الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَتَجِدُ أَكْثَرَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (بَرَاءَةَ) مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ.{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} أَيْ أَلَمْ يَعْلَمْ أُولَئِكَ التَّائِبُونَ مِنْ ذَنْبِهِمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ لِرَسُولِهِ بَلْهَ مَنْ دُونَهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَالِاسْتِفْهَامُ لِتَقْرِيرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ- أَوْ أَلَمْ يَعْلَمِ الْمُؤْمِنُونَ كَافَّةً هَذَا وَهُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَمُوجِبُهُ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى هَذَا تَحْضِيضٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ التَّوْبَةِ. وَقَبُولُ التَّوْبَةِ عَنْهُمْ قِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى قَبُولِهَا مِنْهُمْ، نَحْوَ: لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ غِنًى وَمِنْ غِنًى، وَقِيلَ: إِنَّ الْقَبُولَ هُنَا قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَى التَّجَاوُزِ وَالصَّفْحِ، أَيْ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُهَا مِنْهُمْ مُتَجَاوِزًا عَنْ ذُنُوبِهِمْ عَفْوًا عَنْهَا وَهَذَا أَبْلَغُ {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} أَيْ يَتَقَبَّلُهَا بِأَنْوَاعِهَا وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، وَيَعُدُّهَا إِقْرَاضًا لَهُ فَيُضَاعِفُ ثَوَابَهَا، بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (64: 17) وَقَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (2: 245) فَأَخْذُ الصَّدَقَاتِ لَهُ ثَلَاثُ صُوَرٍ:(أَحَدُهَا) أَخْذُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ إِيَّاهَا مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ إِيَّاهَا مِنْ يَدِ الْمُتَصَدِّقِ.(الثَّانِيَةُ) أَخْذُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عَهْدِهِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ إِيَّاهَا لِأَجْلِ وَضْعِهَا فِي مَصَارِفِهَا الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا.(الثَّالِثَةُ) أَخْذُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهَا وَهُوَ قَبُولُهَا لِلْإِثَابَةِ عَلَيْهَا بِالْمُضَاعَفَةِ الَّتِي وَعَدَهَا. وَفِي التَّعْبِيرِ بِأَخْذِ اللهِ تَعَالَى بَعْدَ قَوْلِهِ لِلنَّبِيِّ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} تَشْرِيفٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ مَا أَمَرَهُ بِأَخْذِهِ: {وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أَيْ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ مُذْنِبٍ يَشْعُرُ بِضَرَرِ ذَنْبِهِ، وَيَتُوبُ عَنْهُ مُنِيبًا إِلَى رَبِّهِ مَهْمَا يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ.{الرَّحِيمُ} بِالتَّائِبِينَ الَّذِي يُثِيبُهُمْ. فَصِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ {التَّوَّابُ} تَتَحَقَّقُ بِكَثْرَةِ التَّائِبِينَ وَبِتَكْرَارِ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَمْنَعُهُ الْخَوْفُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُصِرَّ عَلَى ذَنْبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (3: 135) وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً».رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدُكُمْ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ طَيِّبٍ- وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ- إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ» وَالْحَدِيثُ تَمْثِيلٌ لِمُضَاعَفَتِهِ تَعَالَى لِلصَّدَقَةِ الْمَقْبُولَةِ:وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِأَنَّ وَبِضَمِيرِ الْفَصْلِ، الدَّالَّةُ عَلَى الْحَصْرِ، وَمَا فِيهَا مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ مِنَ التَّوْبَةِ، وَمُبَالَغَةُ الصِّفَةِ الرَّاسِخَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ تُفِيدُ أَعْظَمَ الْبُشْرَى لِلتَّائِبِينَ، وَأَبْلَغَ التَّرْغِيبِ فِي التَّوْبَةِ لِلْمُذْنِبِينَ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَدَبِّرِينَ.{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} هَذَا عَطْفٌ عَلَى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، إِلَخْ، أَيْ: وَقُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: اعْمَلُوا لِدُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ وَلِأَنْفُسِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ (حَذْفُ مُتَعَلِّقِ الْعَمَلِ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمُ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) فَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِالْعَمَلِ لَا بِالِاعْتِذَارِ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَلَا بِدَعْوَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ، وَخَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَنُوطَانِ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ وَلَا عَلَى النَّاسِ أَيْضًا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُرَاقِبُوهُ تَعَالَى فِي أَعْمَالِكُمْ، وَتَتَذَكَّرُوا أَنَّهُ نَاظِرٌ إِلَيْكُمْ، عَلِيمٌ بِمَقَاصِدِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ، وَجَدِيرٌ بِمَنْ يُؤْمِنُ بِرُؤْيَةِ اللهِ لِعَمَلِهِ أَنْ يُتْقِنَهُ، وَأَنْ يُخْلِصَ لَهُ النِّيَّةَ فِيهِ، فَيَقِفُ فِيهِ عِنْدَ حُدُودِ شَرْعِهِ، وَيَتَحَرَّى بِهِ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ وَالْخَيْرَ لِخُلُقِهِ، وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِتَرْكِ مَعَاصِيهِ، وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ، رَاوَدَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَنْ نَفْسِهَا فِي فَلَاةٍ قَائِلًا: إِنَّهُ لَا يَرَانَا هُنَا إِلَّا الْكَوَاكِبُ، قَالَتْ: فَأَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟ فَخَجِلَ وَانْصَرَفَ. وَسَيَرَاهُ رَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَيَزِنُونَهُ بِمِيزَانِ الْإِيمَانِ الْمُمَيِّزِ بَيْنِ الْإِخْلَاصِ وَالنِّفَاقِ، وَهُمْ شُهَدَاءُ اللهِ عَلَى النَّاسِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يُعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَأَخْرَجَ اللهُ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» وَقَالَ زُهَيْرٌ:
فَإِذَا كَانَتِ الْخَلَائِقُ النَّفْسِيَّةُ، وَالْأَعْمَالُ السِّرِّيَّةُ، لَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ مُحَاوَلَةِ صَاحِبِهَا لِإِخْفَائِهَا، فَمَاذَا يُقَالُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَمَا انْطَبَعَتْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الْمَلَكَاتِ، وَمُرِّنَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَاتِ؟ نَرَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ يُخْفُونَ بَعْضَ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يُسْتَحَبُّ إِخْفَاؤُهَا كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُتَعَفِّفِ سَتْرًا عَلَيْهِ، وَمُبَالَغَةً فِي الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي يُنَافِيهِ الرِّيَاءُ وَحُبُّ السُّمْعَةِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَشْتَهِرُوا بِهَا، وَنَرَى بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ يُخْفُونَ بَعْضَ أَعْمَالِ النِّفَاقِ خَوْفًا مِنَ النَّاسِ لَا مِنَ اللهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَفْتَضِحُوا بِهَا. وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَوَامِّ: إِنَّ الَّذِي يَخْتَفِي هُوَ الَّذِي لَا يَقَعُ.وَالْآيَةُ تَهْدِينَا إِلَى أَنَّ مَرْضَاةَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ، الْمُقَرَّرَةِ صِفَاتُهُمْ فِي الْقُرْآنِ تَلِي مَرْضَاةَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ. وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: مَرُّوا بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَجَبَتْ» ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: «وَجَبَتْ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ» وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ تَكْرَارُ «وَجَبَتْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَكَذَا تَكْرَارُ «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ» وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي- أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ- عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ الْمَدِينِيِّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسُلَيْمَانُ الْمَدِينِيُّ عِنْدِي هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ سُفْيَانَ انْتَهَى. أَقُولُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَيُعْزَى الْحَدِيثُ إِلَى الطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» وَالْعُلَمَاءُ يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ بِمُوَافَقَتِهِ لِلْآيَاتِ وَالصِّحَاحِ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أُمَّةِ الْإِجَابَةِ وَأَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ، لَا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ» رَوَاهُ عَنْهُ أَحْمَدُ فِي السُّنَّةِ لَا فِي الْمُسْنَدِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَيَسْتَدِلُّ بِهِ الْجُهَّالُ حَتَّى مِنَ الْمُعَمَّمِينَ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْبِدَعِ الْفَاشِيَةِ حَتَّى فِي الْعَقَائِدِ الثَّابِتَةِ كَبِدَعِ الْقُبُورِ الَّتِي كَانَ يَلْعَنُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاعِلِيهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةِ إِلَيْهَا، وَإِيقَادِ السُّرُجِ وَالْمَصَابِيحِ عِنْدَهَا، بَلْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عِبَادَتُهَا بِالطَّوَافِ حَوْلَهَا، وَدُعَاءِ أَصْحَابِهَا وَالنَّذْرِ لَهُمْ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ، حَتَّى فِي الشَّدَائِدِ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ. بَلْ كَانُوا فِيهِ يُخْلِصُونَ الدُّعَاءَ لِلَّهِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.بَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ إِلَى مَا يَقْتَضِي الْإِحْسَانُ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ وَتَحَرِّي مَرْضَاتِهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ وَجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْخَيْرِ لِعِبَادِهِ بِهَا- ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا مِمَّا كَانَ مَشْهُودًا لِلنَّاسِ مِنْهُ، وَمَا كَانَ غَائِبًا عَنْ عِلْمِهِمْ مِنْهُ وَمِنْ نِيَّاتِكُمْ فِيهِ، يُنَبِّئُكُمْ بِهِ عِنْدَ الْحِسَابِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ، أَوْ سُوءِ الْعَذَابِ.{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.هَذِهِ الْآيَةُ عَطْفٌ عَلَى قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} (102) وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُتَخَلِّفِينَ مِنْهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَهُمْ أَكْثَرُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَقْسَامِهِمْ وَمَنِ اعْتَذَرَ وَمَنْ لَمْ يَعْتَذِرْ مِنْهُمْ وَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ قِسْمَانِ:(أَحَدُهُمَا): الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَتَابُوا وَزَكَّوْا تَوْبَتَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَطَلَبِ دُعَاءِ الرَّسُولِ وَاسْتِغْفَارِهِ فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ.و(ثَانِيهِمَا): الَّذِينَ حَارُوا فِي أَمْرِهِمْ وَلَمْ يَعْتَذِرُوا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، وَأَرْجَئُوا تَوْبَتَهُمْ فَأَرْجَأَ اللهُ الْحُكْمَ الْقَطْعِيَّ فِي أَمْرِهِمْ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي يَأْتِي بَيَانُهَا قَرِيبًا.قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ: وَهُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا: أَيْ عَنِ التَّوْبَةِ، وَهُمْ مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَعَدُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَعَدَ كَسَلًا وَمَيْلًا إِلَى الدَّعَةِ وَالْحَظِّ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ وَالظِّلَالِ لَا شَكًّا وَنِفَاقًا، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَطَائِفَةٌ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ فَنَزَلَتْ تَوْبَةُ أُولَئِكَ قَبْلَ تَوْبَةِ هَؤُلَاءِ، وَأُرْجِئَ هَؤُلَاءِ عَنِ التَّوْبَةِ حَتَّى نَزَلَتْ آيَتَا التَّوْبَةِ الْآتِيَتَيْنِ (117، 118) {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ} أَيْ وَثَمَّ أُنَاسٌ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ مُؤَخَّرُونَ لِحُكْمِ اللهِ فِي أَمْرِهِمْ، أَوْ لِأَمْرِهِ لِرَسُولِهِ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ {مُرْجَوْنَ} بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ لِلتَّخْفِيفِ، وَالْآخَرُونَ {مُرْجَئُونَ} بِالْهَمْزَةِ عَلَى الْأَصْلِ، فَهُوَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَرْجَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ رَجَاهُ يَرْجُوهُ وَأَرْجَأَهُ يُرْجِئُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا الْإِرْجَاءَ كَانَ يَوْمًا.{إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أَيْ أُبْهِمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاسِ، لَا يَدْرُونَ مَا يَنْزِلُ فِيهِمْ، هَلْ تَنْصَحُ تَوْبَتُهُمْ فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَابَ عَلَى الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أَمْ يَحْكُمَ بِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا حَكَمَ عَلَى الْخَالِفِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ؟ فَالتَّرْدِيدُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ لَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَحِكْمَةُ إِبْهَامِ أَمْرِ هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ إِثَارَةٌ لِلْهَمِّ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوبِهِمْ لِتَصِحَّ تَوْبَتُهُمْ. وَحِكْمَةُ إِبْهَامِهِ عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ تَرْكَهُمْ مُكَالَمَتَهُمْ وَمُخَالَطَتَهُمْ- تَرْبِيَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ عَلَى مَا يَجِبُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ الرَّاحَةَ وَنِعْمَةَ الْعَيْشِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَدَفْعِ عُدْوَانِ الْكُفَّارِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَةِ (118) {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عَلِيمٌ بِحَالِ عِبَادِهِ وَمَا يُرَبِّيهِمْ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُصْلِحُ حَالَ أَفْرَادِهِمْ وَمَجْمُوعِهِمْ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُهُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُفِيدَةِ لِهَذَا الصَّلَاحِ مَا عَمِلُوا بِهَا. وَمِنْ آثَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ إِرْجَاءُ النَّصِّ عَلَى تَوْبَتِهِمْ فِي كِتَابِهِ. وَمِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ تَكْرَارُ تَأْثِيرِ تِلَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْآيَاتِ فِي ذَلِكَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَرْهِيبًا وَتَخْوِيفًا، وَعِظَةً وَتَهْذِيبًا. اهـ.
اهـ.
|