الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي الآية وجوه:الأول: أن يُراد باليتامى الكبار الذين أونس منهم الرشد مجازًا، باعتبار ما كان، أوثر لقرب العهد بالصغر، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حينئذ، حتى كأنّ اسم اليتيم باق بعدُ، غير زائل.الثاني: أن يُراد بهم الكبار حقيقة، واردةً على أصل اللغة.الثالث: أن يُراد بهم الصغار، وبـ (الإيتاء) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة، لا دفعها إليهم، وفيه بُعْدٌ.الرابع: أن يُراد بهم ما ذكر.وبـ (إيتائهم) الأموال، أن لا يطمع فيها الأولياء، والأوصياء، وولاة السوء، وقضاته، ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة، فالتجوّز في الإيتاء حينئذ باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك.قال الناصر في [الانتصاف]: هذا الوجه قويّ بقوله بعد آيات: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتّى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: من الآية 6] دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم.والثانية: في الحض على الإيتاء الحقيقيّ عند حصول البلوغ والرشد.ويقويه أيضًا قوله عقيب الأولى: {وَلَا تَتَبَدّلُوا} إلخ، فهذا كله تأديب للوصيّ ما دام المال بيده واليتيم في حجره.وأما على الوجه الأول فيكون مؤدى الآيتين واحدًا وهو الأمر بالإيتاء حقيقة، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة، والثانية كالمبيّنة لشرط الإيتاء: من البلوغ وإيناس الرشد، والله أعلم.{وَلَا تَتَبَدّلُوا الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ} أي: ولا تستبدلوا الحرام، وهو مال اليتامى بالحلال وهو ما لكم، وما أبيح لكم من المكاسب، ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه.{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه، أي: لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم مخلوطة بها للتوسعة.{إِنّهُ} أي: الأكل: {كَانَ حُوبًا} أي: ذنبًا عظيمًا، وقرئ بفتح الحاء، وقوله تعالى: {كَبِيرًا} مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور، كأنه قيل من كبار الذنوب.تنبيه:خص من ذلك مقدار أجر الملل عند كون الوليّ فقيرًا لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمعْرُوفِ} كذا قاله البيضاويّ وتابعه أبو السعود.وعندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية لأنها في الغنيّ، لقوله: {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} فلا يشمل مساقها الفقير، وسنوضح ذلك.لطيفة:قال الزمخشريّ: فإن قلت: قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم، فلم ورد النهي عن أكله معها؟ قلت: لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال، وهم على ذلك يطمعون فيها، كان القبح أبلغ والذم أحق، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمّع بهم ليكون أزجر لهم. انتهى.قال الناصر في [الانتصاف]: أهل البيان يقولون: المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيهًا على الأعلى، كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} [الإسراء: من الآية 23]، وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفًا لها إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غنيّ عنه، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغنيّ عنه من طريق الأولى، وحينئذ فلابد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية.فنقول: أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته، ولا شك أن النهي عن الأدنى، وإن أفاد النهي عن الأعلى، إلا أن للنهي عن الأعلى أيضًا فائدة أخرى جليلة، لا تؤخذ من النهي عن الأدنى، وذلك أن المنهيّ كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد.ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل.فخصص بالنهي تشنيعًا على من يقع فيه، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الإحجام عن أكل ماله مطلقًا.ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر، إذ ليست الطباع في هذه الصورة مُعينة على الاجتناب، كإعانتها عليه في الصورة الأولى، ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل، مع أن تناول مال اليتيم على أي: وجه كان، منهيّ عنه، كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلًا، أو غير ذلك.إلا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل، وتعدّ البطنة من البهيمية، وتعيب على من اتخذها ديدنه، ولا كذلك سائر الملاذ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلًا أو غيره.ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عِمْرَان: من الآية 130]، فخص هذه الصورة لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون.ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيهًا على الأعلى، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب، ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ} [النساء: من الآية 8] الآية، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم، وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال، فلو أمر بإسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم، بخلاف ما إذا حضروا، فإن النفس يرقّ طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم، ولا يسعف ولا يساعد، فإذا أمرت في هذه الحالة بالإسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذي الرحم مطلقًا حضر أو غاب.فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يُلْقَى إلا في الكتاب العزيز، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط، فخذ هذا القانون عمدة، وهو: أن النهي، إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى، وإن خص الأعلى، فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقًا من الانكفاف عن الأقبح، ومثل هذا، النظر في جانب الأمر، والله الموفق. انتهى. اهـ.
|