الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كان كثير من الأذى قد يحصل عن غفلة أصحابه عما يوجبه فيصدر عنهم من الأقوال ما تجيش به خواطرهم قبل التدبر فيما يحفّ بذلك من الاحتمالات التي تقلعه وتنفيه ودون التأمل يترتب عليه من إخلال بالواجبات.وكذلك يصدر عنهم من الأعمال ما فيه ورطة لهم قبل التأمل في مغبة عملهم.نبه الله المؤمنين كي لا يَقعُوا في مثل تلك العنجهية لأن مدارك العقلاء في التنبيه إلى معاني الأشياء وملازماتها متفاوتة المقادير، فكانت حَرية بالإِيقاظ والتحذير.وفائدة التشبيه تشويه الحالة المشبَّهة لأن المؤمنين قد تقرر في نفوسهم قبْح ما أوذي به موسى عليه السلام بما سبق من القرآن كقوله: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] الآية.والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم.وقد حكى الله عنهم ذلك إجالًا وتفصيلًا بقوله: {وإذ قال موسى لقومه} الآية فلم يكن هذا الأذى من قبيل التكذيب لأجل قوله: {وقد تعلمون أني رسول الله إليكم} والاستفهام في قوله: {لم تؤذونني} إنكاري.فكان توجيه الخطاب للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مراعى فيه المشابهة بين الحالين في حصول الإِذاية.فالذين آذوا موسى قالوا مرة {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24].فآذوه بالعصيان وبضرب من التهكم.وقالوا مرة {أَتتَّخِذُنا هزؤا} [البقرة: 67] فنسبوه إلى الطيش ولاسخرية ولذلك قال لهم {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67].وفي التوراة في الإصحاح الرابع عشر من الخروج وقالوا لموسى فإذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر فإنه خير لنا أن نخدُم المصريين من أن نموت في البرية.وفي الإصحاح السادس عشر وقالوا لموسى وهراون إنكما أخرجتمونا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع.وفي الحديث: «إن موسى كان رجلًا حييًّا ستِّيرًا فقال فريق من قومه: ما نراه يستتر إلا مِن عاهة فيه، فقال قوم: به برص، وقال قوم: هو آدر» ونحو هذا، وكان قريبًا من هذا قول المنافقين: إن محمدًا تزوج مطلقة ابنه زيد بن حارثة.وقد دلت هذه الآية على وجوب توقير النبيء صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يؤذيه وتلك سنة الصحابة والمسلمين وقد عرضَت فلتاتٌ من بعض أصحابه الذين لم يبلغوا قبلها كمال التخلق بالقرآن مثل الذي قال له لما حَكَم بينه وبين الزُبير في ماء شراح الحَرّة: أنْ كان ابنَ عمتِك يا رسول الله.ومثل التميمي خرفوص الذي قال في قسمَة مغانم حُنين: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبَر».واعلم أن محل الشتبيه هو قوله: {كالذين آذوا موسى} دون ما فرع عليه من قوله: {فبرأه الله مما قالوا} وإنما ذلك إدماج وانتهاز للمقام بذكر براءة موسى مما قالوا، ولا اتصال له بوجه التشبيه لأن نبيئنا صلى الله عليه وسلم لم يُوذَ إيذاء يقتضي ظهور براءته ما أوذي به.ومعنى بَرَّأه أظهر براءته عيَانًا لأن موسى كان بريئًا مما قالوه من قبل أن يؤذوه بأقوالهم فليس وجود البراءة منه متفرعة على أقوالهم ولكن الله أظهرها عقب أقوالهم فإِن الله أظهر براءته من التغرير بهم إذ أمرهم بدخول أريحا فثبّت قلوبهم وافتتحوها وأظهر براءته من الاستهزاء بهم إذ أظهر معجزته حين ذبحوا البقرة التي أمرهم بذبحها فتبين من قتل النفس التي ادّارأوا فيها.وأظهر سلامته من البرص والأدرة حين بدا لهم عريانًا لما انتقل الحجر الذي عليه ثيابه.ومعنى: برأه مما قالوا برأه من مضمون قولهم لا من نفس قولهم لأن قولهم قد حصل وأوذي به وهذا كما سموا السُّبة القالة.ونظيره قوله تعالى: {ونرثه ما يقول} [مريم: 80].أي ما دل عليه مقاله وهو قوله: {لأوتين مالًا وولدًا} [مريم: 77] أي نرثه ماله وولده.وجملة {وكان عند الله وجيهًا} معترضة في آخر الكلام ومفيدة سبب عناية الله بتبرئته.والوجيه صفة مشبهة، أي ذو الوجاهة.وهي الجاه وحسن القبول عند الناس.يقال: وجه الرجل، بضم الجيم، وجاهة فهو وجيه.وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الوجْه الذي للإِنسان، فمعنى كونه وجيهًا عند الله أنه مرضيّ عنه مقبول مغفور له مستجاب الدعوة.وقد تقدم قوله تعالى: {وجيهًا في الدنيا والآخرة} في سورة [آل عمران: 45]، فضُمّه إلى هنا.وذكر فعل {كان} دال على تمكن وجاهته عند الله تعالى.وهذا تسفيه للذين آذوه بأنهم آذوه بما هو مبرأ منه، وتنويه وتوجيه لتنزيه الله إياه لأنه مستأهل لتلك التبرئة لأنه وجيه عند الله وليس بخامل.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)}.بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم ورَبأَ بِهم عن أن يكونوا مثل الذين آذوا رسولهم، وجه إليهم بعد ذلك نداء بأن يتَّسِموا بالتقوى وسداد القول لأن فائدة النهي عن المنكر التلبّسُ بالمحامد، والتقوى جماع الخير في العمل والقول.والقول السديد مبثّ الفضائل.وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به واستجلاب الإِصغاء إليه.ونداؤهم بالذين آمنوا لما فيه من الإِيماء يقتضي ما سيؤمرون به.ففيه تعريض بأن الذين يصدر منهم ما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم قصدًا ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم منافقون، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شُعَب التقوى كما هو من شعب الإِيمان.والقول: الكلام الذي يصدر من فم الإِنسان يعبر عما في نفسه.والسديد: الذي يوافق السداد.والسداد: الصواب والحقُ ومنه تسديد السهم نحو الرمية، أي عدم العدول به عن سمْتها بحيث إذا اندفع أصابها، فشمل القولُ السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة مثل ابتداء السلام وقول المؤمن للمؤمن الذي يحبّه: إني أحبك، والقول يكون بابًا عظيمًا من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر.وفي الحديث: «وهل يَكُبّ الناس في النار على وجوههم إلاّ حصَائِد ألسنتهم» وفي الحديث الآخر: «رحم الله امرأ قال خيرًا فغنم أو سكت فسلم» وفي الحديث الآخر: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».ويشمل القولُ السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء، وما هو تبليغ لإِرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء.فقراءة القرآن على الناس من القول السديد، ورواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من القول السديد.وفي الحديث: «نضَّر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها» وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأيمة الفقه.ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح.ومن القول السديد الأذان والإِقامةُ قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} في سورة فاطر.فبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيّئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا.والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.ولما في التقوى والقولِ السديد من وسائل الصلاح جُعل للآتي بهما جزاءٌ بإِصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب.وهو نشر على عكس اللف، فإصلاح الأعمال جزاء على القول السديد لأن أكثر ما يفيده القول السديد إرشاد الناس إلى الصلاح أو اقتداء الناس بصاحب القول السديد.وغفرانُ الذنوب جزاء على التقوى لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر وقد غفر الله للناس الصغائر باجتناب الكبائر وغفر لهم الكبائر بالتوبة، والتحولُ عن المعاصي بعدَ الهمّ بها ضرب من مغفرتها.ثم إن ضميري جمع المخاطب لما كان عائدين على الذين آمنوا كانا عامَّيْن لكل المؤمنين في عموم الأزمان سواء كانت الأعمال أعمال القائلين قولًا سديدًا أو أعمال غيرهم من المؤمنين الذين يسمعون أقوالهم فإنهم لا يخلون من فريق يتأثر بذلك القول فيعملون بما يقتضيه على تفاوت بين العاملين، وبحسب ذلك التفاوت يتفاوت صلاح أعمال القائلين قولًا سديدًا والعاملين به من سامعيه، وكذلك أعمال الذي قال القول السديد في وقت سماعه قولَ غيره.وفي الحديث: «فَرَّب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، فظهر أن إصلاح الأعمال متفاوت وكيفما كان فإن صلاح المعمول من آثار سداد القول، وكذلك التقوى تكون سببًا لمغفرة ذنوب المتقي ومغفرة ذنوب غيره لأن من التقوى الانكفاف عن مشاركة أهل المعاصي في معاصيهم فيحصل بذلك انكفاف كثير منهم عن معاصيهم تأسيًا أو حياء فتتعطل بعض المعاصي، وذلك ضرب من الغفران فإن اقتدى فاهتدى فالأمر أجدر.وذكر {لكم} مع فعلي {يصلح} {ويَغفر} للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد كما في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1].وجملة {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} عطف على جملة {يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم} أي وتفوزوا فوزًا عظيمًا إذا أطعتم الله بامتثال أمره.وإنما صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإِفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل.وهذا نسج بديع من نظم الكلام وهو إفادة غرضين بجملة واحدة. اهـ.
|