء. والآيات الدالة على هذا كثيرة جدًا، كقوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} [الروم: 27]. وقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] وقوله: {فَسَيَقولونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة، وقد أوضحنا الآيات الدالة على براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن، كخلق الناس أولًا، وخلق السماوات والأرض وما فيهما وإحياء الأرض بعد موتها، وغير ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، في البقرة والنحل والحج والجاثية وغير ذلك، وأحلنا على ذلك مرارًا كثيرة. اهـ.
|