الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَالْمَعْنَى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْجَاكُمُ اللهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ، أَوْ إِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ بِإِرْسَالِهِ تَعَالَى إِيَّانَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَبِمَا أَيَّدَنَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، حَالَ كَوْنِهِمْ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، بِجَعْلِكُمْ عَبِيدًا مُسَخَّرِينَ لِخِدْمَتِهِمْ كَالْبَهَائِمِ فَلَا يَعُدُّونَكُمْ مِنْهُمْ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ شَرَّ أَنْوَاعِهِ بِقوله: {يُقَتِّلُونَ} مَا يُوَلَدُ لَكُمْ مِنَ الذُّكُورِ، وَيَسْتَبْقُونَ نِسَاءَكُمْ بِتَرْكِ الْإِنَاثِ لَكُمْ لِتَزْدَادُوا ضَعْفًا بِكَثْرَتِهِنَّ- وَهَذَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ- وَفِي ذَلِكُمُ الْعَذَابِ وَالْإِنْجَاءِ مِنْهُ بِفَضْلِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ عَلَيْكُمْ، وَتَفْضِيلِهِ إِيَّاكُمْ عَلَى أُولَئِكَ الْغَالِينَ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى غَيْرِكُمْ كَسُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي سَتَرِثُونَهَا بَلَاءٌ عَظِيمٌ؛ أَيِ: اخْتِبَارٌ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمُ الْمُنْفَرِدِ بِتَرْبِيَتِكُمْ، وَتَدْبِيرِ أُمُورِكُمْ لَيْسَ وَرَاءَهُ بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ، فَإِنَّ أَجْدَرَ النَّاسِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْ أَحْدَاثِ الزَّمَانِ مَنْ يُعْطَى النِّعْمَةَ بَعْدَ النِّقْمَةِ، وَأَحَقَّ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ مَنْ يَرَى مِنْ آيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي الْآفَاقِ مَا يُوقِنُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً فِيهِ؛ أَيْ: فَكَيْفَ تَطْلُبُونَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مِمَّنْ رَأَيْتُمْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى يَدِهِ- وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا أَقَلُّ تَأْثِيرٍ- أَنْ يَجْعَلَ لَكُمْ إِلَهًا مِنْ أَخَسِّ الْمَخْلُوقَاتِ تَجْعَلُونَهُ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَيْهَا وَعَلَى عَابِدِيهَا وَمَنْ هُمْ أَرْقَى مِنْهُمْ؟!.وَقَدْ غَفَلَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ عَنْ كَوْنِ تَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ الْمُؤَيَّدَةِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، فَزَعَمَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ خِطَابِيٌّ، لَا بُرْهَانٌ عَقْلِيٌّ، وَاعْتَذَرَ عَنْ عَدَمِ احْتِجَاجِ مُوسَى بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْعَوَامِّ، وَهُوَ لَا يُنْكِرُ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي دَلَالَتِهَا، هَلْ هِيَ عَقْلِيَّةٌ أَوْ وَضْعِيَّةٌ؟ وَغَفَلَ أَيْضًا عَنْ كَوْنِ بُرِهَانِ التَّمَانُعِ إِنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ الْعِبَادَةِ فَقَطْ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ فِي هَذَا الألوسي فَقَالَ: وَفِي إِقَامَةِ بُرِهَانِ التَّمَانُعِ عَلَى الْوَثَنِيِّينَ الْقَائِلِينَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} (39: 3) وَالْمُجِيبِينَ إِذَا سُئِلُوا: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ يَخْلُقُهُنَّ اللهُ خَفَاءً، وَالظَّاهِرُ إِقَامَتُهُ عَلَى الْوَثَنِيِّةِ كَمَا لَا يَخْفَى.اهـ.وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَثَنِيَّةَ يَقُولُونَ بِوُجُودِ رَبَّيْنِ إِلَهَيْنِ اشْتَرَكَا فِي خَلْقِ الْعَالَمِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِهِ، أَحَدُهُمَا رَبُّ النُّورِ وَالْخَيْرِ، وَالثَّانِي رَبُّ الظُّلْمَةِ وَالشَّرِّ، وَيُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ خَالِقَانِ مُدَبِّرَانِ أَوْ أَكْثَرُ؛ لَامْتَنَعَ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ نِظَامٌ يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُهُ إِذَا فُرِضَ جَوَازُ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْمُدَبِّرِينَ لِأَمْرِ الشَّيْءِ كَتَعَدُّدِ الْخَالِقِينَ يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّدْبِيرُ وَالْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ، وَتَعَدُّدُهَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ وَالِاخْتِلَافَ فِيهَا، وَإِلَّا فَلَا تَعَدُّدَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا بِأَنْ يَتَعَلَّقَ بَعْضُهَا بِغَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْآخَرُ مِنْ ضِدٍّ وَنَقِيضٍ، وَأَيُّ فَسَادٍ فِي النِّظَامِ، وَمُوجِبٍ لِلِاخْتِلَالِ أَشَدُّ مِنْ هَذَا؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِذَا جَازَ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْبُرْهَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهَ لَفَسَدَتَا} (21: 22) قَدْ بُنِيَ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مَوْجُودَتَانِ وَالنِّظَامَ فِيهِمَا مُشَاهَدٌ بِالْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِقَامَةُ النِّظَامِ وَصَلَاحُ التَّدْبِيرِ الصَّادِرِ عَنْ عُلُومٍ وَإِرَادَاتِ قَدَرٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَعَارِضَةٍ، كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ صُدُورُ الْكَوْنِ نَفْسُهُ عَنْهَا بِالْأَوْلَى.وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبِلَ الْأَخِيرَةِ مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ أُعِيدَ لَفْظُ {قَالَ} فِي أَوَّلِهَا لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَيُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مَعَهُ مِنْ قَبِيلِ سَرْدِ الصِّفَاتِ أَوِ الْأَعْدَادِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْفَصْلُ أَيْ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} (9: 112) إِلَخْ. وَقَوْلُهُمْ: الْأَوَّلُ كَذَا- الثَّانِي كَذَا إِلَخْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا إِعَادَةُ {قَالَ} لِامْتِنَاعِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ كِلَيْهِمَا بِدُونِهِمَا، وَأَنْ تَكُونَ {قَالَ} مَفْصُولَةٌ لَا مَعْطُوفَةٌ لِإِفَادَةِ هَذَا الِاسْتِقْلَالِ فِي الْجَوَابِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَطْفِ الْقَوْلِ وَعَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ بِدُونِهِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَمَا حَقَّقَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ.وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي أَسَالِيبِ هَذِهِ اللُّغَةِ يَشْعُرُ بِأَنَّ الْبَدْءَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ هُنَا بِدُونِ قَالَ غَيْرُ مُسْتَعْذَبٍ وَلَا مُسْتَسَاغٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ سَبَبَ هَذَا وَنُكْتَتَهُ- بَحَثَ طُلَّابُ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ نُكْتَةِ هَذِهِ الْإِعَادَةِ فَلَمَحَ بَعْضُهُمْ مَا قَرَّرْنَاهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْهُ وَاضِحًا لِيُبَيِّنَهُ. قَالَ الألوسي: قِيلَ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ، وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ؛ وَلَعَلَّهُ لِذَلِكَ أُعِيدَ لَفْظُ قَالَ اهـ. فَنَقَلَ هَذِهِ النُّكْتَةَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ قِيلَ إِذْ كَانَتْ أَخْفَى عِنْدَهُ مِنْهَا عِنْدَ صَاحِبِهَا الَّذِي قَالَ: وَلَعَلَّهُ... فَلَمْ يَجْزِمْ- ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَبِي السُّعُودِ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ: هُوَ شُرُوعٌ فِي بَيَانِ شُئُونِ اللهِ تَعَالَى الْمُوجِبَةِ لِتَخْصِيصِ الْعِبَادَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مَا طَلَبُوا عِبَادَتَهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ طَلَبُهُ أَصْلًا، لِكَوْنِهِ هَالِكًا بَاطِلًا أَصْلًا، وَلِذَلِكَ وَسَّطَ بَيْنَهُمَا قَالَ مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَامَ مُوسَى عليه السلام اهـ. ثُمَّ نَقَلَ تَعْلِيلًا آخَرَ لِلشِّهَابِ وَهُوَ: أُعِيدَ لَفْظُ قَالَ مَعَ اتِّحَادِ مَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ؟ لِأَنَّ هَذَا دَلِيلٌ خِطَابِيٌّ بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِالتَّمَانُعِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّهُمْ عَوَامُّ. انْتَهَى.وَأَقُولُ: إِنَّ الْعِبَارَةَ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَسْلَمُ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْمُعْتَرِضَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى لَمْحِ مَا لَمَحَ صَاحِبُهَا، إِذْ لَوْ سَلَّمَ لِلْأَوَّلِ أَنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ شُئُونِ اللهِ إِلَخْ. وَلِلثَّانِي أَنَّهَا دَلِيلٌ خِطَابِيٌّ لَا بُرْهَانِيٌّ، لَمَّا كَانَ هَذَا وَلَا ذَاكَ مُقْتَضِيًا لِإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَوْقِعِهِ، وَامْتِنَاعِ كُلٍّ مِنْ فَصْلِهِ بِدُونِ الْقَوْلِ، وَوَصْلِهِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ، وَالْحَمْدُ لِمُلْهَمِ الصَّوَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ قَوْلِ الشَّبَابِ آنِفًا، وَضَعْفِ قَوْلِ أَبِي السُّعُودِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ. اهـ.
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} لأن بصائرهم مسدودة وعقولهم عن شهود الحق مصدودة {فأرسلنا عليهم الطوفان} العلم الكثير {والجراد} الواردات {والقمل} الإلهامات {والضفادع} الخواطر {والدم} أصناف المجاهدات والرياضيات {مفصلات} وقتًا بعد وقت وحينًا غب حين {فاستكبروا} عن قبولها والعمل بها {وكانوا قومًا مجرمين} في الأزل، فلهذا لم تفدهم الوسائط والأسباب {ولما وقع عليهم الرجز} وهو عذاب القطيعة {فأغرقناهم} في يم الدنيا وشهواتها {وما كانوا يعرشون} أي يرفعون بالتجبر والتكبر أنفسهم.يقال عرش الطائر إذا ارتفع بجناحيه على من تحته {وجاوزنا} بصفات القلب من بحر الدنيا وخلصناهم من فرعون النفس فوصلوا إلى صفات الروح. {يعكفون على أصنام لهم} من المعاني المعقولة والمعارف الروحانية فاستحسنوها وأرادوا العكوف على عتبة عالم الأرواح {قال لهم موسى} الوارد الرباني عند ركونهم إلى الروحانيات {إنكم قوم تجهلون} يعني صفات الروح {متبر ما هم فيه} من الركون والعكوف على استحلاء المعاني المعقولة {وباطل ما كانوا يعملون} في غير طلب الحق والوصول إلى المعارف الرباينة {وهو فضلكم على العالمين} من الحيوان والجن والملك بفضيلة العبور من الجسمانيات والروحانيات إلى الوصول إلى المعارف والحقائق الإلهية. اهـ.
|